في غزّة مجاعةٌ تلوح في الأفق المسدود؛ بساتين الزيتون أُحرقت، الثروة السمكيّة محاصَرة وقوارب الصيّادين مشلّعة، أما آخر أفران القطاع فبلا طحين.
في مطبخ «بيت مريم» في دبي، يُطهى الطعام على نارٍ هادئة، فالشيف سلام دقّاق تحبّ أن «تدلّل طبخها»، كما أوصتها والدتها مريم، ابنة بلدة ترشيحا الفلسطينية.
خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، غالباً ما امتزجت دموع الشيف سلام بمكوّنات الطعام. «إذا بطبخ بدمّع، إذا باكل بغصّ»، هكذا تواكب الطاهية الفلسطينية الأردنية الحربَ على غزة كما تروي لـ«الشرق الأوسط». لكنها في المقابل، تحاول الصمود «لأن غزة وفلسطين بحاجة لصوتنا أكثر من أي وقت».
مطبخ غزّة باقٍ رغم التجويع
تقول سلام دقّاق الحائزة نجمة «ميشلان» العالمية وعلى لقب أفضل طاهية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لعام 2022، إنها رغم الوجع، ستواصل تحضير الطعام الفلسطيني والكلام عنه على مسامع العالم.
قد يكون من الصعب التصديق أن غزّة الجائعة اليوم، اشتُهرت في وقتٍ مضى بموائدها العامرة وبأبواب بيوتها المشرّعة للزوّار. «أهل غزة مضيافين. ممنوع تطلعي من عندهم من غير ما تاكلي»، تروي سلام دقّاق.
وسط المأساة الحاصلة، يُخشى على تلك التقاليد وعلى تراث غزّة المطبخيّ من أن تُدفنَ هي الأخرى تحت الركام. لكنّ الشيف سلام تبدو واثقة من أنّ ذلك لن يحصل، وهي هنا لتشهد بأن المطبخ الفلسطيني باقٍ، رغم إتلاف الأراضي الزراعية، وإحراق شجر الزيتون، وتجويع الكبار والصغار.
لا تكتفي بقصة نجاح مطعمها المتواصلة منذ 7 سنوات، بل هي تحاول توظيفها في خدمة وطنها؛ «الطعام الفلسطيني قضيّة بحدّ ذاته، وبه نواجه أقوى ثقافات العالم. كما أنه رابطٌ روحيّ بين أهل البلاد أينما حلّوا، والآن أكثر من أي وقت نشعر بمتانة هذا الرابط». وما الالتفاف الفلسطيني والعربي حولها وحول «بيت مريم» في الآونة الأخيرة، سوى دليل على ذلك.
تؤمن الشيف سلام، ومثلُها طبّاخون فلسطينيون كثُر، بأنه ما دام هناك مَن يتحدّث عن مطبخ غزة ويحييه كلاماً وطهواً، فإنه لن يموت. وهي، إلى جانب تنظيمها أسبوعاً من الطهو ذهب ريع مبيعاته كاملاً إلى أهل غزّة، تحرص على أن تُضمّن قائمة أطباقها اليوميّة مأكولاتٍ غزّاويّة تقليديّة.
لا تخشى على هذا الإرث من الاندثار بفعل الحرب، بقدر خشيتها عليه من السرقة بفعل تشويه الهويّة الفلسطينية. «فالعدوّ ينسب إليه الكثير من الأطباق الفلسطينية ويغيّر معالمها. لذلك أنا مصرّة على الحفاظ عليه والكلام عنه».
السمّاقيّة والرمّانيّة
منذ اندلاع الحرب، امتنعت، وهي الناشطة جداً على وسائل التواصل الاجتماعي، عن نشر أي محتوى له علاقة بالطعام. إلا أنها كسرت صمتها هذا لتشارك متابعيها وصفتَي «فطاير الزعتر» و«السمّاقيّة»، في تحيّة منها إلى غزة. تفصّل مكوّنات هذا الطبق الغزّاويّ فتعدّد اللحم، والسلق، والسمّاق مطحوناً ومعصوراً، وزيت الزيتون، والبصل، والثوم، والفلفل الحارّ، والطحين، والحمّص، والطحينة الحمراء. ثم توضح دقّاق أن هذا الطبق يُطبخ في قِدر كبيرة ويوزَّع على أهل الحارة جميعاً في الأفراح، «فأهل غزّة معروفون بمطبخهم الكريم والشعبيّ».
من بين الأطباق الغزّاويّة المعروفة، «الرمّانيّة» التي اعتاد أهل القطاع أن يحضّروها خلال موسم الرمّان. فيها إلى جانب الرمّان حَباً وعصيراً، العدس، والطحينة، والباذنجان، والثوم، والفلفل الحارّ.
تُضاف إلى لائحة الطعام الغزاويّ التقليدي، «القدرة» وهي طبق مكوّن من اللحم والأرزّ المطبوخَين مع السمن وأصناف متنوّعة من البهارات. ومن الأكلات المعروفة كذلك، «الزبديّة الغزّاويّة»، وهي عبارة عن طبق من الفخّار يُقدّم فيه القريدس (الجمبري) المطبوخ مع زيت الزيتون، والثوم، والفلفل الحارّ، والطماطم. أما في أيام الشتاء القارس، فاعتاد الغزّيون أن يعدّوا «فخّارة العدس»، وهو العدس المطبوخ على نار هادئة، والمُطيَّب بالفلفل الأحمر، والشبت (الشمرة)، والثوم، والكمّون.
وكما تشير أسماء الأطباق، فإنّ الأواني التي تُطهى وتقدَّم فيها مصنوعة من طين غزّة وتراب أرضها، كالقِدرة والفخّارة والزبديّة.
جارة مصر والبحر
تشرح الشيف سلام دقّاق أن مطبخ غزّة متأثّر بموقعها الجغرافي المحاذي لمصر، وهذا ما يفسّر النكهة المصريّة الحاضرة بقوّة في الأطباق الغزّاويّة، كالفلفل الحارّ (الشطّة)، والطماطم، والشبت، والثوم المقلي. وتضيف أن اللحم عنصر أساسيّ في المطبخ الغزّاوي، وكذلك السمك بما أن غزّة جارة البحر ومعظم أهلها صيّادون. أما البصمة الخاصة فهي الطحينة الحمراء المصنوعة من حبوب السمسم المحمّصة على النار. ولزيت الزيتون خصوصيّته كذلك، إذ يحلف الغزّيّون باسمِه، مثلهم مثل سائر أهل فلسطين ولبنان والأردن.
بين الشيف سلام وزيت الزيتون حكاية، فهي تكشف أنها تستعمله بديلاً عن الكريمات فتدهن وجهها ويدَيها به. تسافر بها رائحته إلى «البلاد» التي لم تزُرها منذ أكثر من سنة. «صحيح أن إقامتي لم تكن في فلسطين، بل بين الأردن والسعودية والإمارات، لكني أحرص على زيارتها دَورياً. وبناءً على وصيّة أمّي، أول محطة لي هناك تكون دائماً قريتنا ترشيحا».
الشيف سلام دقّاق التي انتقل إليها الشغف بالطبخ من والدتها مريم في سن الـ11، حقّقت حلمها منذ 7 سنوات وافتتحت المطعم إحياءً لذكراها وتحيّةً لروحها. تتحدّث عن «بيت مريم» قائلةً: «لم يكن هدفي الربح المادي، بل أردتُ مكاناً يشبهني في الغربة».
أما زوّار المكان فلا يجدون فيه صحناً ساخناً من الطعام فحسب، بل حضناً دافئاً يذكّرهم بأحضان أمّهاتهم. «كل حدا مشتاق لأهلو لمّا ييجي لهون بيحسّ بالأمان والألفة»، تقول سلام. هي كذلك وجدت في «بيت مريم» وطنها البديل، بعيداً عن وطنٍ شحّت في قطاعه المدمّر آخر قطرات زيت الزيتون، واختنق السمك في بحره، ودخلت مواسم الرمّان والسمّاق فيه حداداً طويلاً.