تعد قصة إخفاء الرئيس العراقي السابق صدام حسين وإلقاء القبض عليه من بين الأحداث المحفورة في ذاكرة التاريخ العربي والعالمي الحديث، لما حملت هذه الفترة من تشويق وغموض، بعد تمكن الرئيس العراقي من الهرب والاختباء لفترة عن أنظار العالم قبل العثور عليه. الفيلم الوثائقي «إخفاء صدام» الذي عُرض في ثالث أيام مهرجان البحر الأحمر السينمائي يسرد تفاصيل هذه الرحلة الغامضة.
ويُعدّ الفيلم العمل الوثائقي الأول الذي يحكي على لسان «مخبئه» هذه الفترة الحاسمة في حياة الرئيس صدام حسين، فمنذ 18 عاماً، كانت القوات الأميركيّة الغازية تبحث في العراق عن رئيسه المخلوع، الّذي اختفى من دون أثرٍ كنثرةٍ في الهواء؛ ومن ثمّ أُلقي القبض عليه في مدينة الدور، مختبئاً في خندق بين الأشجار والورود. وكان علاء نامق (عمره اليوم 50 عاماً) أخفى صدّام لمدة 235 يوماً قبل أن تتعقّبه القوّات الأميركيّة في عام 2003، ويُعدم بعد 3 سنوات.
تنفيذ الفيلم
أقنع المخرج حلقوت مصطفى، نامق مُخبئ الرئيس الراحل، بسرد قصّته للمرّة الأولى في هذا الفيلم الوثائقيّ، الّذي استغرق صنعه 10 سنوات، وكان من الضّروريّ إحاطته بقدر كبير من السّرية؛ إذ إن طاقم العمل نفسه لم يكن يعرف بالموضوع الحقيقيّ للفيلم، الذي صوّر بين النرويج والعراق، وكتبه وأخرجه وشارك في إنتاجه حلقوت مصطفى، ومدّته 96 دقيقة.
وفي لقاء علاء نامق مع «الشرق الأوسط»، أكّد أنه لسنوات مضت، لم يكن لديه أي خطة لصنع الفيلم، على الرغم من إصرار وسائل الإعلام الغربية عليه منذ 2004 للإدلاء بقصته مع صدام، وذلك بعد خروجه من سجن أبو غريب، وعن ذلك يقول: «لم يكن وضعي يسمح بذلك، وكنا نقول انتهت القصة، وقد رحل من فعلنا ما يجب علينا فعله لإنقاذه. وبعد سنوات، انبرت الصحف، والتلفزيونات، ومواقع التواصل الاجتماعي، بالحديث عن القصة من جديد بشكل يومي، وبطريقة مغلوطة. الأمر الذي حفّزني للموافقة على صنع الفيلم».
البداية جاءت عندما ترك المخرج حلقوت خبراً مع أحد الشيوخ المقربين من نامق، الذي التقى بهم داخل العراق عام 2010، وحينها رُفض طلبه. ولكن بعد عودة الحديث عن قصة الرئيس الراحل من جديد في مواقع التواصل الاجتماعي، وافق نامق على طلب حلقوت، ليُظهر للعالم الحقيقة ولتكون روايته دليلاً قاطعاً على كل الشكوك التي تدور حول خيانته، وتسليمه للرئيس السابق صدام حسين، وطمعه في المبلغ الذي عرضته الحكومة الأميركية لمن يبلغ عن مكانه.
وفي عام 2012، التقى نامق بحلقوت وبدآ كتابة القصة، واستغرق التصوير نحو 11 عاماً، بسبب الأحداث التي عصفت خلال هذه الفترة بالمنطقة والعالم، وتسببت بتأخر خروجه للنور، بدءاً من سيطرة تنظيم «داعش» الإرهابي، ومروراً بأزمة فيروس «كورونا». يقول نامق: «الحمد لله الذي وفقني واستطعت أن أكمل الفيلم وأصوره وأشرح للعالم كيف أن عاداتنا العربية تكرّم الضيف وتتعهد بحمايته وتحمل مسؤوليته».
صدام حسين عن قرب
لطالما كان صدام حسين يقول لنامق إنه كقنبلة موقوتة وقد تنفجر في أي لحظة وتقتل من حولها. وكان نامق يرد عليه بأنه يعلم ذلك، ويؤكد له أنه تحمّل مسؤولية حمايته، ولن يتركه مهما حدث. يتابع نامق: «كان صدام كثير الأسئلة، ويحكي قصصاً وأخباراً يجس نبضنا بها. كانت لديه فراسة قوية، ويعرف الشخص أمامه، وما هي قدرته على التّحمل، وكان دائماً يحاول أن يستدرجنا بالكلام، ولم نكن نهتم، وكنا نقول له، ما يأتي من الله حياه الله، وما كتبه الله سبحانه وتعالى سوف نراه».
وحسب نامق، فقد كانت شخصية صدام حسين صعبة في بعض الأحيان، وبسيطة في أحيانٍ أخرى، مشيراً إلى أن عصبيته هذه وتوتره يعودان لكونه شخصية حيّر اختفاؤها العالم، الذي جيّشت أنظمته نحو 150 ألف جندي للبحث عنه، وترقّب لحظة القبض عليه.
وحين أعلنت الصحف أن الحكومة الأميركية رصدت مبلغ 25 مليون دولار لمن يُدلي بمعلومات عن صدام حسين أو يسلّمه، كان نامق يأتي بها لصدام ويتلاطف معه في الكلام، ويقول له: «لقد زاد سعرك سيدي»، كما كان يأتيه بصحف نشرت صوره بأكثر من شكل، ليريه كيف كان الأميركيون يبحثون عنه، ويقول: «رغم كل ذلك الحمد لله استطعنا حمايته، إلا أنّ الله سبحانه وتعالى كتب له أن يُلقى القبض عليه ويُسلم».
مكان تصوير الفيلم
صُوّر الفيلم في الموقع الأصلي حيث اختبأ صدام حسين. وأوضح نامق أن الخندق لم يعد كما كان منذ 20 سنة، فقد هُدم أكثر من مرة، ولكنّهم أعادوا إصلاح ما خرّبه الجنود الأميركيون في المزرعة، لحين تمثيل الفيلم. وقال إن المزرعة باتت مهجورة، وجميع منازل عائلته دُمرت وسوّيت بالأرض، ويستطرد: «ضحينا بأنفسنا وبأملاكنا».
لماذا علاء النامق؟
قضية الاختيار كتبها صدام حسين في مذكراته، يقول نامق إنه «لم يخترني، ولكنه حين أُخرج من بغداد، ذهب لمشايخ وبقي في استضافتهم نحو 4 أو 5 أيام، وعندما عَلم بافتضاح أمره رحل عنهم ولجأ إلى منزل آخر، حيث بقي ليومين، وغادره أيضاً لأن أصحابه اعتذروا منه وطالبوه بالرحيل خوفاً على سلامتهم وحياتهم. هذا ما أخبرني به الرئيس صدام».
وتابع نامق: «عندما جاءني قلت له؛ لماذا اخترتنا؟ قال؛ في طريقي (هو من أهالي صلاح الدين بتكريت) غفت عينيّ لربع ساعة، وجاءني شخص كطيف قال لي اذهب إلى بيت حجي نامق، ولم يذكر من هو حجي نامق، وعندما استيقظت سألت الرجال الذين تكفلوا حمايتي؛ أين نحن؟ فأخبروني عن المسافة التي تبعدنا عن سامراء، فقلت لهم خذوا طريق الدور، وعندما سلكناها طلبت منهم أن نذهب إلى منزل النامق، ولدى وصوله التقى بوالدي الذي قال له؛ إن شاء الله نقدر نحميك».
وأكد نامق أن والده كان قلقاً جداً وخائفاً من التضحية بنا، لكنّه تحدث مع والده بالأمر، وقال له: «الموضوع وقع عليك، وإن شاء الله سأستطيع تحمل تبعاته، وسأكون عند حسن ظنك، فجهّز المكان، إلا أنهم خلال 235 يوماً تنقلوا بين أكثر من مكان».
اللحظات الأخيرة
يقول نامق إن آخر كلمات نطق بها صدام كانت «غيّر لي المكان، أريد أن أتركه خلاص»، فقلت له: «ماشي سيدي، لدي مكان آخر»، فجهّزته له وسألته؛ لماذا؟ أجاب: «يجب علينا أن نغادر هذا المكان»، قلت له: «نغادره حالاً». يقول نامق: «لصدام حسين حاسة سادسة قويّة، كان يشعر بالأحداث قبل وقوعها، وبالفعل كانت تحصل». وأضاف صدام: «لا، غداً صباحاً»، كلامه هذا نطق به يوم 13 - 12 - 2003، قلت له حينها: «الآن نغيره»، قال: «لا، اجلس». بدأ هو بتجهيز طعام العشاء، وقبل ذلك ذهبت أجهز له المكان الثاني. «لا زلت أذكر ذلك الإحساس القوي الذي انتابه بأن أمراً ما سيحدث، ولحظة جلسنا لتناول العشاء، داهمت القوات الأميركية المزرعة، وأُلقي القبض علينا مباشرة».
اعتقال وتهديد
يقول نامق: «اعتقلت في سجن أبو غريب وتعرضت لشتى أنواع التعذيب، وبعد 7 أشهر أطلقوا سراحي، حين تأكدوا أنّه لا قصة لدي سوى أني أخفيت صدام حسين، كما لا علاقة لي بالسياسة. وبعد خروجي تعرضت لمحاولات اغتيال كثيرة، ونجوت بقدرة الله وحمده، ولكن للأسف نجحت عملية خطف أخي، وقضى 33 يوماً في شنطة بسيارة للضغط عليّ، كي لا أحكي عن قصة إخفاء الرئيس السابق صدام حسين. وبعد مرور سنوات طوال، وتناول الأكاذيب في سرد قصتي مع صدام وتشويه الحقائق، قررت أن أروي حقيقة ما حدث، لأقول؛ أنا لست خائناً، ولن أسمح لأحد أن ينادي أبنائي بأولاد الخائن».