أول حُكم رُفع في وجه قائدة الأوركسترا اللبنانية ياسمينا صبّاح مسَّ المظهر: لماذا ترتدين الفستان عوض البزّة؟ فالعين معتادة على رجل يلوّح بعصاه، مُطلاً بالزيّ الأسود التقليدي. تردّ بأنها ترتدي ما يريح، فالأهم هو الخلاصة.
قائدات أوركسترا من مصر وتونس، لهنّ أيضاً حكايات. صعُب الطريق، فعَبَرْن بخطى الواثقات من الهدف.
اعترض بعضٌ لكون إيمان جنيدي، امرأة من الصعيد، تغطّي شَعرها وتقود العازفين. كذلك في مصر، تشاء قائدة الأوركسترا روسيلا عادل إلهامَ نساء خوض مجال التأليف، فيتّسع الأمل. تدرك أنّ المجتمع لا يُحسن التقبّل دائماً ولا يمتهن الاحتضان. المحاولات في النهاية تثمر.
من تونس، تؤسس أمينة الصرارفي، ابنة الملحن وقائد الفرق قدور الصرارفي، أول فرقة عربية عازفاتها نساء. أربع قائدات أوركسترا يروين لزلفا عساف قصص النجاح. فوثائقي «سيدة الموسيقى»، من إعدادها وإخراجها (انتاج سكاي نيوز عربية)، يُخبر الكثير عن روح تتوق إلى الوصول وإن زُرعت الدرب بالأشواك.
تشير اللبنانية ياسمينا صبّاح إلى نعمة يغفل بعضٌ عنها: «أحمدُ الله لممارستي العمل الذي أحبّ». كانت في السادسة يوم ارتمت أصابعها للمرة الأولى على البيانو، فشعرت أنها تُحلّق. وحين قادت الكورال بعد التخصص الجامعي، وجدت ضالتها: «هذا ما أريده. هذا طريقي». منذ 2015، التحقت بكورال «جامعة القديس يوسف» وكثُرت الحفلات بالتعاون مع «الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية».
وصول إيمان جنيدي لقيادة «الفرقة القومية للموسيقى العربية» كلَّف صبراً وتحمُّل مشقات: «أتعبني بناء الاسم. أحمل رسالة لكل سيدة عربية». لاقت مَن يُنغّص، باللفت إلى أنها امرأة كثيرة الأسفار، تُذعن للسهر وما يتطلّبه من عودة متأخرة إلى المنزل بعد عمل الليالي. ترفض المعوقات: «الفن ليس شكلياً وما يقوله المجتمع. الفن هو الفن، ويكفي أنني أصل إلى الجمهور».
تصوّر زلفا عساف، وهي منتجة لبنانية نالت جوائز، مشهديات من لبنان ومصر وتونس، وتنقل بكاميرتها جوّ البروفات. تُلبس أمينة الصرارفي عضوات فرقتها زيّ التراث التونسي ويبدأن العزف. يستغرب رجالٌ ما يجري: «امرأة في هذه المكانة؟ كيف ذلك؟»؛ مقابل نساء يشجّعن «برشا». روسيلا عادل تتمعّن في النوتة وتتساءل: «هيَّ دي اتعملت إزاي؟». تخصّصت في قسم التأليف وقيادة الأوركسترا لتجد نفسها: «من خلال قيادة هذه النوتات، أفعلُ ما يليق».
راحت تقفل الغرفة، مُنفردة بنوتات مستلقية على ورق، وتلوّح بالعصا كأنّ حفلاً بقيادتها سيُقام في الغد. تذكر صعودها الأول على المسرح: «كانت اللحظة مهيبة، زادت حجم المسؤولية». تتكرر التجارب، ويبقى لوَقْع التصفيق الأول طعمٌ يعلق في الحلق؛ فريد بلذّته وخصوصيته.
يحلو لياسمينا صبّاح الحديث عن العطاء والنتيجة المشتركة: «الموسيقى لا تتشابه، ولن تكون مقطوعةٌ كالأخرى. إنما العطاء يبقى جامعاً، حين نعمل ضمن فريق ونشكّل موسيقى واحدة». تتأمل في النوتات، وتفكر: «كيف سأمنحها الحياة؟». تراهن على الرؤية، وما يمنحه قائد الأوركسترا من أعماقه ليكتمل المشهد.
بالنسبة إليها، على القائد فهم الآلات والتحضير المُكثّف. تتقاطع بالرأي مع التونسية أمينة الصرارفي الباحثة بدورها عن «عرض كامل»، فتُبرر شطحات الخيال ومدى بلوغه المساحات العريضة. روسيلا عادل تشترط احترام نصّ المؤلِّف وتفاصيل النوتة، مع تدخُّل قائدة الأوركسترا بالرؤية والإحساس.
يعدّدن ما ينجزن، وكيفية المزج بين مقطوعات عالمية وتراث الوطن. تحضر الروح المصرية في نَفَس إيمان جنيدي وروسيلا عادل الطامحتين لإلهام المصريات التشبّث بالحلم؛ والإرث التونسي بسعي أمينة الصرارفي نحو الفن الراقي. في لبنان، تنوّع ياسمينا صبّاح بين المقطوعات المعروفة والمحاطة بغموض، فيسمعها الجمهور للمرة الأولى ويُبحر في الاكتشاف.
تستعيد قيادتها «فرقة الفردوس» في «إكسبو دبي 2020»، وعزفها في بدايات الحدث ونهاياته. تألّفت آنذاك من 50 امرأة عربية، عزفن موسيقى تحاكي مزيج الشرق والغرب. السيدات الأربع نادرات بين كثرة لم تعتد تولّي امرأة قيادة الفرقة الموسيقية، بالفستان بدل البزّة السوداء. هنّ مكافحات. بينما يلوّحن بعصا القيادة، يحفرن على صخر عنيد وجودَهن المُستحَق.
تشير إيمان جنيدي إلى هذه العصا بكونها «وحدة الفرقة». تمسكها بيد وتوجّه إشارات صغيرة، باليد الأخرى، مسار العزف: «لا أعمل بالعصا فحسب، وبالنظرات أيضاً. الفرقة بأسرها تتبع يدَيّ».
وتسمّي أمينة الصرارفي العصا أداة التواصل بين العازفين والقائدة. لا تنتظم الأشياء من دونها ولا تكتمل مشهدية التناغم. روسيلا عادل تتحدث عن تحدٍّ، يُضاف إلى شرطَي الجهد والدراسة من أجل إمساك الزمام والتأكد من تناسق الوضعية. روح التحدّي القادرة على تذليل الشقاء وبلسمة التعب. برأيها، لا يبلغ الفنان مرتبة القيادة ما لم يفقه بجميع الآلات، إن عزفت بتجانُس أو على حدة. رغبتها في منح المترددات أملاً للإقدام والمحاولة، تلقى إرادة تستجيب وتُصمم.
نصحها محيطون باتّباع وجهة أخرى: «قيادة الأوركسترا للنساء، مجازفة. سوق العمل محدودة والصعوبة من كل صوب». أدارت للإحباط أذناً صمّاء. نلمح في الوثائقي الشغف وهو يحرّك القائدات نحو الجمال. تُذكّر الصرارفي بمقولة أفلاطون: «الموسيقى تُعطي روحاً لقلوبنا وأجنحة للفكر». الأربع يمنحن الموسيقى حضن أنثى.