أودية الرياض تزهو بأنوار الفن

تحتضن أعمال فنانين عرب وأجانب ضمن عروض احتفال «نور الرياض»

أيمن يسري ديدبان (نور الرياض)
أيمن يسري ديدبان (نور الرياض)
TT

أودية الرياض تزهو بأنوار الفن

أيمن يسري ديدبان (نور الرياض)
أيمن يسري ديدبان (نور الرياض)

النور بألوانه وانعكاساته وبريقه وخفوته يتجلى في احتفال «نور الرياض»، أضخم معرض فنون ضوئية في العالم، وقد انطلق الأسبوع الماضي في العاصمة السعودية. الاحتفال في أيامه الأولى نجح في جذب الزوار لمختلف المناطق التي تحتضن أعمال فنانين من السعودية والعالم، ولكن هل يمكن تخيل ما الذي يعنيه ذلك الاحتفال الذي دخل عامه الثالث بهذه الدورة؟ مبدئياً يمكن القول بأن الأثر الجمالي البصري واضح جدًا خصوصاً في الأماكن المفتوحة، في الأودية، وفي الحديقة العامة، وعلى الجدران الشاهقة لبنايات مركز الملك عبد الله المالي «كافد». مجهود جبار في التنظيم والتنسيق والتنفيذ لاقى استجابة من الجمهور من المختصين، ومن سكان الرياض وزوارها، ورغم قصر فترة الحدث (من 30 نوفمبر (تشرين الأول) - 16 ديسمبر (كانون الأول))، لكنْ للنشاط القصير المكثف حلاوته وألقه الخاصان. خلال زيارة فعاليات «نور الرياض» سنحت لي الفرصة لزيارة المواقع الخمسة التي تركز فيها النشاط الضوئي، من تلك المواقع اخترت لكم وادي نمار ووادي حنيفة، لنطلق منهما رحلتنا مع نور الرياض.

وادي نمار... الطبيعة في حوار مع الفن الضوئي

وديان الرياض محطات للاستجمام والتنزه، على رمالها تجلس العائلات يتناول أفرادها الشاي أو الوجبات، بينما يلهو الأطفال على مقربة، اعتاد أهل العاصمة الخروج للوديان للتنزه، وهو تقليد عريق ممتد لا يزال يثير البهجة والاسترخاء. في وادي نمار تتباعد الأعمال عن بعضها، ومن ثم فاستقلال العربات الصغيرة هو الحل الأمثل لمطالعة الأعمال المختلفة مع التوقف عند اللائحة التعريفية لكل عمل الموضوعة قريباً منه ليتمكن الزائر من الحصول على المعلومات الأساسية.

الشلال المتراجع

نمر عبر الطرقات المتعرجة لنستكشف الأعمال الفنية التي توزعت على طول الوادي، بعضها اتخذ من الجبال شاشات للعرض، مثال عمل الفنانة البولندية أنجيلكا ماركول «منطقة إيغوازو»، 2013، الذي يصور شلالاً مائياً عملاقاً يقع بين حدود مقاطعة ميسيونس الأرجنتينية وولاية بارانا البرازيلية في منطقة شلالات إيغوازو، وفق رؤية الفنانة تنحسر المياه إلى الجرف كما لو أنها تعود بالزمن، مشيرة إلى ثيمة الفنانة المتكررة عن مرور الزمن وانعكاسه. العمل مسقط ضوئياً على الجبال الضخمة المحاذية للماء في وادي نمار، ويوفر مساحة للتأمل والمتعة البصرية.

رؤى

تتوقف بنا العربة لنستطيع الاقتراب من عمل الفنان السعودي سلطان بن فهد «رؤى 2023» الذي يبدو مبنى صغيراً من الخرسانة، لا يمكننا الدخول له، ولكننا نستطيع رؤية ما بداخله عبر نافذة زجاجية عريضة، وأخرى أصغر أسفل منها، ويظهر من خلال النافذة مزيج بديع من الألوان التي تندمج معاً دون شكل محدد، ولكنها جاذبة، وتتميز بجمال بصري أخاذ، وهو أسلوب مميز لأعمال الفنان عموماً، فالألوان عنده براقة حية ومستمدة من التراث المحلي.

لا يزال من هنا

الهوية المحلية تتجلى أيضاً في عمل «فاي استوديو» للفنانين سعيد جبعان وحاتم الأحمد. نتوقف أمام دائرة في الأرض ملونة بضوء أحمر، تجذب الزوار للوقوف عليها والعبث بالرمال داخل الدائرة لتتكون أشكال مختلفة، تصبح كاللعبة الغامرة الممتعة، وينغمس كل شخص داخل الدائرة في الرسم بالقدمين محركاً الرمال في أشكال مختلفة، العمل يحمل عنوان «لا يزال من هنا 2023» ووفق بيان العرض فهو يتأمل في المعرفة التي طورها البدو الرحل لتحديد الطرق وسبل الأمان في البيئة الصحراوية.

«فاي استوديو» للفنانين سعيد جبعان وحاتم الأحمد (نور الرياض)

رحلة عبر تموجات الرمال

الفنانة السعودية هناء الملي تقف إلى جانب عملها التركيبي «رحلة عبر تموجات الرمال»، الذي يبدو غرفة دائرية بيضاء مضيئة، وبالدخول للتركيب نجد أنفسنا داخل طبقات من النسيج الناصع الذي يكوّن حلقة متعددة الطبقات حول الزائر وكأنه شرنقة. ترى الفنانة أنها تمثل الاحتضان، وتقول لـ«الشرق الأوسط» إنها تبحث دائماً عن تأكيد هويتها فهي نشأت في السعودية من أم سعودية بأصول سورية ووالدها سعودي من أصول تركية وكردية: «أحاول أن أعرف من أنا، سافرت لأميركا للدراسة، وهناك عايشت مفهوم الغربة والحنين للوطن، حاولت فهم مصدر هذا الإحساس. «عملها هنا محاولة للفهم استخدمت فيه ممارساتها بوصفها فنانة تعمل في النسيج والأصباغ الطبيعية، ومزجت فيه نسيج السدو التراثي، الأقمشة المعلقة أمامنا تتمايل مع نسيم الليل بحركة متكررة تعكس الإحساس بالغربة، والتعافي من تلك المشاعر أيضاً. تضيف: «هنا أستخدم الضوء للمرة الأولى» وأيضاً تستخدم الفنانة الشعر، فخلال وجودنا داخل العمل نستمع لكلماتها: «مع كل قطعة أقوم بها، أكتب قصيدة لها بالفعل. لذلك، حتى يتمكن الناس من فهم شعور الشوق والشعور بالغربة. هذه القطعة هي نوع من خاتمة هذا الاغتراب. والقصيدة تقول ذلك أيضاً».

«رحلة عبر تموجات الرمال» للفنانة هناء الملي (نور الرياض)

النجم الساقط

من الأعمال المعروضة هنا أيضاً عمل للفنان عبد الله العمودي «ابحث عني وسوف تجدني» يبدو كأنه نجم مشتعل سقط على الأرض، النجم هنا هو نجم «سهيل» الذي يتخذ مكاناً بهياً في الفلكلور الخاص بشبه الجزيرة العربية يظهر في الأشعار والأغاني والعلوم. عمل العمودي هنا يبتكر قصة جديدة للنجم «سهيل» لكن على الأرض هذه المرة عبر ضوئه الأحمر المشع نستكشف بعضنا. يقول العمودي لـ«الشرق الأوسط»: «هنا تخيلت أن سهيل قد هبط للأرض، وأصبح علينا أن نجده، ونرشده نحن».

«ابحث عني وسوف تجدني» للفنان عبد الله العمودي (نور الرياض)

النفق

يتحدث عمل الفنان سليمان السالم عن موقع محدد مر خلاله كثيراً في مدينة مكة المكرمة، وهو النفق المعروف باسم «المسخوطة» الذي يعد أطول أنفاق جبال مكة المؤدية إلى الحرم. يقول السالم لـ«الشرق الأوسط» إن العبور عبر النفق يثير شعور الترقب، فالمار خلاله يشعر بأنه بلا نهاية. ومن هنا يأتي الفيديو المصاحب للعمل متميزاً بلمسة لا نهائية تأملية. يتخذ العمل من فتحة مدخل سد وادي نمار مكاناً للعرض، ما يمنحه تأثيراً خداعياً إضافةً إلى سياق مناسب؛ فحتى وقد عُدِّل الفيديو بطريقة تحذف كل شيء ما عدا أضواء النيون الساطعة في النفق. عبر العمل يتحول النفق المعروف في مكة إلى آخر «افتراضي غير واضح المعالم»، كما يشير خلال حديثه معي، ويقول إنه يتعامل من خلال أعماله مع المعالم والأشياء التي تعد مألوفة، ولا تثير الدهشة ليغير من المشاعر البسيطة اليومية التي نشعر بها في يومنا لتختزل في العمل لتصبح مركزة وحادة».

«النفق» للفنان سليمان السالم (نور الرياض)

بتوقيت الأرض

يتخذ عمل الفنانة الأميركية جانيت إيشلمان «بتوقيت الأرض 1.26 الرياض» مساحة ضخمة في وادي نمار، يبدو كمظلة مقلوبة شاسعة المدى متلونة بألوان مرحة، تمنح المساحة للتأمل والتمعن في الضوء واللون، تحت العمل يجلس الزوار على وسائد محلية تراثية، ينيرهم العمل بضوئه، ويشد بأبصارهم للأعلى، وكأنما يسلط الضوء على العلاقات بين البشر وبينهم وبين الأرض من ناحية أخرى.

وادي حنيفة الأشجار والماء

في وادي حنيفة تطل علينا مجموعة أخرى من الأعمال الباهرة، يختلف وادي حنيفة عن وادي نمار من حيث مساحات العرض، ومن حيث بعد الأعمال عن بعضها وأيضاً في سهولة الوصول لها. في جانب من الوادي تجلس العائلات على العشب يتناولون الشاي، ويتسامرون وخلفهم شاشة ضخمة تعرض المناظر الطبيعية، في تلك اللحظة تتبدى عبقرية استخدام الوادي كمكان لعرض الأعمال الفنية التي تنسجم مع الزوار، وتصبح جانباً أساسياً من نزهتهم وحواراتهم، وتدخل التعبيرات الفنية إلى داخل المجتمع بكل رقي وجمال.

أيمن يسري وبيت الشجرة

يبدو مثل بيت خشبي مزخرف من بعيد، عمل جاذب يصبح هو الضوء الذي نتجه إليه، نسير على الرمال، وعلى الحصى عابرين ممرات ترابية لنصل للبيت الخشبي. العمل التركيبي الخاص من دون أبواب أو نوافذ هو عبارة جدران وسقف من الخشب يحمل فراغات محفورة يدلف منها الضوء ليكون أشكالاً متنوعة على الأرض الرملية. يجذب العمل الزوار بجمالية عالية وحس الطفولة، هل يمكن أن نعده بيت الشجرة الذي حلمنا بالصعود إليه صغاراً؟ ربما يكون ذلك، لكن تجربة الدخول لذلك الكيان ومراقبة انعكاسات الضوء على ملابسنا، وعلى الوجوه وأيضاً على الأرض تجربة بصرية باهرة في حد ذاتها. الفنان يقف على مقربة من العمل يبتسم بهدوئه المعتاد، ويقول لـ«الشرق الأوسط» مشيراً للعمل: «هو مظلة تأخذ فكرتها من ظلال الشجر، حيث يصبح الهدف هو الظل نفسه». التعبير الفني للمجسم هنا لا يقدم بالضوء، ولكن بالظل، وفق ما يشرح لنا الفنان: «الفراغات الموجودة هي مثل قطع (بازل) الألغاز الخشبية، هنا الألغاز لا تخرج لنا قطعاً محددة المعالم مثل الألغاز الخشبية التي كنا نلعب بها في الطفولة لتكوين أشكال محددة على سبيل المثال الديناصور. ولكن الناتج هنا هو أشكال عشوائية «وهذا هو المقصود».

«الحياة» للفنانة زهرة الغامدي (نور الرياض)

المياه العميقة والحياة

من الأعمال التي نراها في وادي حنيفة عبر الشاشات الضخمة عمل الفنانة سارة أبو عبد الله، ويحمل اسم «المياه العميقة»، وتجري أحداث الشريط المرئي داخل الوادي، وفي الفيديو، تلعب الأرض نفسها دور البطولة متضمنة حشراتها وحيواناتها، وقد تظهر لنا قاسية وجرداء، ولكنها في الواقع مليئة بالحياة والشعر. للفنانة السعودية زهراء الغامدي عمل هنا أيضاً نجده متجسداً على الأرض مستظلاً بشجريتين متعانقتين، يحمل عنوان «الحياة» تتأمل من خلاله الفنانة الصحراء مستمدة إلهامها منها، ومن تغيرها المستمر. ننظر إلى العمل، ونحار في ماهية الكيانات المضيئة أمامنا المنسقة على نحو بديع، نعرف من البيان المرفق أن العمل يمزج «المواد الاصطناعية مثل البلاستيك مع المواد الطبيعية، ويُنشئ سطحاً مشقوقاً دامجاً المواد المُستخدمة معاً بالحرارة يسمح بمرور الضوء من خلال فتحاته العديدة التي تسمح للضوء الذهبي بأن يشق طريقه ليكون مرئياً».

الأعمال المعروضة في الواديين كثيرة وباهرة، ولا يمكن إيفاؤها حقها إلا برؤيتها والنصيحة هنا بزيارة مواقع عروض نور الرياض؛ فليس من سمع كمن رأى.


مقالات ذات صلة

الدراما الإنسانية تستهوي مخرجات عربيات في تجاربهن الأولى

يوميات الشرق صانعات الأفلام خلال حضورهن عروض أفلامهن في مهرجان البحر الأحمر (نتفليكس)

الدراما الإنسانية تستهوي مخرجات عربيات في تجاربهن الأولى

خمسة أفلام قصيرة أنجزتها مجموعة من المخرجات العربيات الشابات في تجاربهن الأولى، راهنّ خلالها على القصص الإنسانية.

أحمد عدلي (جدة )
يوميات الشرق الممثل البريطاني خلال حضوره في مهرجان البحر الأحمر (إدارة المهرجان)

نيكولاس هولت: أطمح في تقديم عمل سينمائي حول سباقات السيارات

شهدت الجلسة التي استضاف فيها مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» في جدة الممثل البريطاني نيكولاس هولت حديثاً مفتوحاً كشف عن جانب من مرحلة جديدة يمر بها في مسيرته.

أحمد عدلي (جدة)
يوميات الشرق الأسرة مجتمعةً لمُشاهدة إحدى المباريات ضمن أحداث الفيلم (إدارة المهرجان)

أبو بكر شوقي يعود بفيلم يتتبَّع مصر من الهزيمة إلى التحوّلات الكبرى

يُعرض الفيلم في مسابقة «البحر الأحمر» للأفلام الطويلة...

انتصار دردير (جدة)
يوميات الشرق أمير المصري (البحر الأحمر السينمائي)

أمير المصري… ممثلٌ يعبر الجسد والهوية من حلبة الملاكمة إلى مفاتيح البيانو

لم يكن اختيار فيلم «العملاق» لافتتاح الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي حدثاً احتفالياً فحسب، بل كان إعلاناً عن مسار فني يتقاطع فيه الجسد بالهوية.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق محمد نور وفريق عمل الفيلم على السجادة الحمراء في العرض الخاص

«نور» ... أسطورة الاتحاد تكتب فصولها بلغة السينما

لم يكن دخوله إلى قاعة السينما دخول نجمٍ يشاهد فيلماً عن نفسه، بل دخول أسطورة إلى مساحة أخرى من التأثير.

أسماء الغابري (جدة)

الكشري المصري يدخل القائمة التمثيلية للتراث غير المادي لـ«اليونيسكو»

صورة لملصق دعائي لطبق الكشري كما أعلنت عنه وزارة الثقافة المصرية
صورة لملصق دعائي لطبق الكشري كما أعلنت عنه وزارة الثقافة المصرية
TT

الكشري المصري يدخل القائمة التمثيلية للتراث غير المادي لـ«اليونيسكو»

صورة لملصق دعائي لطبق الكشري كما أعلنت عنه وزارة الثقافة المصرية
صورة لملصق دعائي لطبق الكشري كما أعلنت عنه وزارة الثقافة المصرية

أعلنت وزارة الثقافة المصرية اليوم (الأربعاء)، أنها نجحت في إدراج أكلة الكشري في القائمة التمثيلية للتراث غير المادي للإنسانية لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو).

وأضافت الوزارة في بيان، أن الكشري أصبح «العنصر الحادي عشر المسجل باسم مصر على قوائم التراث غير المادي» بعد اعتماده من اللجنة الحكومية للتراث المادي التي تعقد اجتماعاتها حالياً في الهند.

والكشري أكلة شعبية مصرية شهيرة تتكون من المعكرونة والأرز والعدس والبصل المقليّ والحمص، وتضاف إليها الصلصة. وهناك محال متخصصة وعربات طعام في الشوارع تبيعها بأسعار رخيصة.

الوفد المصري أمام اللجنة الحكومية للتراث غير المادي التابع لـ«اليونيسكو» (صفحة وزارة الثقافة المصرية الرسمية على «فيسبوك»)

ويحظى الكشري بشعبية واسعة لا تقتصر على المصريين، إذ يحرص مسؤولون أجانب ووزراء خارجية خلال زياراتهم لمصر على تذوقه في المطاعم الشهيرة، بوصفه جزءاً أصيلاً من الثقافة المحلية.

وقال وزير الثقافة أحمد فؤاد هنو إن «الكشري أول أكلة مصرية يتم تسجيلها»، مضيفاً أن السنوات القادمة ستشهد تسجيل «مزيد من العناصر المرتبطة بممارسات اجتماعية وثقافية تتوارثها الأجيال وتعبر عن روح المشاركة والتنوع داخل المجتمع المصري»، وفق ما أفادت به وكالة «رويترز»، اليوم.

وسبق لمصر إدراج عناصر في قائمة التراث غير المادي لـ«اليونيسكو» من بينها التحطيب «لعبة العصا»، والأراجوز، والنسيج اليدوي إضافةً إلى عناصر مشتركة مع دول أخرى منها السمسمية والخط العربي.


«ما بين بين» لجنى بو مطر... خسارات عالقة بين المبهم والمحسوس

تُعرض المسرحية ابتداء من 18 الحالي (مسرح زقاق)
تُعرض المسرحية ابتداء من 18 الحالي (مسرح زقاق)
TT

«ما بين بين» لجنى بو مطر... خسارات عالقة بين المبهم والمحسوس

تُعرض المسرحية ابتداء من 18 الحالي (مسرح زقاق)
تُعرض المسرحية ابتداء من 18 الحالي (مسرح زقاق)

تضع المخرجة جنى بو مطر خسارات اللبنانيين تحت المجهر من خلال مسرحية «ما بين بين». وتستعين بالخشبة لتقديمها في قالب مسرحي يستند إلى نصّ يترك كثيراً من علامات الاستفهام.

تستوحي بو مطر حكاية عملها من «أنتيغون» لسوفوكليس، تلك التي تمرَّدت على قرار الحاكم حين حُرمت من دفن شقيقها المقتول. وإنما بطلة «ما بين بين» لا تملك حتى الجثة لتواريها في الثرى. فخساراتها غير ملموسة، عصيّة على القياس والتقدير. وبين زمن الحداد وموعد الجنازة، تقف عاجزة عن لملمة هذه الخسارات أو دفنها، كأنها تبحث عن شكل لجنازة لا تعرف لها جسداً.

يلعب بطولة مسرحية «ما بين بين» طارق يعقوب وريم مروّة (مسرح زقاق)

يلعب بطولة المسرحية طارق يعقوب وريم مروّة، وهي من تأليف جنى بو مطر وإخراجها. وتوضح لـ«الشرق الأوسط»: «تحمل تساؤلات كثيرة. وتتمحور فكرتها الأساسية حول نصّ يتناول الحداد الطويل الذي نختبره إثر تعرّضنا للخسارة. حدادٌ يبقى معلّقاً بين الفكر والجسد، فلا نعرف كيف نعبّر عن حزننا، ولا كيف نصغي إلى أجسادنا المُتعبة ونحاكي آلامها». وتتابع: «طبيعة خساراتنا بلا مادة محسوسة. فكما هي الحال مع الأزمة الاقتصادية وانفجار المرفأ والحرب في الجنوب، لم نستطع حتى اليوم تفسير ما أصابنا. ومن هنا يبرز السؤال الكبير: كيف يمكننا التخلُّص من أثر هذه الخسارات علينا، والتخفيف من ثقلها الذي لا يُرى ولكنه ينهكنا؟».

وبعبارة مُختصرة، تشير جنى بو مطر إلى فحوى مسرحيتها: «الحب لا يقوم على أن ننظر إلى بعضنا ونهتمّ ببعضنا فحسب، بل أن ننظر معاً في الاتجاه نفسه»، مضيفةً: «هذا الشعور بالخسارة يولّد فجوة كبيرة في أعماقنا. ونحاول في المسرحية اكتشافها ووضع إصبعنا عليها».

تضع «ما بين بين» خسارات اللبنانيين تحت المجهر (مسرح زقاق)

تحكي المسرحية قصة ممثلَيْن، رجل وامرأة، كانا يستعدّان لافتتاح عرضهما المسرحي «أنتيغون». لكنّ حريقاً مفاجئاً يندلع ويقضي على خشبة آخر المسارح المتبقّية في المدينة. يجدان نفسيهما أمام عرض لم يولد. يقفان إزاءه يداً بيد مثل متفرّجَيْن على خسارتهما. ويشاركهما الجمهور هذا المشهد الحزين، قبل الحريق وبعده.

وبين النصّ والإحساس والذنب واللوم، وبين الحياة والموت، تتفكّك أحداث العمل. يقف بطلا المسرحية في مدينة ما بعد الحرب، وفي حاضر يعجزان عن عيشه أو حتى الحداد عليه. وتعلّق جنى بو مطر: «نعيش قدراً هائلاً من اللامساواة واللاعدالة، فنشعر بالظلم والتشرذم. نقف حائرين أمام فظاعة هذه المشهدية. وينعكس ذلك في علاقة الحبيبَيْن في المسرحية، التي تبدو شبه مستحيلة. فجوهر الحبّ يقوم على التطلّع نحو الغد، فيما هما ينظران إلى مستقبل يتداعى أمامهما. فماذا يعني أن يحترق المسرح في اللحظة نفسها التي كان يفترض فيها أن يولد العرض؟».

وتستحضر أيضاً أزمة المسارح في لبنان: «المسارح قليلة، وغير متاحة بالعدد الذي يسمح باستمرارية هذا الإنتاج. وهو ما يدفعنا، رغماً عنّا، إلى تغيير مساراتنا. فنجد أنفسنا معلّقين بين أحلامنا وواقعنا. نستعدّ ونتحضّر، لكن عند لحظة التنفيذ تختلط الأمور وتتلاشى في الهواء».

وعن سبب اختيارها طارق يعقوب وريم مروّة لبطولة العمل، توضح: «الاثنان ممثلان محترفان، يتفاعلان بسرعة مع حيثيات النص ومفهومه. وهو ما يقدّره كلّ مخرج وكاتب في علاقته مع الممثل. يتعاملان مع المشروع بجدّية كاملة، ويتبنّيانه كأنه عملهما الخاص. ويعملان على ابتكار لغة إبداعية خاصة، عبر أدائهما المتقن والممتع».

وتشير جنى بو مطر إلى أنّ العرض يتطلّب مجهوداً أدائياً من ناحية التمثيل والصوت، وبطلا العمل يمتلكان هذه القدرات، مما أسهم في تغليف المسرحية بالعناصر الفنية الحقيقية.

تُعرض المسرحية ابتداء من 18 الحالي (مسرح زقاق)

يبدأ عرض المسرحية في 18 ديسمبر (كانون الأول) الحالي على خشبة مسرح «زقاق» في بيروت، ويستمرّ حتى 21 منه. تستغرق نحو 55 دقيقة، تتخلّلها سينوغرافيا من توقيع زهير بو مطر تنسجم تماماً مع موضوع العمل. وتقول المخرجة: «نقدّمها بأسلوب جديد، بحيث تلعب السينوغرافيا دوراً أساسياً فيها. ونرى كيف يتغيّر الزمن مباشرة على الخشبة، من دون الإشارة الواضحة إلى ما قبل حريق المسرح وما بعده. فهذه التحوّلات الزمنية غالباً ما تُنفّذ في الأفلام عبر تقنية (الفلاش باك). أمّا على المسرح، فلها أسلوب إخراجي جديد ومختلف».

وتعدّ جنى بو مطر استحداث هذا الابتكار على الخشبة تحدّياً جديداً تخوضه للمرة الأولى. وتُعلّق: «كان بإمكاننا تقديم العمل في إطار كلاسيكي واضح، نشير فيه إلى أحداثه كما هي. لكنني وجدت في اعتماد هذه الطريقة أسلوباً يخلق التفاعل مع الجمهور، إذ يجري التغيير في المكان والزمان معاً».


كيف أطاح «الطلاق الرمادي» بنظريّة «حتى يفرّقنا الموت»

TT

كيف أطاح «الطلاق الرمادي» بنظريّة «حتى يفرّقنا الموت»

يطال الطلاق الرمادي الأزواج الذين تخطّوا سن الـ50 (بكسلز)
يطال الطلاق الرمادي الأزواج الذين تخطّوا سن الـ50 (بكسلز)

«الطلاق الرمادي» أو «الانفصال الفضّي». تعدّدت التسميات والواقع واحد. مزيدٌ من الأزواج الذين غزا الشَيبُ رؤوسَهم، يتّجهون إلى الطلاق بعد سنواتٍ وعقودٍ من الزواج، في ظاهرةٍ يردّها الخبراء إلى عوامل اجتماعية، واقتصادية ونفسية.

في الـ56 من عمره، انفصل أنتوني ألبانيز عن زوجته بعد ارتباط استمر 20 عاماً. وقبل أيام، عاد ليخوض تجربة الزواج مرة ثانية في الـ62 وبشَعرٍ أبيض. أثار هذا الخبر فضول الملايين حول العالم، لا سيما أن ألبانيز هو رئيس حكومة أستراليا وزوجته الجديدة هي الناشطة السياسية جودي هايدون (47 سنة). وقد حضر الزفاف ابنه البالغ 19 عاماً.

رئيس وزراء أستراليا تزوج للمرة الثانية في سن الـ62 (إ.ب.أ)

طلاق في الـ65

وفق دراسة نشرتها «مجلّة علم الشيخوخة» الأميركية، فإنّ نسبة الطلاق الرمادي قد تضاعفت خلال العقود الـ3 الماضية حول العالم، مع ازديادٍ واضح بين الأزواج الذين تجاوزوا الـ65 من العمر. وفيما كانت تلك الظاهرة غير شائعة خلال سبعينيات القرن الماضي، هي شهدت تصاعداً بنسبة 8.7 في المائة خلال التسعينيات لتبلغ نسبة الانفصال الفضّي 36 في المائة مع حلول عام 2019.

في المقابل، ازداد الزواج المتأخر رواجاً، فما عاد خارجاً عن المألوف أن يخوض الناس التجربة في سن الـ50، والـ60، وحتى الـ70.

يشهد الزواج المتأخر رواجاً لدى من تخطّوا الـ50 والـ60 من العمر (بكسلز)

ما هو الطلاق الرمادي؟

يحصل الطلاق الرمادي عندما يقرر كل شخص متزوّج تخطّى الـ50 من العمر أن ينفصل عن شريكه بعد زيجاتٍ استمرت سنواتٍ وعقوداً. وترمز التسمية إلى المَشيب، أو الشَعر الرمادي والأبيض الذي يبدأ بالظهور في هذه السنّ.

يشير «مركز بيو للدراسات» إلى أنّ أكثر من ثلث حالات الطلاق حالياً هي من الفئة العمرية التي تجاوزت الـ50، ويضيف البحث أنّ النساء اللواتي يبادرن إلى خطوة كهذه في ازديادٍ ملحوظ. ووفق الإحصائيات، فإنّ 34 في المائة ممّن يختارون الطلاق الرمادي كانوا في زيجات استمرت أكثر من 30 سنة.

في الـ58 من العمر أعلنت الممثلة نيكول كيدمان انفصالها عن زوجها المغنّي كيث أوربان بعد 19 سنة من الزواج (رويترز)

أسباب تزايد الطلاق الرمادي

* ارتفاع متوسط السنّ

مع ارتفاع متوسط العمر لدى البشر عبر السنوات من 70 إلى 80 عاماً، ما عاد الأفراد يتشبّثون بفكرة البقاء في زواجٍ معقّد وتعيس، خصوصاً إذا كانت إمكانية الانفصال متاحة لهم. مَن أمضوا 20 أو 30 عاماً أو أكثر في علاقةٍ غير مُرضية، يتطلّعون إلى قضاء ما تبقَى لهم من عُمر في إطارٍ مريح. والإناث معنيّات بذلك على وجه الخصوص، فبعد سنوات من رعاية الأسرة يشعرن بالرغبة في التركيز على اهتماماتهنّ ومبادئهنّ وهويّتهنّ.

ومع إعادة تقييم الأهداف والأولويات الشخصية، يتخذ البعض، إناثاً وذكوراً، قرار الاستقلال عن الشريك أو العثور على شريكٍ آخر يتلاقى وتلك الأهداف والأولويات.

ارتفاع متوسط العمر أحد عوامل تزايد الطلاق الرمادي (بكسلز)

* سقوط وصمة العار عن الطلاق

تحوّلَ الطلاق مع مرور العقود إلى واقعٍ عابر للمجتمعات كافةً. سقطت وصمة العار التي كانت مرتبطة به في الماضي. صار اتخاذ هذه الخطوة أسهل، حتى على المتقدّمين في السن. ومع سقوط وصمة العار عن الطلاق وخروجه من دائرة المحرّمات، سقطت مقولة «حتى يفرّقنا الموت» الشهيرة أو «Til death do us part».

* الحرية الماليّة

في خمسينهنّ، تجد الإناث المعاصرات أنفسهنّ محصّناتٍ بإنجازاتهنّ المهنية وبمدخراتهنّ المادية. هذه الاستقلالية المالية التي حققتها المرأة خلال العقود الثلاث الأخيرة، جعلتها أقلّ اتّكالاً على الشريك. وقد سهّل ذلك عليها اتخاذ قرار الانفصال في مراحل متقدّمة من حياتها.

ومع اقتراب سنّ التقاعد وتضاؤل المداخيل، قد تتزايد الخلافات ذات الطابع المادي بين الشريكين، فيصبح الحفاظ على السلام في البيت الواحد صعباً.

ساهم تحرّر المرأة المادي في تزايد حالات الطلاق المتأخر (بكسلز)

* التحوّلات المجتمعية

تَربَّت الأجيال السابقة على مبدأ موحّد، وهو أن الزواج وإنجاب الأولاد والتقدّم في السن جنباً إلى جنب هو المسار الذي لا يمكن الحياد عنه. أما اليوم، فقد أيقنَ معظم الناس أن ليس ثمة خلطة موحّدة لحياة سعيدة. تلك التحوّلات المجتمعية التي وضعت حرية الفَرد واستقراره النفسي والعاطفي في الصدارة، جعلت من الأسهل الخروج من علاقة لا تتلاقى واحتياجات المرء وتطلّعاته، حتى وإن كان ذلك يعني مغادرة المنزل الزوجيّ بعد عقودٍ من المكوث فيه.

* متلازمة العشّ الفارغ

عندما يكبر الأولاد ويغادرون بيت العائلة ليستقروا في أماكن أخرى، يحصل ما يُسمّى بمتلازمة «العشّ الفارغ». ولهذا التحوّل أثرٌ لا يستهان به على العلاقة الزوجية. إذ يكتشف عدد كبير من الأزواج أن ليس ثمة ما يجمعهم خارج إطار اهتماماتهم المتعلقة بالأولاد، وأدوارهم كآباء وأمهات. يجدون فجأةً أنهم يفتقدون إلى القرب والتواصل.

الأمهات هنّ الأكثر تأثّراً بتلك المتلازمة، فمن المعروف أنّ زوجات كثيرات لا يُقدِمن على الانفصال، حتى وإن كنّ تعيسات في الزواج، وذلك انطلاقاً من الشعور بالذنب تجاه الأولاد. ومنهنّ من يكنّ منشغلات جداً باهتمامات الأسرة والتربية والعمل، فلا يبقى لديهنّ الوقت ولا الطاقة للتفكير باحتياجاتهنّ. أما عندما يغادر الأولاد العشّ، فيبدأن بالتفكير بمستقبلهنّ حتى وإن جاء ذلك متأخراً.

الأمهات هنّ الأكثر تأثراً بمتلازمة العشّ الفارغ وهي إحدى أسباب الطلاق الرمادي (بكسلز)

* التَباعُد

غالباً ما يختصر المشاهير السبب في طلاقهم بعبارة «Growing Apart» أي التَباعُد الذي يحصل بين الشريكَين مع عبور الزمن. وليس المقصود هنا التباعد الجسدي، بل الفجوات الفكرية والعاطفية التي قد تتّسع بين الزوجَين مع تقدّمهما في السن والخبرة. ويشكّل هذا التباعد أحد الأسباب الرئيسية للطلاق الرمادي، خصوصاً عندما يحلّ موعد التقاعد ويصبح البقاء لوقتٍ طويل تحت سقفٍ واحد أمراً لا مفرّ منه؛ وهذا يظهّر الاختلافات ويوسّع المسافات بين الشريكَين.

* الخيانة

صحيح أن الخيانة الزوجية غير مرتبطة بسنّ معيّنة، غير أنها في تزايدٍ مؤخراً في صفوف مَن تخطّوا الـ50 من العمر. وهذا سبب إضافيّ لحصول الطلاق الرمادي.

«ترند» الزواج الرمادي

على ضفاف الطلاق الرمادي، تنبت ظاهرة مناقضة هي «الزواج الرمادي». فكثيرون ممّن اختاروا انفصالاً متأخراً، عادوا وقرروا أن يتزوجوا من جديد، إنما في سن الـ50، والـ60، وحتى الـ70. وغالباً ما تنجح تلك الزيجات لأن الشريكَين يكونان قد وصلا إلى مرحلة متقدمة من النضج والإدراك، كما أن هذه الزيجات لا تحصل بسبب ضغوطات المجتمع والعائلة.

الزواج الرمادي ظاهرة تنبت على ضفاف الطلاق الرمادي (بكسلز)

كما الطلاق الرمادي، فإنّ الزواج الرمادي في ازدياد مطّرد. أما أبرز الأسباب التي تدفع بالناس إلى الارتباط في سن متأخرة، فهي: الاستقلال المادّي لدى النساء، والتركيز على الحياة المهنية، وإعطاء الأولوية للنموّ الذاتي، والسعي وراء الزواج بدافع الحب.