طار 19 صوتاً صغيراً من بيروت إلى باريس محمّلين بـ«كمشة سلام»، وعادوا رافعين 3 جوائز من «اليونيسكو» بعد فوزهم في مسابقة «الشباب في خدمة السلام»، التي أطلقتها المنظّمة التربويّة الدولية بالتعاون مع شبكة القنوات التلفزيونية الفرنسية «فرنس تلفزيون» عام 2018.
يوم دخلت أستاذة اللغة العربيّة في مدرسة «العائلة المقدّسة الفرنسية - الفنار»، رلى زغيب، إلى الصف، طالبةً من تلاميذها الذين تتراوح أعمارهم ما بين 7 و8 سنوات، أن يكتبوا رسائل قصيرة تشرح مفهومهم للسلام، دوّن أحد الطلّاب كلمتَين: «كمشة سلام» (والكمشة تعني الحفنة). كانت تلك العبارة كافيةً للإيحاء بعنوان أغنية. فما كان من المدرّسة إلا أن جمعت كلمات التلاميذ وأعادت صياغتها ضمن نصٍّ غنائيّ، لحّنه المؤلف الموسيقي أنطوان بوخليل.
حفظ الطلّاب الأغنية وسجّلوها ثمّ صوّروها بعفويّة في حديقة المدرسة. «للسلام نحنا عنوان، من لبنان كمشة سلام نبعتها إلكم مع ورد وفلّ حتى قلوبكم بيضا تضلّ»... أنشدوا حاملين العلم اللبناني وناثرين الورد، وجّهوا أمنياتهم الصافية وهم يلعبون ويضحكون. اخترقت الرسالة قلوب اللجنة التحكيميّة في «اليونيسكو»، فجاء الفوز ثلاثياً.
تلفت منسّقة المشاريع التربويّة في المدرسة ريما خوري في حديث مع «الشرق الأوسط»، إلى أنّ «الطريقة الصادقة والبريئة التي قدّم بها الأطفال الأغنية هي التي لعبت دوراً أساسياً في تحقيق الفوز». كذلك تزامنَ إعلان النتائج مع التوتّرات الأمنية التي يشهدها جنوب لبنان بالتوازي مع الحرب في غزّة، ما ضاعف أهمية الرسالة التي بعث بها الأطفال إلى العالم.
تشدّد خوري على أن ثقافة السلام هي جزء أساسي من المنهاج التعليميّ في المدرسة، موضحةً أنّ كل عام يشهد على مشاريع طلابيّة مرتبطة بالسلام. هذا المجهود المنصبّ على ثقافة السلام لم يثمر فوزاً هذه السنة فحسب، بل السنة الماضية كذلك، حيث حصدت المدرسة جائزة في مسابقة «اليونيسكو» العالميّة عن أغنية «يمام السلام» التي قدّمها طلّاب المرحلة المتوسّطة.
تنافست أغنية «كمشة سلام» مع أعمال تقدّمت بها مدارس من أوكرانيا، واليابان، وبلجيكا، وبولندا، وفرنسا، وجمهورية موريشيوس، في حين مثّلت 4 مدارس لبنانية العالمَ العربي. ومساء 8 نوفمبر (تشرين الثاني)، أُعلنت النتائج في مقر منظمة «اليونيسكو» في باريس، ليفوز طلّاب مدرسة «العائلة المقدّسة الفرنسيّة» بالجوائز الثلاث.
تعلّق إحدى التلميذات المُشاركات في الأغنية قائلةً، إنّ رفاقها وهي شعروا بفرح كبير بعد علمهم بفوز أغنيتهم، وتضيف أنّ أكثر ما أحبّت في الأغنية هو أنها تحكي عن السلام.
وعن الجوائز الثلاث، تتحدّث المنسّقة الوطنية لشبكة المدارس المنتسبة لـ«اليونيسكو»، كريستيان جعيتاني، لـ«الشرق الأوسط»، لافتةً إلى أنّ هذا الفوز الثلاثيّ لمدرسة واحدة في العام ذاته، هو «فعلاً سابقة في تاريخ المباراة». وتفصّل جعيتاني الجوائز، وهي جائزة لجنة التحكيم الدولية التي ترأسها مارينا بيكاسو، حفيدة الرسّام الإسباني بابلو بيكاسو، ومن بين أعضاء هذه اللجنة الفنانة اللبنانية عبير نعمة. أما الجائزة الثانية فهي تحت اسم «مارينا بيكاسو»، كما حصل الطلّاب على جائزة لجنة تحكيم الأطفال المنشأة من قِبل صحيفتَي «L’Actu» و«Mon Quotidien» الفرنسيتَين.
تسلّمَ وزير التربية اللبناني عباس الحلبي الجوائز التي نالتها المدرسة، على أن يُقام في وقت لاحق حفل تكريميّ للطلاب اللبنانيين الفائزين على مدى مواسم المسابقة الثلاثة. وبانتظار الاحتفال الذي لم يُحدّد موعده بعد، تذكّر جعيتاني بأهمية مسابقة «اليونيسكو» و«فرنس تلفزيون»، وغايتها التوعية بثقافة السلام واللاعنف، وتشغيل مخيّلة الطلّاب من عمر 6 إلى 20 سنة، حول السلام.
حملت المسابقة هذا العام شعار «التسامح كطريق أساسي لتحقيق السلام»، وأتاحت أمام طلّاب المدارس من حول العالم أشكالاً فنية متنوّعة لترجمة أفكارهم؛ من الغناء الجماعي، مروراً بالتصوير الفوتوغرافي، وصولاً إلى تصوير الأفلام. أما اختيار الفائزين، وفق جعيتاني، فقد جرى «بناءً على كلمات الأغنية والإنتاج والتنفيذ. وفي حالة مدرسة (العائلة المقدّسة)، فقد حصل التصويت بالإجماع، وتلقّى لبنان تهاني ممثّلي الدول الأخرى المنافِسة».
جعيتاني التي واكبت مراحل المشروع من ولادته حتى تتويجه، تقرأ في الفوز «نعمةً بالنسبة للّبنانيين جميعاً»؛ لأنه يشكّل دليلاً على أنّ أجيال لبنان الصاعدة قادرة على بثّ الأمل والتميّز في المحافل الدوليّة، «رغم قسوة الظروف التي نعيش من حرب وبغض وإجرام».
تأتي هذه الجوائز العالميّة، في وقتٍ يعاني فيه النظام التربويّ اللبناني من تصدّعات تهدّد بنيته الصلبة؛ لذلك يبقى «الأهمّ الاستثمار في بناء شخصية الطالب كي يكون مواطناً فاعلاً»، وفق تعبير جعيتاني، «الأمر الذي يمنحه ثقة بقدرته على أن يصبح أداة تغيير في المجتمع».
في فيديو بثّته المدرسة عبر صفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي، عبّر الطلّاب والأساتذة عن فرحتهم وفخرهم بالفوز، أما مديرة المدرسة الراهبة كليمانس حدّاد، فأهدت الإنجاز إلى الشعب اللبناني وشعوب العالم المتعطشة للحب والسلام، لا سيّما الأطفال من بينهم.