«بجرّين» قرية لبنانية اختفى كل أهلها وسكنتها الأشباح

ركبوا البحر قبل مائة سنة ولم يعودوا

قرية بجرّين باتت موئلاً للأشباح (صفحة وي لاف جبيل ديستريكت على فيسبوك)
قرية بجرّين باتت موئلاً للأشباح (صفحة وي لاف جبيل ديستريكت على فيسبوك)
TT

«بجرّين» قرية لبنانية اختفى كل أهلها وسكنتها الأشباح

قرية بجرّين باتت موئلاً للأشباح (صفحة وي لاف جبيل ديستريكت على فيسبوك)
قرية بجرّين باتت موئلاً للأشباح (صفحة وي لاف جبيل ديستريكت على فيسبوك)

قصتها تصلح لفيلم سينمائي، قرية بجرّين. تسمع عنها، ولا تصدّق أنها موجودة وأن حكايتها حقيقية، إلا حين تصلها وتعاين أطلالها، ومنازلها المهدّمة، ومخلفات أهلها. ولكن كيف تبلغها، ودروبها وعرة؟ تلك هي المعضلة!

أصبحت تسمى «قرية الأشباح»، كل ما فيها أطلال دارسة، وبيوت مهجورة، وحجارة شاخت وهي تنتظر أصحابها، الذين ذهبوا ولم يعودوا. كلٌ له روايته حول أهل القرية وسبب اختفائهم، لكنها جميعها تتفق على أن أهل الدور كانوا هنا قبل مائة سنة، ونعموا بحياة هانئة، وأرض خصبة، ومحاصيل سخية، زرعوا القمح والتبغ والتين، واشتغلوا بصناعة الحرير. لكن الحرب العالمية الأولى ومآسيها، ضربت المتصرفية في جبل لبنان، وعانى السكان من المجاعة والحصار والجراد، ومات ثلث السكان، وبقي من أسعفته الصحة الحسنة، وحظه الكبير. ويبدو أن أهل بجرّين لسبب نجهله بدقة، قد قرروا كلهم ركوب البحر والهرب من هنا، البعض يقول إنهم ذهبوا إلى البرازيل، وإن سفينتهم غرقت وابتلعهم البحر هم ومفاتيح بيوتهم، التي بقيت مغلقة، لأن أحداً منهم لم ينجُ، ليأتي ويؤكد وفاتهم. وهناك من يرجّح أن بينهم من وصل إلى وجهته واختفى ذكره. في كل الأحوال أهالي بجرّين خرجوا ولم يعودا، قبل ما يقارب القرن من الزمن، ولم يأت أحد يخبر عنهم.

درج الغرفة التي لا تزال كنيسة حيّة (صفحة وي لاف جبيل ديستريكت على الفيسبوك)

حكاية دغدغت الأخيلة الخصبة، وأغرت كثيرين بالذهاب والبحث عن القرية. وهو ما حوّل بجرّين مؤخراً إلى مقصد للسياح، خصوصاً أولئك الذين يهوون المغامرة واكتشاف الغرائب، والمشي في الطبيعة، ويمتلكون قوة القلب وصلابة الإرادة.

أردنا أن نعرف المزيد عن بجرّين التي سمعنا عنها، وخلناها مجرد حكاية وهمية. من مدينة عمشيت الساحلية في شمال لبنان، صعدنا في السيارة صوب الجبل باتجاه بلدة غرفين التي تتبعها بجرّين إدارياً. حين أوقفنا السيارة واتجهنا صوب رجل من أهل القرية، قال لنا من بعيد وقبل أن نتفوه بكلمة: عرفت مقصدكم. وشرح الرجل الذي لا بدّ شاهد أسراباً من السياح يحاولون الوصول إلى بجرّين قبلنا: «عليكم أن تركنوا السيارة بعد أمتار عدّة حيث توجد كنيسة، وتبدأوا بالسير على الأقدام. والطريق وحدها كفيلة بأن تدلّكم على وجهتكم. فما أن يرى السكان غرباء هنا، حتى يدركوا على الفور أنهم آتون لزيارة بجرّين التي تحولت بفضل وسائل التواصل التي تناقلت أخبارها، إلى لغز يستحق الاكتشاف».

أطلال لمنازل الأهالي الذين ذهبوا ولم يرجعوا (صفحة وي لاف جبيل ديستريكت على الفيسبوك)

لم يكن الأمر بالسهولة التي تصورناها. المواصلات إلى القرية المهجورة معدومة، وليس للزائر سوى أقدامه وحدسه، طالما لم يرافقه أحد من سكان الجوار. فالقرية تقع على تلة بين جبلين، يفصلها عمّا حولها سهول ووديان، وعن قرية حصارات القريبة وادٍ سحيق. سرنا بين الأشجار، في طريق مغطاة بالحجارة والأتربة ما يقارب نصف ساعة، لم نقابل خلالها سوى الكلاب وقطيع من الخراف. أحببنا أن نعرف إذا ما كنا نسير في الاتجاه الصحيح والحرّ يصعّب من وعورة الطريق، لكن الراعي، وهو الإنسي الوحيد الذي التقيناه، لم يبدِ رغبة في أن يرفع رأسه، ويجيبنا، أو يساعدنا. لم يبقَ من معين سوى خرائط غوغل، لتسير بنا إلى بجرّين. من بعيد وبعد أن قطعنا طرقاً ملتوية، بدت لنا الأطلال مرتفعة على تلة، وكأنها في مكان انقطع كلياً عن العالم. هل خشي الأهالي الاقتراب من هنا؟ لماذا لم ينبت منزل واحد في المحيط؟ هل هي الخشية من لعنة الاختفاء والزوال؟ هل اكتفى جيران بجرّين بأن يخيفوا أولاهم بأخبار من غابوا.

عرفنا أن ثمة إحساساً من السكان بأن لعنة تسكن المكان، ولم تعد المنطقة مرغوبة ولا يحب أن يقترب منها أحد. كما أن جهداً بُذل كي تبقى بجرّين، على ما هي عليه، لقيمتها الرمزية والمعنوية. وهذا لم يكن صعباً فالمالكون للأراضي المحيطة قلّة، وهم ربما يفضلون أن تبقى بجرّين على حالها، تزرع سهولها وتظل بيوتها مهجورة.

وصلنا بعد أن أرهقتنا الحيرة، وأخافتنا الوحشة فلا بها إنس ولا أثر لصوت بشري في هذه البّرية الجبلية الخضراء، تسلّحنا بحجارة كبيرة، خشية أن يداهمنا كلب شارد من جديد. حين تلوح لك أطلال القرية من بعيد، تشعر بالارتياح، على الأقل لم يذهب تعبك سدى.

على مدخل القرية لفتتنا غرفة يعلوها صليب وتمثال لمريم العذراء. الباب الحديدي الأحمر مفتوح. هي مجرد غرفة صغيرة، يبدو أن ثمة رجال دين يأتون هنا بين الحين والآخر، يصلّون على راحة نفوس من اختفوا. مقاعد خشبية بنية قليلة لا تتسع لأكثر من عشرة من المصلين. وخلف الغرفة مقابر قديمة ومهملة.

ما تبقى من آبارها (صفحة وي لاف جبيل ديستريكت على الفيسبوك)

نكمل تجوالنا في القرية، كنا نظن أننا سنعثر على بعض حاجيات الأهالي التي شاهدناها في الصور، لكن يبدو أن ثمة من أخذها مؤخراً. أخبرنا فيما بعد، أن أدوات كثيرة كان يستخدمها أهالي بجرّين بقيت مرمية أمام البيوت وداخلها حتى عام 2014، ومن ثَمّ تعرضت للنّهب ولم يتمكن أحد من حمايتها. يمكنك أن ترى بقايا لأوانٍ فخارية مكسرة ومدافن عتيقة لموتى لم يعد هناك من يتذكرهم. البيوت التي تراصت متناثرة، بعضها هُدمت حيطانها، لكنها جميعها تقريباً هبطت أسقفها. مائة سنة كفيلة بأن تُذيب الحجر. لم يعد من نوافذ ولا أبواب للمنازل. تلحظ بوضوح أن هناك بيوتاً متسعة وأخرى مكونة من غرفة أو غرفتين، لا أكثر. لا تخلو القرية من الآبار المحفورة التي جفّت بفعل الزمن، وخزانات مياه استخدمت لتجميع أمطار الشتاء واستخدامها في الصيف. أنت على تلة حين تزور ما تبقى من بجرّين، تنبسط أمامك السهول التي كانت ذات يوم مصدر رزق مزارعي القرية، ومن بعيد باتجاه الساحل يلوح لك البحر بأزرقه.

مشهد منازل بجرّين الخاوية، تقشعر له الأبدان. أشجار الخروب لا تزال شاهدة على الأيدي التي زرعتها. ماذا دار في رؤوس الساكنين وهم يحزمون أغراضهم للرحيل. هل كانوا ينوون العودة كما يقال، أم أنهم كانوا يعرفون أنه الخروج الأخير. وكيف يمكن لعشرات أو مئات الناس، من قرية واحدة، أن يختفوا دفعة واحدة ولا يجدوا من يخبر عنهم.

هي قرية لبنانية بكامل ملامحها رغم مرور قرن على هجرانها. بعض منازلها تحولت إلى أكوام من حجارة، حفرها الأهالي من الصخر بسواعدهم ليشيّدوا مساكنهم، فيما لا يزال أهالي القرى المجاورة حين يمرون قربها يسمعون أصواتاً يظنون أنها استغاثات أرواح أهلها الغائبين.

يقدر عدد سكان بـجرّين عام الرحيل بـ200 شخص، كانوا يزرعون التوت ويربون دود القزّ، وينسجون الحرير، ويكدّون للعيش بسلام. لكن الحرب كانت أقوى منهم، اقتلعتهم من أرضهم التي عاشوا فيها مئات السنين، وصاروا درساً يحتاجه كل من تسول له نفسه تغليب العنف والشر، على المحبة بين الأخوة في الوطن الواحد.


مقالات ذات صلة

تجار القرى الحدودية يسحبون بضائعهم بمواكبة الجيش اللبناني

المشرق العربي صورة متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي لقافلة شاحنات تخلي بضائع من مخازن في ميس الجبل

تجار القرى الحدودية يسحبون بضائعهم بمواكبة الجيش اللبناني

نظّم الجيش اللبناني بالتنسيق مع القوات الدولية عمليات نقل بضائع مخزنة في مستودعات لتجار في مناطق جنوبي الليطاني التي تشهد مواجهات عنيفة بين إسرائيل و«حزب الله»

بولا أسطيح (بيروت)
المشرق العربي من اجتماع سابق بين رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي ووفد من جمعية المصارف (الوكالة الوطنية)

مقاربة حكومية لبنانية تمدّد أزمة الودائع المصرفية لـ20 عاماً

تكشف التسريبات المتوالية لمضمون الخطة الحكومية لإصلاح المصارف في لبنان، أن أزمة المودعين ستظل مقيمة لأمد يزيد على عِقد كامل لبعض الحسابات وعشرين عاماً لأخرى...

علي زين الدين (بيروت)
المشرق العربي مؤسس «التيار الوطني الحر» الرئيس السابق ميشال عون والرئيس الحالي للتيار النائب جبران باسيل (الوكالة المركزية)

لبنان: انتخاب اللجان البرلمانية محطة لتصفية الحسابات بين باسيل وخصومه

يشكل انعقاد الجلسة النيابية في أكتوبر المقبل محطة لاختبار مدى استعداد رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل لتصفية الحسابات مع النواب الخارجين من تياره.

محمد شقير (بيروت)
المشرق العربي مودِع يحطّم واجهة زجاجية لأحد البنوك في الدورة (أ.ب)

تكسير واجهات وإضرام نيران... لبنانيون يعتصمون أمام مصارف للمطالبة بودائعهم (فيديو)

نفّذ عدد من المودعين اعتصامات، الخميس، في العاصمة بيروت وجبل لبنان، أمام عدد من المصارف للمطالبة بالحصول على ودائعهم.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي النائب كنعان خلال مؤتمره الصحافي (الوكالة الوطنية للإعلام)

إبراهيم كنعان ينضم إلى الخارجين من «التيار»: لم يبقَ أمامي إلا خيار الاستقالة

انضم النائب إبراهيم كنعان إلى قافلة الخارجين من «التيار» بين مستقيلين ومُقالين، مؤكداً أنه لم يَعُد أمامه إلا الاستقالة، بعد فشل كل المبادرات التي تقدّم بها.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

مصر: مهرجان «العلمين الجديدة» يختتم بعد 50 يوماً من السهر

ويجز في حفل ختام مهرجان العلمين (إدارة المهرجان)
ويجز في حفل ختام مهرجان العلمين (إدارة المهرجان)
TT

مصر: مهرجان «العلمين الجديدة» يختتم بعد 50 يوماً من السهر

ويجز في حفل ختام مهرجان العلمين (إدارة المهرجان)
ويجز في حفل ختام مهرجان العلمين (إدارة المهرجان)

اختتم مهرجان «العلمين الجديدة» نسخته الثانية بحفل غنائي للمطرب المصري الشاب ويجز، الجمعة، بعد فعاليات متنوعة استمرت 50 يوماً، ما بين حفلات غنائية وموسيقية وعروض مسرحية، بالإضافة إلى أنشطة فنية ورياضية متعددة.

وشهدت النسخة الثانية تعاوناً بين إدارة المهرجان والهيئة العامة للترفيه، ممثلة في إدارة «موسم الرياض»، بتقديم عروض مسرحية في العلمين قادمة من «موسم الرياض»، من بينها مسرحيات «السندباد» لكريم عبد العزيز، ونيللي كريم، و«التلفزيون» لحسن الرداد، وإيمي سمير غانم، إلى جانب حفلات غنائية منها حفل الفنان العراقي كاظم الساهر.

ومنحت الشراكة بين «موسم الرياض» و«العلمين الجديدة»، زخماً كبيراً للفعاليات، حسب الناقد الفني المصري محمد عبد الرحمن، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»: إن «تقديم العروض المسرحية يُعدّ من أهم الإضافات التي شهدها المهرجان في نسخته الثانية العام الحالي، خصوصاً مع وجود نجوم كبار شاركوا في هذه العروض».

عمر خيرت مع إسعاد يونس ضمن فعاليات المهرجان (إدارة المهرجان)

وأضاف عبد الرحمن أن «من بين الأمور المميزة في العروض التي تضمّنها المهرجان عدم اقتصار المسرحيات على النجوم، ولكن أيضاً على الشباب، على غرار مسرحيتي (الشهرة)، و(عريس البحر)، وهما العرضان اللذان لاقيا استحسان الجمهور، ما انعكس في نفاد تذاكر المسرحيات خلال ليالي العرض».

يدعم هذا الرأي الناقد الفني خالد محمود، الذي يشير إلى أهمية التعاون بين الجانبين بما ينعكس إيجاباً على المحتوى الفني المقدم للجمهور، مشيراً إلى أن «في النسخة الثانية من مهرجان (العلمين الجديدة) تحقق جزء كبير من الأحلام والطموحات التي جرى الحديث عنها بعد انتهاء الدورة الأولى، عبر مشاركة نجوم عرب في الحفلات على غرار ماجدة الرومي، وكاظم الساهر، بعد غياب لفترة طويلة».

وأشار محمود إلى «تنوع الحفلات الغنائية والفعاليات المصاحبة للمهرجان، خصوصاً فيما يتعلّق بالاستعانة بفرق الفنون الشعبية من مختلف المدن المصرية لتقديم عروضها في المهرجان بحفلات متنوعة»، لافتاً إلى أن «غياب البث المباشر للحفلات كان بمثابة نقطة ضعف لا بدّ من تجاوزها في النسخة المقبلة».

وتضمن المهرجان، الذي افتتح حفلاته الغنائية محمد منير في يوليو (تموز) الماضي، فعاليات جماهيرية كثيرة، منها الاحتفال بأبطال مصر الحاصلين على ميداليات في دورة الألعاب الأوليمبية، بالإضافة إلى إطلاق فعاليات مهرجان «نبتة»، الذي قدم أنشطة فنية وترفيهية للأطفال بمشاركة فنانين، من بينهم أحمد أمين وهشام ماجد.

محمد منير خلال حفل الافتتاح (إدارة المهرجان)

ومن بين الحفلات الفنية الكبرى التي شهدها المهرجان، حفلات عمرو دياب، وتامر حسني، وعمر خيرت، وفريق «كايروكي»، بجانب تصوير عشرات الحلقات التلفزيونية مع نجوم الفن من مصر والعالم العربي الذين شاركوا في المهرجان.

وشهدت سماء مدينة العلمين الجديدة عروضاً جوية بالطائرات في الأيام الأخيرة للمهرجان، فيما قدمت فرق متعددة من جهات وأقاليم مختلفة عروضاً مجانية لمسرح الشارع.

إحدى فرق الفنون الشعبية ضمن فعاليات المهرجان (إدارة المهرجان)

وأعلنت «اللجنة العليا» للمهرجان، في بيان، السبت، انتهاء الفعاليات بعد تحقيقه «خدمة توعوية وتثقيفية وسياسية وتنموية ومجتمعية للدولة المصرية وأبنائها بتنفيذ عدد غير مسبوق من الفعاليات الشاملة، ومشاركة جميع أطياف المجتمع المصري وفئاته العمرية والصحية والاقتصادية والتعليمية، واستقبال زوار من 104 جنسيات لدول أجنبية، وكذلك عدد كبير من المسؤولين والدبلوماسيين العرب والأجانب».

ويتوقف محمد عبد الرحمن عند إعلان المهرجان تخصيص 60 في المائة من الأرباح لدعم فلسطين للتأكيد على أن «تأثير المهرجان ليس فنياً ترفيهياً فقط، بل يحمل رسالة مجتمعية مهمة».

ويشير خالد محمود إلى «ضرورة استفادة المهرجان مما تحقّق على مدار عامين بترسيخ مكانته بين المهرجانات العربية المهمة، الأمر الذي يتطلّب مزيداً من التوسع في النُّسخ المقبلة التي تتضمن التخطيط للاستعانة بنجوم عالميين لإحياء حفلات ضمن فعالياته».