رحيل مؤسّس أول مدرسة وسط الجزيرة العربية

ودّعت السعودية، الخميس، أحد رموز التعليم والعمل الاجتماعي والتطوّعي، الشيخ محمد بن إبراهيم الخضير، بعد رحلة طويلة فيها كثير من الكفاح والعصامية.

من حُسن حظ الأجيال الحالية والقادمة، أنّ الراحل دوَّن قبل ثلاث سنوات هذه القصص فيما يشبه السيرة الذاتية، بأسلوب ابتعد فيه عن تمجيد الذات، مقدِّماً دروساً تفوح منها رائحة الوطنية وبناء الإنسان، وهو ما أكد عليه بالقول إنّ طباعة مذكراته وإتاحة تداولها، غايتهما تعريف الجميع بأنّ المملكة عاشت حياة بعيدة عن الترف خلال فترة ما قبل النفط، محورها الأساسي، الإنسان؛ ليعيد التاريخ نفسه في عهد القيادة الحالية التي تؤكد أنّ هاجسها الإنسان وهو محور التنمية.

الملك سلمان يكرّم الشيخ الراحل محمد الخضير بمناسبة فوزه بجائزة خدمة المجتمع (الشرق الأوسط)

بالعودة إلى طفولته، استيقظ محمد الخضير من نومه في مسجد طيني بمدينة عنيزة بمنطقة القصيم، ليشاهد أطفالاً في سنّه وهم حائمون حول مُعلّم، يُمسكون بألواح للكتابة عليها. حرّك المشهد شغف التعليم في داخله، وتمنّى الالتحاق بهم للدراسة. منذ ذلك الحين، وهذه الصورة التي تمثّل إحدى مدارس «الكتاتيب» في مساجد منطقة وسط السعودية حُفرت في ذاكرة الخضير الطفل، ومعها انطلق في رحلة امتدّت لقرن، عنوانها التعليم والاستثمار في الإنسان.

الخبراء، وعنيزة، والرياض، والخرج، والظهران، والأحساء... محطات في هذه الرحلة، تتخلّلها قصص أشبه بـ«التراجيديا». كما شكّل شخوص حقيقيون في هذه الرواية الواقعية مسار حياته الغزيرة في «مزرعة أم حزم» التي أنشأها جده عام 1926؛ ولعل الإطلالة الأولى على الحياة في هذه المزرعة جعلته مُحِباً للزراعة والنخيل والأرض.

في سنّ السادسة، لاحظ أنّ والده الذي يستضيف في بيته طلبة العلم والمشايخ، يولي اهتماماً خاصاً بأحد هؤلاء الضيوف. استفسر عن السبب، فأتاه الجواب: «لأنه قاضٍ». استوضح أنّ وراء هذه المكانة العلم، الذي تأكد أنه يرفع شأن أي شخص. كان قراره التعلُّم وسلوك الطريق ليكون قاضياً. بدأت الخطوة الأولى بتعلّم القرآن والقراءة والكتابة في القرية، مثل سواه من الأطفال.

تعدّدت المحطات من الرياض فالخرج، وصولاً إلى الظهران؛ حيث عمل في شركة «أرامكو». فيها تعلّم أن يكون معلماً جاداً، عاشقاً لمهنة التدريس وتعليم الآخرين اللغة العربية، إضافة إلى إلمامه بالإنجليزية ليغدو مترجماً، بين اللغتين. وفيها أيضاً اكتسب احترام النظام والتعامل مع المشكلات.

تنقّل الراحل بين أعمال عدّة، ليلتحق بمشروع الخرج الزراعي الضخم، الذي تديره «أرامكو»، بهدف تموين القصور الملكية والرسمية بجميع المنتجات من ألبان ولحوم وحبوب وخضار.

أنشأ الخضير مدرسة لتعليم الكبار، ومكتبة سمّاها «مكتبة النور»، عرض فيها الصحف والمجلات والكتب، وافتتحها للشباب. رغبته في الاستثمار بالتعليم دفعته لإنشاء أول مدرسة للبنات في المنطقة، تلتها كلّية تطوّرت إلى جامعة «اليمامة»، وهي من أكبر الجامعات الأهلية في الرياض، ليعود إلى قريته ويهتم بالعمل الخيري، فأنشأ مكتبة عامة تحوّلت إلى مركز حضاري حمل اسم الأمير سلطان بن عبد العزيز، أصبح لاحقاً مَعْلماً مهماً ومنارة تستضيف العديد من الفعاليات؛ كما أنشأ مشروعاً تنموياً لتشغيل الفتيات، ومعهدين للعمارة والإنشاء، وخصّص جائزة سنوية لمعلمي ومعلمات منطقة القصيم قيمتها مليونا ريال.

اهتمامه بالتعليم دفعه إلى إنشاء مدارس احتلت مكانة في المجتمع، منها «مدارس التربية النموذجية» التي أسَّسها في الستينات، وأصبحت لاحقاً أول شركة مساهمة عامة في مجال التعليم، أسهمها مطروحة حالياً في سوق الأسهم السعودية (تداول).

أول مبنى لمدارس التربية النموذجية في الستينات التي تحولت اليوم أكبر مدارس البلاد (الشرق الأوسط)