يعود فن الوشم إلى الازدهار بعد ركود أصابه في السنوات الماضية. بتقنية خاصة، يُنجَز الرسم الذي لا يستسيغه بعض الجيل القديم، وفي المقابل يتهافت الشباب عليه إما من باب الموضة الرائجة وإما للبحث عن علامة تميُّز. ومؤخراً، نصح به أطباء لإخفاء ندوب أصابت الجسم.
الشابة اللبنانية جوا أنطون احترفت الوشم واتخذته مهنة. تتنقل بين بلدان أفريقية وأوروبية حاملة هذا الفن بأناملها، فتضبط مواعيد مسبقة لزبائن أُعجِبوا بأسلوبها. وهي فازت مؤخراً بالجائزة الأولى في مؤتمر «برلين لفن الوشم» عن فئة الوشوم الصغيرة، وحصدت المرتبة الأولى من بين 400 متسابق و70 مرشحاً لهذه الجائزة.
تقول إنها لم تتوقّع الفوز، رغم حصادها ما يشبهه في العام الماضي وحلولها في المرتبة الثالثة. توضح لـ«الشرق الأوسط»: «تضمّن الوشم كلمات بالعربية، لمحاكاته طابعاً بريدياً لبنانياً قديماً، فبعض الأوروبيين لا يحبّذون فوز مَن لا ينتمي إلى مجتمعهم».

فوجئت بالفوز، حتى إنها صفّقت لنفسها فرحاً. تقول عن مرافقة شاب لبناني لها، هاجر إلى برلين منذ صغره: «اتصل بي عبر (إنستغرام)، وطلب أن أرسم طابعاً بريدياً لبنانياً على ذراعه. هو لم يزر لبنان، لكنه رغب في أن يحمل رمزاً يذكّره بوطنه. أضفتُ إليه تاريخ ولادة والديه، والطابع يعود إلى حقبة الثمانينات».
لكل وشم قصة تستوحي منها أنطون رسومها. تتابع: «لا أكترث للرسمة المطلوبة بقدر القصة التي تواكبها. فلكل شخص قصته، أترجمها بأناملي بعد اطّلاعي عليها. أحياناً، لا يرغب بعضٌ في إخباري عنها، لكن غالباً يفعلون».
نوعية القصص تختلف بين شخص وآخر. بعضها نابع عن حزن أو لحظة فرح لا تُنسى. توضح: «هذه القصص تترك ندوبها النفسية في المرء، ومن خلال الوشم يتخلّص منها، فيتخطّاها؛ بينما آخرون يرسمون الوشوم للاحتفاظ بذكرى عزيزة. القصص تُغني مخيلتي، ولا أحبّذ الاطّلاع على نوعية الرسم المطلوب قبل موعد الوشم، فإذا حصل العكس تسكنني وتصبح هاجساً. أفضّل الرسمة العفوية، فأضيف إليها فكرة إبداعية تلقائية من دون تصوّر مسبق».

لا تختصر عملها في الوشم من باب تزيين الجسم وتلوينه بناء على رغبة الشخص، فهي أدّت من خلاله مهمّة إنسانية لافتة: «أخذت على عاتقي رسم الوشم مجاناً لمرضى السرطان. أحياناً، تترك الجراحات أو جلسات العلاج جرحاً أو أثر حريق على الجلد، فأغطّيها بالوشم لينساها تماماً بعد نجاته من المرض. اليوم، بات الأطباء ينصحون بالوشم عندما يصطدم التجميل بحائط مسدود. فالوشم يحسّن الحالة النفسية، ومعه يتجاوز الشخص أي ذكرى سيئة تراوده عن مراحل العلاج».
تؤكد جوا أنطون أنّ لفن الوشم هُواته، وفي المقابل ثمة مَن يرفضونه تماماً. الغالبية الرافضة تنتمي إلى الجيل القديم، فتقول: «بينهم والدتي التي انصاعت للأمر بعد لفتة مرضى السرطان، فاقتنعت نوعاً ما بالموضوع. وبعضهم يرى فيه دمغة لا يمكن التخلّص منها مع الوقت، وثمة مَن يراه تشويهاً للجسد. عملي يرتكز على رغبة الآخر ومدى اقتناعه بذلك».

عادت حالياً موضة الوشم، لا سيما الرسوم الصغيرة. ويمكن للشخص بواسطة الوشم أيضاً أن يُخبئ مساحة من الجلد تعرّضت لحادث. أما التنفيذ فيتطلّب حرفية ومعايير نظافة. كما باتت هناك طرق تسمح لصاحب الوشم بالتخلّص منه بتقنية الليزر. فكثيرون يعدّونه (فشة خلق) لإخراج الهواجس والمعاناة.
في السابق، لم يتجاوز عدد فناني رسم الوشم في لبنان أصابع اليد. اليوم، توسّعت الدائرة لتشمل مئات الأسماء المتخصّصة. تعلّق: «هو ليس فناً سهلاً، بل يتطلّب الدقة والصبر وبُعد النظر. الأهم هو ألا يتحوّل وسيلة للربح المادي، وإلا فقد قيمته الفنية».
تخصّصت أنطون في هذا الفن بعدما استهلّت دراستها الجامعية بالتصميم الغرافيكي، إلى الهندسة الداخلية والتصوير الفوتوغرافي. بعدها سافرت إلى فلورنسا في إيطاليا للاطّلاع على أحدث العلوم الخاصة به، ومن ثَم توجهت إلى تركيا لنيل شهادة أخرى. تختم: «يعبّر هذا الفن عن ثقافات مختلفة. يمكن عدُّه مثل الأزياء، حيث يرتدي الناس ما يشبه شخصياتهم ويريحهم».






