على مائدة الأخوين رحباني... لحم مشوي بارد و«كوسى بحَرّ»

سعيد عقل أحبّ «مجدّرة» أم عاصي... ومنصور خدع عبد الوهاب بـ«القلقاس»

أحب منصور الرحباني الطعام الدسم ولم يكمل أي حمية بدأها (أرشيف مروان وغدي الرحباني)
أحب منصور الرحباني الطعام الدسم ولم يكمل أي حمية بدأها (أرشيف مروان وغدي الرحباني)
TT
20

على مائدة الأخوين رحباني... لحم مشوي بارد و«كوسى بحَرّ»

أحب منصور الرحباني الطعام الدسم ولم يكمل أي حمية بدأها (أرشيف مروان وغدي الرحباني)
أحب منصور الرحباني الطعام الدسم ولم يكمل أي حمية بدأها (أرشيف مروان وغدي الرحباني)

بين طاولات مقهى والدهما حنّا، تنقّل عاصي ومنصور الرحباني صغيرَين. وبين أبٍ احترف «صَنعة» المقاهي والمطاعم، وأمٍّ عُرفت بـ«نفَسها الطيّب» في الطبخ، رُسمت أولى ملامح علاقتهما بالطعام.

كان عاصي ومنصور يساعدان العائلة في مقهى «فوّار أنطلياس»، فيقدّمان الأكل إلى الزبائن ويُفرغان الطاولات بعد مغادرة هؤلاء. وفي الطريق إلى المطبخ، يلتهمان ما تبقّى في الصحون من لحمٍ مشويّ بارد، وهي عادة رافقتهما في ما بعد. فبقي لفضَلات اللحم المشويّ البارد مذاق الحنين إلى «مقهى الفوّار»، وإلى طفولةٍ زاخرة بالطعام اللذيذ رغم تواضع الحال.

عاصي ومنصور على مائدة الطعام (أرشيف مروان وغدي الرحباني)
عاصي ومنصور على مائدة الطعام (أرشيف مروان وغدي الرحباني)

في مطبخ «أم عاصي»

أخذت «أم عاصي» عن زوجها «علّوميّات» في الطبخ وطوّرتها، فكانت أكلاتها محبوبة من زبائن المطعم. يقصدون «الفوّار» من جوار أنطلياس ومن بيروت ومن مناطق أبعَد، ليتذوّقوا الأطايب من تحت يدَي سعدى الرحباني. والأطايب آنذاك كانت بعيدة عن التعقيد، قريبة من خيرات الأرض. وبالتالي كان الطعام النباتي والمقبّلات اللبنانية الخفيفة، كالحمّص بالطحينة والباذنجان المتبّل، هي التي تتصدّر المائدة.

اشتهرت طاولة المطعم الرحبانيّ بصحن البطاطا المتبّلة بالطحينة والثوم، حسبما يخبر أسامة الرحباني «الشرق الأوسط»، إضافةً إلى أكلات كثيرة بالزيت، وما يُعرَف بـ«القواطع»، أي الطعام الخالي من اللحوم ومشتقّات الحليب.

عاصي ومنصور الرحباني إلى المائدة (أرشيف مروان وغدي الرحباني)
عاصي ومنصور الرحباني إلى المائدة (أرشيف مروان وغدي الرحباني)

أما الأكلة الرحبانية العابرة للأجيال الأربعة، فهي «الكوسى بحَرّ». وهي عبارة عن شرائح رقيقة من الكوسى، مقليّة بقليل من الزيت ترافقها صلصة من الحامض والثوم والفلفل الحار والملح وزيت الزيتون، حسب الوصفة التي حفظها أسامة الرحباني عن ظهر قلب.

رغم بساطتها، شكّلت هذه الأكلة أسطورة على مائدة الرحابنة عبر أجيالهم: من حنّا الجدّ الأكبر إلى الحفيد كريم الذي يخبر «الشرق الأوسط» أنّ «كل جلسة طعام عائلية لا يمكن أن تغيب عنها (الكوسى بحرّ)»، في استحضارٍ للجدّ حنا وللأخوين عاصي ومنصور اللذَين تأثّرا بها إلى درجة أنهما ذكراها في أحد مشاهد مسرحية «لولو».

الطعام في أعمال الأخَوين

تُعدّد إلهام الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بعضاً من أكلات شقيقَيها المفضّلة: «كانا يحبّان البامية، والكبّة، والحمّص، والباذنجان المتبّل، وورق العريش، والسمك، والدجاج المحشي...». تضيف: «في بيت الوالدة، كان نصف طاولة السفرة للأكل ونصفُها الثاني للكتابة». أما خلال سهرات العمل والتأليف الطويلة، فكانت الشقيقات يتناوبن على السهر معهما: «ننتظرهما لنسهر على راحتَيهما، فنحضّر لهما الشاي أو القهوة، أو نقدّم لهما الحلوى والمثلّجات»، تقول إلهام.

غداء رحبانيّ عائليّ (أرشيف مروان وغدي الرحباني)
غداء رحبانيّ عائليّ (أرشيف مروان وغدي الرحباني)

وفق أسامة الرحباني، «كان منصور أكولاً أكثر من عاصي»، وقد اتضح ذلك منذ الطفولة. إذ كان منصور بمثابة «صبي الدليفري» في مطعم الوالد. يذهب سيراً على الأقدام إلى منازل الزبائن لإيصال وجبات الغداء، وإذا جاع في الطريق، لا يتردّد في فتح «المَطبَقيّة»، وتَذوُّق أكثر من قطعة لحم واحدة! وفي اليوم الذي كانت تطهو أمه الديك، يجلس منصور بقربها ولا يذهب إلى المدرسة، منتظراً أن تَجهز الوليمة.

انعكست تلك العلاقة المميّزة مع الطعام على أعمال الأخوين رحباني، فحضرت التبّولة ومكوّناتها في سكتش «الدكّان» من مسرحية «حكاية الإسوارة». مع العلم أنّ جلسات التبّولة عصراً كانت رائجة في ذلك الزمن.

في فيلم «بياع الخواتم»، حضر الصيادون وعصافيرُهم، التي كانت جزءاً أساسياً من مائدة الأخوين. أما مسرحية «قصيدة حب» فكثُر فيها الحديث عن الطعام. في سكتش «المطاليب»، ذُكرت أنواع طعام عدّة في الحوار بين فيلمون وهبي في شخصية «سبع» الشهيرة، ونصري شمس الدين، وجوزيف ناصيف: «الشيكالاتا مش أكل. الحلاوة مش أكل. السردين مش أكل. البسطرمة مش أكل. والنمّورة؟ النمورة فيها طحين. والساندويش؟ الساندويش إذا بلا خبز مش أكل»، وفي مشهد المصالحة، غنّى وديع الصافي «المناقيش والطلامي على التنّور».

رفاق المائدة واختبارات منصور

يعود هذا المشهد إلى ذاكرة إلهام الرحباني: «يدخل سعيد عقل إلى بيت العائلة في أنطلياس، ويسأل الوالدة سعدى: شو في غدا يا أم عاصي؟ فيأتي الجواب: مجدّرة. يعترض ممازحاً: أنا سعيد عقل بدّي آكل مجدرة؟ ما في كافيار؟»، لينتهي به الأمر ملتهماً صحناً كبيراً من المجدّرة.

كان الشاعر سعيد عقل أحد أكثر الأصدقاء قرباً من عاصي ومنصور، على المستويَين الإنساني والفنّي. وهما كانا يفتحان باب البيت للأصدقاء. ومَن أرادا تكريمَه تكريماً خاصاً، كانا يدعوانه إلى مائدة الوالدة.

جلس الموسيقار محمد عبد الوهاب مراراً ضيفاً على مائدة الأخوين. وينقل أسامة الرحباني إحدى النوادر التي جمعت والده منصور بعبد الوهاب على الطاولة، يوم تذوّق طبقاً أعجبَه كان عبارة عن قلقاس بالطحينة، فسأل: «ما هذا يا منصور؟»، فأجابه: «سمك اللقز بالطحينة»، في مزحة حريصة على عبد الوهاب الذي كان ينتبه كثيراً إلى ما يأكل ويشرب.

لاحقاً انتقلت المائدة إلى مكتب الأخوين في شارع بدارو البيروتيّ، حيث كانت جلسة الغداء اليوميّة تجمع الرفاق مثل عبد الله الخوري، وجورج جرداق، وسعيد عقل، وهنري زغيب، وغيرهم... فيطلبون الأكل من مطاعم المنطقة آنذاك كـ«بدارو إن» و«إكستاز»، وفي بعض الأحيان يخرجون للغداء أو العشاء في مطعم «العجمي» أو عند «سقراط» في الحمرا. غير أنّ المحطة الأساسية كانت مطعم «الحلبي» في أنطلياس، وهما بقيا وفيَّين لجلسته وللقمته حتى النهاية.

لم يدخل الأخوان إلى المطبخ إلا للأكل، وتركا مهمة الطبخ لسيّدات العائلة. لكنّ منصور عُرف بتجاربه واختباراته المرتبطة بالطعام، كاختبار الكبّة التي حقنها بإِبَر الزبدة السائلة والشحم من أجل تدسيمها.

وهو كان يحب الطعام دسِماً ولم يكمل أي حِميةٍ بدأها. يروي حفيده كريم أنه خلال التحضير لإحدى المسرحيات مع كارول سماحة، بدّل معها وجبات الطعام فقدّم لها وجبة الحمية حتى يأكل ما يشاء.

ومن عادات منصور بعد وفاة زوجته، أنه كان يتّصل فجأةً بعدد من سيّدات العائلة، كشقيقته إلهام، ونينا زوجة شقيقه إلياس، ويطلب منهنّ إعداد طبقٍ معيّن، كالكبّة بالصينيّة أو القلقاس مثلاً. وفور انتهائهنّ من إعداد الطبق نفسه، يتذوّق النسخ المختلفة ويُجري مقارنةً بينها، ويعلّق على كل طبَق بجدّيّةِ مَن ينتقد مسرحيّةً أو أغنية.

في البيت الرحبانيّ، الطبخ والأكل احترافٌ وإبداعٌ أيضاً. وما مشهد القبضايات في مقهى «خان المكاريّي» من فيلم «سفر برلك»، سوى تحيّةٍ لمقهى الوالد حنّا حيث بدأت الحكاية. حكايةٌ ذاب على نارها سُكّر قلوبٍ كثيرة.


مقالات ذات صلة

فيضُ الذاكرة يُجابه شحَّ المطر... الفلسطينية «بنت مبارح» تُقاوم بالموسيقى

يوميات الشرق تُعلن التزامها بنسق آخر من المعرفة يُعاش ولا يُدرَّس (صور «بنت مبارح»)

فيضُ الذاكرة يُجابه شحَّ المطر... الفلسطينية «بنت مبارح» تُقاوم بالموسيقى

ما تصنعه «بنت مبارح» هو «خريطة مؤدّاة»، لا تُقرأ في الكتب، ولا تُرسم على الورق، وإنما تنبض في الذاكرة، ونَفَس العيش...

فاطمة عبد الله (الشارقة)
يوميات الشرق المايسترو العليا متواصلاً مع الجمهور (الشرق الأوسط)

«غولدن نايت» للمايسترو إيلي العليا تكرّس الجمهور نجماً لها

على طريقة «ما يطلبه المستمعون» أحيا المايسترو إيلي العليا حفله الموسيقي «غولدن نايت». لبّى رغبات الحضور الذي احتشد بالمئات في صالة مسرح «كازينو لبنان».

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق السعودية أروى العبيد: الموسيقى تُولد من جذور الأرض وتُحلّق في الآفاق

السعودية أروى العبيد: الموسيقى تُولد من جذور الأرض وتُحلّق في الآفاق

خلال سنوات دراستها وعيشها في بريطانيا، تلمّست خيطاً ناعماً يربط الشعوب، فيتجاوز الصوت واللغة إلى المعنى. هو المعنى الذي يبحث عنه الجميع، مهما اختلفت الجغرافيا.

فاطمة عبد الله (الشارقة)
يوميات الشرق كارول سماحة مع المخرج والممثل روي الخوري خلال التدريبات (فريق عمل المسرحية)

«كلو مسموح»... ميوزيكال عالمي يُبعَث باللهجة اللبنانية

تُعدّ هذه المُشاركة نقطة تحوّل في مسيرة كارول سماحة المسرحية، التي اشتهرت بأدوار الأميرات والملكات في الأعمال الرحبانية، وشاركت في «آخر أيام سقراط» و«المتنبي».

سوسن الأبطح (بيروت)
يوميات الشرق عمر خيرت في حفل عيد الربيع بالأوبرا (دار الأوبرا المصرية)

عُمر خيرت يستعيد زخم حفلات الربيع في الأوبرا المصرية

«في هويد الليل» و«قضية عم أحمد» و«100 سنة سينما» و«ليلة القبض على فاطمة»، و«فيها حاجة حلوة»... مقطوعات موسيقية ترسخت في وجدان محبي الموسيقار المصري عمر خيرت.

محمد الكفراوي (القاهرة )

مومياء نادرة تكشف عن قوة النساء في أقدم حضارة بالأميركتين

عمرها آلاف السنوات (وزارة الثقافة في بيرو)
عمرها آلاف السنوات (وزارة الثقافة في بيرو)
TT
20

مومياء نادرة تكشف عن قوة النساء في أقدم حضارة بالأميركتين

عمرها آلاف السنوات (وزارة الثقافة في بيرو)
عمرها آلاف السنوات (وزارة الثقافة في بيرو)

اكتشف علماء آثار في بيرو رفات امرأة من النبلاء تعود إلى 5 آلاف سنة في مدينة كارال، وهي منطقة كانت تُستخدم لعقود مكباً للنفايات، قبل أن تتحوّل إلى موقع أثري في التسعينات. وهذا الاكتشاف الجديد يُضيء على الدور المهم للنساء في أقدم مركز حضاري في الأميركتَيْن، وفق الباحثين.

ونقلت «سي بي إس نيوز» عن عالِم الآثار ديفيد بالومينو، قوله لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «يتطابق ما جرى اكتشافه مع امرأة من النخبة، بدت كأنها تنتمي إلى طبقة عليا». وأشار إلى أنّ الرفات التي جرى الحفاظ عليها بشكل جيّد، لا تزال تحتفظ بالجلد وجزء من الأظافر والشَّعر، وكانت ملفوفة في كفن مكوَّن من طبقات من القماش، بالإضافة إلى غطاء مصنوع من ريش المقو؛ وهو طائر ملوَّن ينتمي إلى فصيلة الببغاوات.

وإذ شمل الجهاز الجنائزي للمرأة منقاراً لطائر المقو، ووعاء حجرياً، وسلة من القشّ، قالت وزارة الثقافة في بيرو: «تُعدُّ هذه عملية دفن استثنائية، نظراً إلى الحفاظ على حالة الجلد والشَّعر والأظافر؛ وهي حالة نادرة في هذه المنطقة التي عادة ما تُكتشف فيها الرفات العظمية فقط».

وتشير التحليلات الأولية إلى أنّ الرفات التي عُثر عليها في ديسمبر (كانون الأول) الماضي تعود إلى امرأة بين 20 و35 عاماً، بطول نحو 5 أقدام، وكانت ترتدي غطاء رأس مصنوعاً من خيوط مجدولة، وهو ما يعكس مكانتها الاجتماعية الرفيعة.

ووفق بالومينو، يوضح هذا الاكتشاف أنّ «الرجال كانوا غالباً يُعَدُّون الحكام أو أصحاب الأدوار البارزة في المجتمع»، في حين «لعبت النساء دوراً مهماً في حضارة كارال». ونشأ مجتمع كارال بين عامَي 3000 و1800 قبل الميلاد؛ أي في الوقت الذي ظهرت فيه حضارات كبرى أخرى في منطقة ما بين النهرَيْن ومصر والصين. وتقع المدينة في وادي سوب، على بُعد نحو 115 ميلاً شمال ليما و12 ميلاً من المحيط الهادي، وقد عدّتها الأمم المتحدة أحد مواقع التراث العالمي عام 2009.