«مُسكّن الألم»... بناء السمعة والمال على أنقاض الضحايا

عائلة ساكلر المتورّطة بأزمة الأدوية الأفيونية تبيع الأمل للضعفاء

ماثيو برودريك في دور ريتشارد ساكلر (نتفليكس)
ماثيو برودريك في دور ريتشارد ساكلر (نتفليكس)
TT

«مُسكّن الألم»... بناء السمعة والمال على أنقاض الضحايا

ماثيو برودريك في دور ريتشارد ساكلر (نتفليكس)
ماثيو برودريك في دور ريتشارد ساكلر (نتفليكس)

أطلقت «نتفليكس» في 10 أغسطس (آب) الحالي، مسلسل «مُسكّن الألم» (Painkiller)، من 6 حلقات تدور حول دور شركة «بيردو فارما» (Purdue Pharma) التي تملكها عائلة «ساكلر» اليهودية، في ما يُعرف بأزمة الأدوية الأفيونية. تحاول هذه الدراما الإحاطة بكل أبعاد الكارثة التي تسبّبت بها العائلة بإنتاجها عقار الـ«أوكسيكونتن» (Oxycontin) الذي أنهى حياة مئات آلاف الأميركيين، إمّا بجرعات زائدة منه أو بالإدمان، وتبعات هذه المأساة. تجاوز عدد الوفيات، من تسعينات القرن الماضي إلى اليوم، ما يزيد على 300 ألف، عدا المشكلات الناجمة عن الإدمان، مثل جرائم القتل والسرقة والتفكك الأسري.

وصنعت «بيردو فارما» الـ«أوكسيكونتن» وروّجت له وسوّقته على أنه آمن، لا يسبب الإدمان، كما باعه الصيادلة بوصفات طبية بعد حصوله على موافقة وزارة الغذاء والدواء بطريقة ملتوية.

تبدأ كل حلقة من خمس، بين الحلقات الست، بشهادة امرأة بأنّ «هذا العمل مبني على أحداث حقيقية، لكن بعض الشخصيات والأسماء والأحداث والأماكن والحوار متخيَّلة لغايات درامية». من ثَم تذكر أنّ فرداً من عائلتها مات بسبب إدمان الـ«أوكسيكونتن» أو بجرعة زائدة منه، مؤكدة أنّ هذه النهاية التراجيدية حقيقة وليست خيالاً.

أوزو أدوبا في دور فلاورز (نتفليكس)

بداية الحلقة السادسة مختلفة قليلاً: امرأة ورجل يتحدّثان عن موت ابنهما رايلي وهو في 28 من عمره، بعد إدمانه على الـ«أوكسيكونتن» إثر إصابة في ظهره. تنتهي الحلقة بغياب المكان بموجوداته والشخصيات، ليملأ اسم «ساكلر» بحروف كبيرة بيضاء الشاشة، وينفرد بالصورة/ المشهد. لا شيء سواه أمام عينَي المشاهد، تنظران إليه وهو يتفتّت تدريجياً، من اليسار إلى اليمين، حدّ التلاشي.

مشهد صامت، مكتنز بالدلالات والإحالات، ليس على مشاهد الأحداث السابقة فحسب، بل أيضاً على ما حدث، وقد يحدث لساكلر خارج العالم المتخيّل. فالتفتُّت، أو السقوط التدريجي للاسم، يمثل العقاب الأشد قسوة لعائلة ساكلر، أشدّ من أي عقاب قانوني تستطيع تخفيفه، أو حتى منع حدوثه بنفوذها وبثروتها المليارية وبتواطؤ من المؤسّسة السياسية والتشريعية والقانونية.

الاسم، أو الإرث، كما يسميه العم آرثر ريتشارد ساكلر، المؤسِّس لصناعة الأدوية الحديثة؛ لا يقلّ أهمية عن المال، وهو كل شيء. تقول الساردة: «اشترى مجموعة أعمال فنية، وضع اسمه على أي متحف أو مدرسة أو مستشفى مقابل حصة من أمواله. هذا جعله يشعر بأنه خالد». الإرث هو كل شيء؛ تلك وصية تلاها العم آرثر على مسمع ابن أخيه الطبيب ريتشارد ساكلر الذي خلفه رئيساً لشركة «بيردو فارما».

دينا شهابي وويست دشوفني (نتفليكس)

تُحلّق عائلة ساكلر بشهرة من جناحين: الثروة والإرث الذي واظبت على مراكمته بهدف تخليد اسمها، وقد شيّدته بالاستثمار في الفنون وبالدعم والتبرّعات للمتاحف والمؤسسات العلمية والمراكز الثقافية في الولايات المتحدة والعالم، مقابل رفع اسم ساكلر على مبانيها ومتاحفها.

في نهاية المسلسل، يتفتّت الاسم ويكتمل سقوطه. أما في الواقع، فقد بدأ في السقوط من داخل محكمة الرأي العام منذ انكشاف ارتباط وباء المواد الأفيونية وضحاياه بهذه العائلة. وتبعاً لتجلّي الحقيقة، بدأت المتاحف والمؤسّسات العلمية والثقافية بالنأي عن آل ساكلر؛ إذ شهد عام 2019، إزالة إدارة متحف اللوفر في باريس الاسم من جناح الآثار الفارسية والشامية، الذي يحمل اسم العائلة منذ افتتاحه في 1997. جاءت الإزالة في أعقاب مظاهرة قادتها الناشطة والمصوِّرة الأميركية نان غولدين حول الهرم الزجاجي أمام المتحف.

كانت غولدين واحدة من المتعافين من إدمان الـ«أوكسيكونتن». وفي العام عينه، أعلنت مجموعة المعارض البريطانية (Tate) أنها لن تقبل أي تبرعات من آل ساكلر، كذلك أعلن متحف متروبوليتان في نيويورك، بشهر ديسمبر (كانون الأول) 2021 عزمه إزالة الاسم من 7 صالات عرض. وبالمثل، أزال متحف فيكتوريا والبرت في لندن الاسم من صالات العرض، ومن الفناء. وفي مايو (أيار) الماضي، أزالت جامعة أكسفورد اسم ساكلر من مبانيها.

محو الاسم موضوع مناسب لفيلم وثائقي يرصد سقوطه بعنوان «سقوط الاسم ساكلر»، المستوحى من قصة إدغار آلان بو، «سقوط بيت أشر».مسلسل «مُسكّن الألم» مستوحى من كتاب باتريك رادن كييف «إمبراطورية الألم... التاريخ السرّي لأسرة ساكلر»، ومن مقالته لصحيفة «نيويورك تايمز»: «العائلة التي بنت إمبراطورية الألم»، ومن كتاب «مُسكّن الألم... امبراطورية الخداع وأصل وباء الأفيوني في أميركا» لباري ماير.

ويست دشوفني في دور شانون شيفر (نتفليكس)

إلى قصة صناعة «بيردو فارما» لـ«أوكسيكونتن»، يتشكّل الخطاب السردي من قصص بعض من ارتبطت حيواتهم ومصائرهم وتأثّرت بالعقار القاتل، بشكل مباشر أو غير مباشر. في مركز الأحداث، يقف الدكتور ريتشارد ساكلر (ماثيو برودريك) الذي ورث إدارة الشركة عن عمّه آرثر ساكلر (كلارك كريغ)، كما ورث عنه جشعه وإيمانه بأن تسويق السلعة، يوازي صناعتها في الأهمية. تقول إدي فلاورز (أوزو أدوبا): «انتقال السلطة إلى ريتشارد كان بداية قصة الـ(أوكسيكونتن). فقد راهن على الألم وتراوده فكرة عقار مُسكّن لا يستطيع المحتاجون رفضه، ويربطونه بتحسين الرفاهية والحياة». فبعد صناعة العقار، أعدّ خطة ضخمة لتسويقه يعتمد في تنفيذها على كتيبة من مندوبات مبيعات حسناوات من طالبات الجامعة. من أولئك الفتيات شانون شيفر (ويست دشوفني)، الهاربة من أهلها في ولاية أوهايو. تلتقي بقائدة كتيبة المندوبات بريت هَفورد (دينا شهابي)، فتقنعها بالانضمام إلى فريق «بيردو فارما»، واعدةً بالامتيازات والعلاوات والدخل غير المحدود. أُوكِلَت لشانون مهمّة الطواف بالجراحين لإقناعهم بوصف الـ«أوكسيكونتن» لمرضاهم. وتجاوزت، مع سائر المندوبات، مسألة إقناع الأطباء بوصف العقار، إلى إقناعهم بزيادة جرعاته لمرضاهم.

غلين كريغر (تايلور كيتش)، ميكانيكي يعيش مع أسرته في مدينة صغيرة بكارولاينا الشمالية. تعرّض لإصابة خطيرة في الظهر، تطلّب علاجها جراحة. فبسبب ألم لا يستطيع تحمله، وإخفاق المسكن «فايكودين» في تخفيفه، وصف له الطبيب الـ«أوكسيكونتن». كانت تلك بداية انزلاقه في هاوية الإدمان الذي انتهى بموته.

تتخلّل تفاصيل عن حياتها وأخيها المسجون لترويجه المخدرات وموت أمها بسبب الإدمان؛ القصة التي ترويها الساردة إدي فلاورز (أوزو أدوبا)، المحقِّقة سابقاً في مكتب الادّعاء العام بولاية فرجينيا، حيث معظم الضحايا من العمال والفلاحين والمُعدمين؛ الهدف الأول لمروجات الـ«أوكسيكونتن».

تأتي السيدة فلاورز إلى واشنطن العاصمة بدعوة من مكتب محاماة تجمّعت لديه دعاوى ضد «بيردو فارما» ورئيسها ريتشارد ساكلر. غرض الدعوة، الاستماع إلى قصة تحقيق فريق الادّعاء برئاسة المدّعي العام جون براونلي (تايلر ريتر) عن تورّط عائلة ساكلر في وباء المواد الأفيونية، وصولاً إلى محاكمة المديرين التنفيذيين الثلاثة لــ«بيردو فارما». فلاورز تؤدّي دور الساردة، فتُخبر المشاهد قصة ميلاد الـ«أوكسيكونتن»، وآرثر ساكلر وريتشارد ساكلر، الذي تربط نجاح خطته في ترويج العقار المدمّر بـ«استغلال الثقة بين الطبيب ومريضه وبيع الأمل لأضعف الناس».

كانت فلاورز شاهدة على إجهاض العدالة داخل محاكمة انعقدت في فرجينيا إثر توفّر أدلّة تدين «بيردو فارما». وكانت مندوبة المبيعات شانون شيفر مصدر المعلومات الكافية لإدانة الشركة. عقدت المحكمة جلستها الأولى والأخيرة، ولم يحضرها فرد من آل ساكلر، بل ناب عنهم مديرو الشركة التنفيذيون الثلاثة. وانتهت بتسوية مخيبة لتوقّعات فلاورز وجمع المتظاهرين الغفير أمام المحكمة. حدّدت هذه النهاية المحبطة مكالمةٌ هاتفيةٌ في سكينة الليل من رودي جولياني، أحد محامي عائلة ساكلر، إلى الكونغرس؛ وأخرى من الكونغرس إلى البيت الأبيض، وثالثة منه إلى وزارة العدل، من ثَم إلى المدّعي العام جون براونلي الذي اضطر إلى عقد صفقة كما تقول الساردة. بموجب التسوية، وافق نواب آل ساكلر على الاعتراف بذنب واحد فقط: ارتكاب خطأ في وضع العلامة التجارية «Branding». وبهذه التسوية، تستمر الشركة بتسويق عقارها «بطريقة مسؤولة ونزيهة» تُنهي فلاورز سرد قصتها وتعود إلى بيتها. وينتهي المسلسل بمشهد تفتّت «ساكلر».

(*) ناقد وكاتب سعودي


مقالات ذات صلة

بعد توقفها... عودة خدمة «نتفليكس» لمعظم المستخدمين في أميركا

يوميات الشرق شعار منصة البث المباشر «نتفليكس» (رويترز)

بعد توقفها... عودة خدمة «نتفليكس» لمعظم المستخدمين في أميركا

كشف موقع «داون ديتيكتور» لتتبع الأعطال، عن أن منصة البث المباشر «نتفليكس» عادت إلى العمل، اليوم (السبت)، بعد انقطاع استمرّ نحو 6 ساعات.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الممثل كيليان مورفي يعود إلى شخصية تومي شلبي في فيلم «The Immortal Man» (نتفليكس)

عصابة آل شلبي عائدة... من باب السينما هذه المرة

يعود المسلسل المحبوب «Peaky Blinders» بعد 6 مواسم ناجحة، إنما هذه المرة على هيئة فيلم من بطولة كيليان مورفي المعروف بشخصية تومي شلبي.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق مسلسل «Monsters» يعيد إلى الضوء جريمة قتل جوزيه وكيتي مينينديز على يد ابنَيهما لايل وإريك (نتفليكس)

قتلا والدَيهما... هل يُطلق مسلسل «نتفليكس» سراح الأخوين مينينديز؟

أطلق الشقيقان مينينديز النار على والدَيهما حتى الموت عام 1989 في جريمة هزت الرأي العام الأميركي، وها هي القصة تعود إلى الضوء مع مسلسل «وحوش» على «نتفليكس».

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق ليلي كولينز بطلة مسلسل «إميلي في باريس» (رويترز)

لماذا تفجر «إميلي في باريس» مواجهة دبلوماسية بين فرنسا وإيطاليا؟

انفتحت جبهة جديدة في التاريخ الطويل والمتشابك والمثير للحقد في بعض الأحيان للعلاقات بين إيطاليا وفرنسا، والأمر يدور هذه المرة حول مسلسل «إميلي في باريس».

«الشرق الأوسط» (باريس- روما)
يوميات الشرق His Three Daughters فيلم درامي عائلي تميّزه بطلاته الثلاث (نتفليكس)

عندما يُطبخ موت الأب على نار صراعات بناته

يخرج فيلم «His Three Daughters» عن المألوف على مستوى المعالجة الدرامية، وبساطة التصوير، والسرد العالي الواقعية. أما أبرز نفاط قوته فنجماته الثلاث.

كريستين حبيب (بيروت)

آل الشيخ يتوج بجائزة «الشخصية الأكثر تأثيراً»

تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه في السعودية (الشرق الأوسط)
تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه في السعودية (الشرق الأوسط)
TT

آل الشيخ يتوج بجائزة «الشخصية الأكثر تأثيراً»

تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه في السعودية (الشرق الأوسط)
تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه في السعودية (الشرق الأوسط)

ملصق يحمل صورة تركي آل الشيخ بمناسبة فوزه

تُوّجَ تركي آل الشيخ، رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه في السعودية، بجائزة «الشخصية الأكثر تأثيراً في العقد الأخير» خلالَ حفل جوائز «MENA Effie Awards»، ضمن فعاليات «موسم الرياض»، تقديراً لإسهاماته البارزة في دعم وتطوير قطاع الترفيه في المملكة.

وتعدُّ الجائزةُ من أبرز الجوائز في مجال تقييم التأثير والإنجازات الإبداعية على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ تسلط الضوء على الشخصيات التي قدمت مساهمات استثنائية وذات تأثير عميق خلال العقد الأخير. ويُعد فوز آل الشيخ بالجائزة تأكيداً لمكانته بوصفه من أبرز القيادات المؤثرة عالمياً في قطاع الترفيه.