لا يحتاج الدب القطبيّ إلى حفظ سيناريو ليقدّم أجمل المشاهد وأصدَقَها. لا تصغي ملكة النحل إلى تعليمات المخرج لتؤدّي دورها على أكمل وجه. في وثائقي «Our Planet II» (كوكبُنا)، البطولة واقعية والدراما غير مفتعلة. حتى الرعب والإثارة حقيقيّان، لا تقتحمهما مؤثّرات خاصة ولا صورٌ صنعتها التكنولوجيا. من دون أن يعوا ذلك، يتحوّل الحيوانات إلى نجوم تلفزيونيّين لديهم الكثير من البطولة والقدرة على الإقناع، أكانوا من فئة النمل أم الفِيَلة.
تستثمر منصة «نتفليكس» في موسم ثانٍ من الوثائقي البريطاني، الذي يَسردُه الإعلامي البيئيّ البريطاني المخضرم ديفيد آتنبارا (97 عاماً) بصوته الآسر. ليس «Our Planet II» الوثائقي الأول من نوعه، لكن فيه ما يكفي من الفَرادة كي يخطف الأنظار والقلوب على مدى 4 ساعات متتالية. كل مشهد بمثابة لوحة، وكل فقرة من السيناريو زاخرة بمعلومة جديدة.
يتمحور هذا الموسم الرباعيّ الحلقات حول موضوع هجرة الحيوانات. يفتتح آتنبارا السرديّة بالقول: «الآن فقط بدأنا نفهم أن الحياة على الأرض تعتمد على حرية الحركة». يطلق بتصريحه هذا العنان لعشرات أنواع الحيوانات من ثدييّات، وطيور، وأسماك، وحشرات في رحلاتها الموسميّة حول الكوكب، سعياً وراء الطعام والتناسل والإباضة والأمان.
استراتيجية الصدمة والدهشة
يَحكم تَغيُّر المواسم حركة تلك المخلوقات فهي تسافر هرباً من البرد، والجفاف، وذوبان الثلج، والجوع. أما سلوكيات البشَر والاجتياح العمراني والصناعي، فهي عناصر باتت تتحكّم أكثر من أي وقت بمصير الحيوانات، حسبما يُظهر الوثائقي. لا يريد العمل أن يحاضر في الأخلاقيات البيئية، ولا أن يعطي دروساً في الأساليب الصديقة للحيوان، إلا أنه يمرر الرسائل بطريقة سلِسة وصادمة في آنٍ معاً.
يكفي أن تصوّر الكاميرا شاطئاً واسعاً على جزيرة لايسان في هاواي، وما عليه من نفايات بلاستيكية يتوسّطها الآلاف من طيور القطرس، حتى يصابَ المشاهد بصدمةٍ ممّا اقترفت اليد البشريّة. يبتلع صغار الطيور القطع البلاستيكية غير قادرين على التمييز بينها وبين الطعام، فيقضي عددٌ كبيرٌ منهم مسموماً أو مختنقاً.
لكن مقابل الصورة السوداوية التي لا يدعُها المُعدّون تغلب على الوثائقي، ثمة مساحات واسعة لإدهاش العين والفِكر. وحدَها قوافل الحيوانات السارحة زُرافاتٍ ووُحدانًا، سالكةً الدروب ذاتها التي سلكَها أجدادها لآلاف السنين، تكفي لإثارة الدهشة أمام عظمة ما يخفي هذا الكوكب الشاسع من كنوز.
يشقّ «Our Planet II» كذلك طاقة أمل للقول من خلالها، إن وعي البشر إلى أهمية عبور الحيوانات بأمان يتزايد. في جزيرة كريسماس الأسترالية على سبيل المثال، شيّد المجتمع المحلّي جسراً فوق الطريق السريعة لتسهيل مرور قوافل السلطعون الأحمر بأمان، من الغابة إلى الشاطئ حيث تضع بيضها.
أما في مدينة كونمينغ الصينيّة، فقد ساعد السكّان مجموعة من الفيَلة البرّية المهدّدة بالانقراض، في العودة إلى الغابات الجنوبية بعد أن ضلّت طريقها وكادت أن تدخل إلى البيوت والمتاجر وتحطّمها.
أمومة وعنف وعمل دؤوب
بين عالمَي البشر والحيوان، علاقة متناقضة. من الناس مَن يتحمّل مسؤوليته تجاه الطبيعة واحتياجاتها، فيما البعض الآخر يهدم ويبني ويحرق غابات ويشقّ طرقات غير مكترث بمصير البيئة. غير أن بقاء البشر مرتبط ببقاء الحيوان، وكأنّ بالوثائقي يقول: «دعوا الحيوانات المهاجرة تعبر ليستمرّ الكوكب». وإذا كان من استنتاجٍ آخر يخرج به المتفرّج بعد مشاهدة «Our Planet II»، فهو أنّ ما بين سلوكيّات البشر والغريزة الحيوانيّة نقاط مشتركة كثيرة.
كما معظم البشر، تتكبّد الحيوانات الشقاء من أجل الاستمرار. هو صراع البقاء بوجوهه كافةً ذاك الذي يصوّره وثائقي «نتفليكس»؛ من الهجرة سعياً وراء اللقمة، مروراً بالضعيف الذي يمضي العمر هارباً من أنياب القويّ، وليس انتهاءً بالأمّ المستعدّة أن تقتل دفاعاً عن صغارها.
تطير أنثى القطرس أياماً بحثاً عمّا تُطعم أبناءها، وعندما تعود إليها لا تسمح لأحدٍ سواها بالاقتراب من الزاد. لا المخاطر ولا الظروف المناخيّة توقف الأم. أنثى الحوت لا تقلّ أمومةً عن أنثى القطرس، إذ تمضي شهوراً وهي تخوض البحار وصغيرها إلى جانبها. تتأكّد من أنه أصبح متمكّناً من السباحة، وتحاول أن تحميه من حوت الأوركا القاتل. لا تُفلح في كل الأحيان، وقد تبصر الأوركا وهو يلتهم صغيرها من دون أن تستطيع فعل شيء، سوى أن تكمل رحلتها وحيدة.
بعض المشاهد شديد القسوة والعنف، لكن القاعدة معروفة سلفاً: الطبيعة تأكل ذاتها والبقاء للأقوى. هنا تمساحٌ يلتهم حماراً برياً، وهناك نمرٌ يبتلع أرنباً. أما الناجي فيكمل طريقه منتصراً إلى حيث الدفء والطعام والأمان.
الحياة في الغابات والبحار وفي غور الأرض عملٌ دؤوبٌ. مَن لا يتحرّك، يداهمه الجوع. ووفق الوثائقي، فإن النمل يعبر يومياً مسافة توازي ماراثوناً بشرياً، بهدف تجميع الطعام. ومن أجل صناعة نصف كيلوغرام من العسل، على جماعة من النحل أن تطير 90 ألف كيلومتر في يوم واحد وأن تزور مليون زهرة.
الوثائقي بالأرقام
وثائقي «نتفليكس» الجديد والآتي بعد مرور 4 سنوات على بثّ جزئه الأوّل، استغرق تصويره 934 يوماً، أي قرابة 3 سنوات. أما فريق العمل فقد فاق 200 شخص، من بينهم 50 مصوّراً زاروا 21 بلداً على امتداد القارات السبع.
ميزانيّة ضخمة ومجهودٌ أضخم أثمرا مشاهد استثنائية براً وجواً وبحراً. مَن يشاهد «Our Planet II» لا بدّ أن يخرج بوَعيٍ أكبر؛ هذا الكوكب ليس مُلكاً للبشر وحدَهم، وبقاؤهم عليه هو من بقاء الحيوانات.