كريم العراقي... مُعذَّب الشِعر والأرض

رحيل الشاعر الغنائي المُتألّم بالسرطان وما يتجاوزه

كاظم الساهر ورفيق دربه كريم العراقي المُغادر إلى الاستراحة الأبدية (مواقع التواصل)
كاظم الساهر ورفيق دربه كريم العراقي المُغادر إلى الاستراحة الأبدية (مواقع التواصل)
TT

كريم العراقي... مُعذَّب الشِعر والأرض

كاظم الساهر ورفيق دربه كريم العراقي المُغادر إلى الاستراحة الأبدية (مواقع التواصل)
كاظم الساهر ورفيق دربه كريم العراقي المُغادر إلى الاستراحة الأبدية (مواقع التواصل)

علا التصفيق خلال اللقاء الأخير لكاظم الساهر بجمهوره في بيروت، حين سأل الشفاء لرفيقه كريم العراقي. أخبر مَن صفّقوا بحرارة أنّ كاتب بعض أشهر أغنياته، من بينها رائعته «المستبدة»، يعاني عذابات المرض وقسوته على الجسد. قال: «ادعوا له»، وتعالى الرجاء على شكل هيصة. صمد الشاعر، ليغادر اليوم (الجمعة) نحو الاستراحة الأبدية.

اسمه كريم عودة، ولعشقه العراق، شاء التصاقهما فأصبح كريم العراقي. إن فتك السرطان وعجَّل الرحيل عن 68 عاماً، فإنّ الفَتْك الأعظم ألمَّ به جراء الأرض النازفة. خلَّف الوطن جرحاً أبى الالتئام، فتحالف مع المرض ليسرّعا نهايته. شهد على أرض تُستباح وأرواح تُزهَق، فتضخَّم هذا الجرح وأُصيب بالكثافة، مُصعِّباً جدوى العيش. بدت آلام المكان أشدّ هولاً من وحشية العوامل، كونها سيطرت وأذت وحفرت في الصميم ما يُشبه القعر المظلم.

كريم العراقي ممن يتركون مكانهم شاغراً بعد الرحيل (مواقع التواصل)

كان مستشفى «كليفلاند» في أبوظبي آخر محطّات الجسد المُتعب، فأعلن الشاعر والمؤلّف المسرحي رحيم العراقي الخبر القاسي على أحبة شقيقه، من بينهم كاظم الساهر الذي نعاه بكلمات على خلفية سوداء تختزل حزن فراق «الصديق ورفيق الدرب». كتب الراحل أغنيات لكثيرين، من بينهم أصالة وحسين الجسمي وعاصي الحلاني وصابر الرباعي وماجد المهندس... إلا أنّ اللُّحمة مع الساهر مُعطَّرة بالفرادة. مسيرة من عذوبة تعبُر بالقصيدة إلى لحظتها الراهنة، لترتقي بالرجلين إزاء المعنى الباقي.

حصد جوائز، من بينها «جائزة أفضل أغنية إنسانية» سلّمته إياها منظمة «يونيسف» عن قصيدة «تذكر» بصوت الساهر، وهي محاكاة لوجع أطفال العراق (1997)؛ و«جائزة الملك فيصل العالمية» (2019)، كما كتب باقة أغنيات، قطف «القيصر» معظمها. مع ذلك، ورغم تجارب في المسرح والديوان والألبوم الصوتي، وشهرة ممتدّة على المساحات العربية؛ نغّص حزنٌ هناء النجاح وبهجة مراكمته.

في العراقيين شجن يقيم عميقاً، وهو في حالة كريم العراقي يستولي ويُفتِّت. صاحب قصيدة «الشمس شمسي والعراق عراقي»، مُكلَّل بأحزان تغذّيها جنائزية كل صوب، بمطاردتها سكينة الأوطان والأمل الإنساني. وهو حين كتب «لا الأحزان تكسرني»، فقد أراد، على طريقة الشعراء المُدركين حجم الهول، ضخّ ضوء في الأنفاق الطويلة، لعلّ العابرين يظنّون الاختناق كذبة. إعلان «براءته» من «ثوب اليأس»، هو عناد الشِعر المُجاهِر بالممكن على أنقاض الاستحالة.

التفجُّع لا يليق بمَن يسلّمون أجسادهم لحتمية الفناء، وأعمالهم للبقاء الطويل. الأثر هو العزاء، طالما أننا جميعاً سنُحال على النهاية. تحلّ لحظة انسلاخ النبض عن البدن، ليبقى الإرث بكامل اتّقاده وقيمته وتمكّنه من الامتداد إلى ما بعد المواراة في الثرى والانتهاء من تقبّل التعازي.

كريم العراقي ممن يثير سؤالاً حول مَن سيبقى بعد رحيل أمثاله. مِن كبار شعراء الأغنية، مكانه لا يُملأ لمجرّد المجيء باسم يشكّل إضاءة. ثمة أماكن لا يشغرها سوى أصحابها؛ إن رحلوا، اتّسع هول الفراغ. لا تَجبُّر على الموت؛ قدرُ كل حيّ، إنما الأسى مردّه سطوة الضحالة وتسيُّد السهل، فيما القامات تتساقط مُعلنة خريف المراحل.

خلَّد تقلُّب المزاج البشري بقصيدته «لا تشكُ للناس»، مُحذّراً من الطبع وفداحة التلوُّن. من بديع ما كتب: «وإن شكوتَ لمَن شكواكَ تُسعده/ أضفتَ جرحاً لجرحكَ اسمه الندم». عَبَر شِعره في نوازع النفس ولامس الحقيقة المُشبَّعة بالخير والشرّ. وبالعودة إلى قصيدته «الشمس شمسي والعراق عراقي»، فقد تعمّد تداخُل البُعدين الفردي والجماعي بالحديث عن الوطن والأخلاق. توّج التعلُّق بالعراق بـ«امتلاكه»؛ ورغم ما حلَّ، ظلّت السُمعة في منأى عما يشوبها: «ما غيَّر الدخلاء من أخلاقي»... ليبلغ ذروة التعبير عن الانتماء والنزاهة والنجاة من التلطُّخ.

ودّعه عاصي الحلاني بمشاركة قصيدته عن الوقوع والنهوض: «أنا مهرتي جرحي/ سفر عمري طويل/ أعثر وأرِد أنهض/ أضعف مستحيل/ زمني يعاندني ويخطف ما أريد/ وحزني كسر ظهري وقيّدني بحديد/ أوقع أصيح الله وأنهض من جديد». وشاركت أحلام صورته، مُترحِّمة عليه. حاتم العراقي وصف الروح بـ«الطيبة النقية الطاهرة»، وأصالة غنّت من جمالياته «لا تشكُ للناس»، أرفقتها بـ«وداعاً». ودّعت ديانا كرزون «ابن الرافدين»، ونعاه مستشار رئيس الوزراء للشؤون الثقافية في العراق عارف الساعدي.

يوم 18 فبراير (شباط) 1955، وُلد في منطقة كرادة مريم بالعاصمة العراقية، رجل سيمضي سنوات في التأليف والعمل الأدبي وصوغ الشعر الشعبي والأغنية والمسرحية. حصوله على دبلوم علم النفس وموسيقى الأطفال من «معهد المعلّمين»، مهّد لعمله أستاذاً في مدارس بغداد، قبل الانتقال إلى الإشراف التخصّصي في كتابة الأوبريت المدرسي. شغلته الكتابة وشكّلته، فصنع اسماً يتلألأ في مجالاتها، من أدب وثقافة وصحافة وغناء. كثّف فنانون شهرته وجعلوها تزدان بالوهج، إلا أنها لم تكن فحسب مُستمدَّة من أضواء الآخرين، بل من أهليته للضوء وامتلاكه موهبة استدعائه. أعطوه الانتشار، وأعطاهم الوزن الغنائي وما يبقى.

يُنقل جثمانه من العاصمة الإماراتية إلى بغداد، حبيبته. الأحد، يُقام عزاء في مسجد عودة السويعدي في «زيونة» البغدادية، لوداع جسد أنهكه السرطان وما يتجاوزه، لكنه ضمَّ روحاً بلغت بالشِعر ذروة جمالها.


مقالات ذات صلة

موسيقى تحت النار تصدح في «مترو المدينة» لإعلان الحياة

يوميات الشرق مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس... موسيقى ونغمات وأمل (مترو المدينة)

موسيقى تحت النار تصدح في «مترو المدينة» لإعلان الحياة

«مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس، موسيقى ونغمات وأمل».

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق الملحن المصري الراحل محمد رحيم خاض تجربة الغناء (حسابه على «فيسبوك»)

شكوك حول أسباب وفاة الملحن المصري محمد رحيم

أثار خبر وفاة الملحن المصري محمد رحيم، السبت، بشكل مفاجئ، عن عمر يناهز 45 عاماً، الجدل وسط شكوك حول أسباب الوفاة.

داليا ماهر (القاهرة )
ثقافة وفنون الملحن المصري محمد رحيم (إكس)

وفاة الملحن المصري محمد رحيم تصدم الوسط الفني

تُوفي الملحن المصري محمد رحيم، في ساعات الصباح الأولى من اليوم السبت، عن عمر يناهز 45 عاماً، إثر وعكة صحية.

يسرا سلامة (القاهرة)
يوميات الشرق لها في كل بيتٍ صورة... فيروز أيقونة لبنان بلغت التسعين وما شاخت (الشرق الأوسط)

فيروز إن حكت... تسعينُها في بعضِ ما قلّ ودلّ ممّا قالت وغنّت

يُضاف إلى ألقاب فيروز لقب «سيّدة الصمت». هي الأقلّ كلاماً والأكثر غناءً. لكنها عندما حكت، عبّرت عن حكمةٍ بسيطة وفلسفة غير متفلسفة.

كريستين حبيب (بيروت)
خاص فيروز في الإذاعة اللبنانية عام 1952 (أرشيف محمود الزيباوي)

خاص «حزب الفيروزيين»... هكذا شرعت بيروت ودمشق أبوابها لصوت فيروز

في الحلقة الثالثة والأخيرة، نلقي الضوء على نشوء «حزب الفيروزيين» في لبنان وسوريا، وكيف تحول صوت فيروز إلى ظاهرة فنية غير مسبوقة وعشق يصل إلى حد الهوَس أحياناً.

محمود الزيباوي (بيروت)

«بيروت ترنم» يفتتح نسخته الـ17 مع موزارت ويختمها مع بوتشيني

فريق «سيستيما» يشارك في إحياء «بيروت ترنّم» (بيروت ترنم)
فريق «سيستيما» يشارك في إحياء «بيروت ترنّم» (بيروت ترنم)
TT

«بيروت ترنم» يفتتح نسخته الـ17 مع موزارت ويختمها مع بوتشيني

فريق «سيستيما» يشارك في إحياء «بيروت ترنّم» (بيروت ترنم)
فريق «سيستيما» يشارك في إحياء «بيروت ترنّم» (بيروت ترنم)

«لسنا بخير في لبنان ولكننا سنكمل رسالتنا حتى النفس الأخير». بهذه الكلمات تستهل ميشلين أبي سمرا حديثها مع «الشرق الأوسط»، تُخبرنا عن برنامج النسخة الـ17 من مهرجان «بيروت ترنّم». فهي تتمسّك بتنظيم المهرجان في قلب المدينة؛ ما جعله بمثابة تقليدٍ سنوي في فترة أعياد الميلاد. طيلة السنوات الماضية ورغم كل الأزمات التي مرّ بها لبنان بقيت متشبثة بإحيائه.

كارلا شمعون من نجمات لبنان المشاركات في «بيروت ترنّم» (بيروت ترنم)

ينطلق «بيروت ترنّم» في 4 ديسمبر (كانون الأول) المقبل ويستمر لغاية 23 منه. وتتجوّل الفرق الفنية المشاركة فيه بين مناطق مونو والتباريس والجميزة في بيروت، وكذلك في جامعة الألبا في سن الفيل، وصولاً إلى زوق مصبح ودير البلمند في شمال لبنان.

وبالنسبة لميشلين أبي سمرا فإن النسخة 17 من المهرجان تتجدد هذا العام من خلال أماكن إحيائه. وتتابع: «يزخر لبنان بأماكن مقدسة جمّة يمكننا مشاهدتها في مختلف مناطقه وأحيائه. وهذه السنة تأخذ فعاليات المهرجان منحى روحانياً بامتياز، فيحط رحاله في أكثر من دار عبادة وكنيسة. وبذلك نترجم العلاج الروحاني الذي نطلبه من الموسيقى. جراحنا وآلامنا لا تحصى، ونحتاج هذه المساحة الروحانية الممزوجة بالموسيقى كي نشفى».

أمسية «تينور يواجه تينور» مع ماتيو خضر ومارك رعيدي (بيروت ترنم)

يفتتح «بيروت ترنّم» أيامه بأمسية موسيقية مع الأوركسترا اللبنانية الوطنية، وتتضمن مقاطع موسيقية لموزارت بمشاركة السوبرانو ميرا عقيقي. ويحضر زملاء لها منهم الميزو سوبرانو غريس مدوّر، وعازف الباريتون سيزار ناعسي مع مواكبة جوقة كورال الجامعة الأنطونية. وبقيادة المايسترو الأب توفيق معتوق ستتجلّى موسيقى موزارت في كنيسة مار يوسف في مونو.

وبالتعاون مع السفارة السويسرية واليونيسكو في بيروت، يقدم فريق «سيستيما» حفله في جامعة «الألبا». وتقول ميشلين أبي سمرا: «أسسنا هذا الفريق منذ سنوات عدّة، وهو ملحق بـ(بيروت ترنّم)، ويتألف من نحو 100 عازف ومنشدٍ من الأولاد. ونحن فخورون اليوم بتطوره وإحيائه عدة حفلات ناجحة في مناطق لبنانية. سنكون على موعد معه في (بيروت ترنمّ) في 8 ديسمبر».

ومن الفنانين اللبنانيين المشاركين في برنامج الحفل الموسيقي زياد الأحمدية، الذي يحيي في 11 ديسمبر حفلاً في جامعة «الألبا» للفنون الجميلة. ويؤلف مع عازفي الساكسوفون و«الدوبل باس» نضال أبو سمرا ومكرم أبو الحصن الثلاثي الموسيقي المنتظر.

«مقامات وإيقاعات» أمسية موسيقية شرقية مع فراس عنداري (بيروت ترنم)

وتحت عنوان «سبحان الكلمة» تحيي غادة شبير ليلة 13 ديسمبر من المهرجان في كنيسة مار بولس وبطرس في بلدة قرنة شهوان، في حين تشارك كارلا شمعون في هذه النسخة من «بيروت ترنّم» في 15 ديسمبر، فتقدّم حفلاً من وحي عيد الميلاد بعنوان «نور الأمل».

تشير ميشلين أبي سمرا في سياق حديثها إلى أن عقبات كثيرة واجهتها من أجل تنفيذ المهرجان. «إننا في زمن حرب قاسية ولاقينا صعوبات مادية شكّلت عقبة، لولا دعمنا من قبل رعاة متحمسين مثلنا لاستمرارية لبنان الثقافة. كما أن نجوماً أجانب أصرّوا على المشاركة والمجيء إلى لبنان رغم ظروفه اليوم».

عازف العود زياد الأحمدية يحيي ليلة 11 ديسمبر (بيروت ترنم)

من بين هؤلاء النجوم الإسبانيان عازف الكمان فرانشيسكو فولانا وعازفة البيانو ألبا فينتورا. ومن بلجيكا يحلّ كلٌ من عازفة التشيللو ستيفاني هوانغ وعازف البيانو فلوريان نواك ضيفين على المهرجان، ويقدمان معاً حفلهما الموسيقي في 18 ديسمبر في كنيسة مار مارون في شارع الجميزة.

ومن الحفلات المنتظرة في هذه النسخة «تينور يواجه تينور». وتوضح ميشلين أبي سمرا: «يتجدّد برنامج المهرجان مع هذا الحفل. فهو يحدث لأول مرة ويشارك فيه كل من ماتيو خضر ومارك رعيدي، فيتباريان بصوتهما الرنان بعرض أوبرالي استثنائي». ويقام هذا الحفل في 9 ديسمبر في كنيسة مار مارون في الجميزة.

عازف الكمان الإسباني فرانسيسكو فولانا (بيروت ترنم)

ومن الفِرق اللبنانية المشاركة أيضاً في «بيروت ترنّم» كورال الفيحاء الوطني بقيادة المايسترو باركيف تاسلاكيان. وكذلك هناك مقامات وإيقاعات مع فراس عينداري ومحمد نحاس ومجدي زين الدين وهاشم أبو الخاضر، يقدّمون عرضاً غنائياً شرقياً، يتخلّله عزف على العود والقانون والكمان. ويقام الحفلان ليلتي 19 و20 ديسمبر في الجميزة. ويختتم «بيروت ترنّم» فعالياته في 23 ديسمبر في كنيسة مار مارون في الجميزة. وذلك ضمن حفل موسيقي في الذكرى المئوية للإيطالي بوتشيني، ويحييها التينور بشارة مفرّج وجوقة الجامعة الأنطونية بقيادة الأب خليل رحمة.