عندما يريد أحدهم الإشادة بطعام مطعمٍ ما يقارنه بصورة عفوية بأكلات البيت. فيقول: «الطعام لذيذ كأنه شغل بيت». فهو يرتاد المطاعم بحثاً عن هذا الصنف من الأكلات بدل تحضيره في المنزل. فلماذا هذا التناقض في الأفكار، لا سيما أن تناول الطعام في البيت أقل تكلفة وأطيب؟
ثمة أشخاص يقصدون هذا المطعم بدلاً عن آخر، لأن لديه هذه الميزة. فيتذوّق طبق الباستا و«الأرز على الدجاج» أو المتبلات على أنواعها، وهو يردّد «شو بيشبه أكلات أمي».

الخبير والمستشار في الصناعات الغذائية بشارة العلم يشرح أسباب هذه الظاهرة. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «تعود أسباب الظاهرة إلى ما يعرف بـ(الذوق المكتسب). فعندما يعتاد شخص ما على تناول طعام والدته لأكثر من 20 سنة، يكون لديه ثابتة أنه الأفضل في العالم. وهذا الأمر يدخل على صناعات أخرى كالقهوة مثلاً. فهناك من اعتاد تناول نوع قهوة معيّن في بيته، فيدمن على تناولها دائماً وبنفس طريقة التحضير».
ويشير العلم، الذي يعرفه الناس من خلال صفحته الإلكترونية «براند أوبتيمايزر»، إلى أن مطاعم عدة في لبنان تنطلق من هذه الفكرة لتجذب زبائنها. ويتابع في سياق حديثه: «مطعم (أم شريف) مثلاً استطاع أن يحصد كل هذه النجاحات بسبب مطبخه. فهو يحضّرها لتشبه إلى حدّ كبير أطباق أمهاتنا. وكذلك الأمر بالنسبة لمطاعم أخرى معروفة في بلدات لبنانية. فيحترمون مكونات وأسلوب تحضير الطبق ليقدّم تحت عنوان الأصالة. فلا يلعبون بالنكهة الأصلية، خصوصاً التي تشكّل الأطباق الرئيسية على المائدة اللبنانية».

أما لماذا لا يحضّر هؤلاء الزبائن الأطباق في منازلهم بدلاً من تناولها في المطعم؟ يوضح بشارة العلم: «هناك حنين دائم لهذه الأكلات عند كثيرين من الناس. والأم هي السبب الرئيسي لهذا الشوق والبحث الدائم عمَّا يُذكِّرنا بأطباقها. وأحياناً تغيب الأم وترحل عن أولادها فتبقى نكهات أطباقها عالقة في الذاكرة. ومرات تتقدّم في العمر ويصبح من الصعب تحضيرها الطعام. كما أن هناك من يحب حتى عندما يرغب في تناول الطعام خارج منزله أن لا تفارقه نكهة الأم».
مطاعم عديدة في لبنان تدخل في أدق التفاصيل في عملية تحضير الأطباق في مطبخها. وهنا يشرح بشارة العلم: «هناك أصحاب محلات يتمسكون بنوع بهارات معين لا يبدّلونه لأن أهالي مناطق لبنانية محددة اعتادوا على نكهتها في الطعام. فأي تفصيل صغير في الطبق يمكنه أن يشدّ الزبون أو أن يُبعده عن المطعم. وهو ما يستلزم تخطيطاً دقيقاً ودراسات قبل اتخاذ قرار فتح مطعم ما».
ويؤكد بشارة العلم أن الطباخين أنفسهم يعترفون بتأثرهم بطبخ والداتهم. وهناك من يضع صورتها في مطبخه للإشارة إلى ذلك بوضوح. ومن بينهم الشيف مارون شديد. فصورة والدته جورجيت يحفظها في مطبخه وتتصدّر مطعمه في بيروت.
ويلاحظ اليوم عند جيل الشباب التحاقهم بمطاعم حديثة تقدّم «أكل البيت» بتغليفة جديدة. ويعلّق بشارة العلم: «مزاج الشباب في اختيار الطعام تبدّل كثيراً عمَّن يتقدمونهم في السن. فجيل العقد الخامس والسادس لا يزال يرتاد المطاعم التي كان أهاليهم يأخذونهم إليها. وبالتالي فهو لم يتعرّض للعولمة أو الغوص فيها كالشباب. فالجيل الصاعد مطّلع بشكل كبير على مطابخ محلية وأجنبية. ويحبّ اكتشاف نكهات جديدة. كما أن أمهات هذا الجيل بالتحديد ليس لديهن الوقت الكافي لتحضير أطباق تستغرق الوقت. وذلك بسبب عمل الأكثرية منهن خارج المنزل. فيعتاد الأولاد لاشعورياً على أطباق الباستا والستيك والبرغر. ولذلك عندما ينوي تناول الطعام خارج منزله يختار هذا المطعم الحديث. كما أن بعض المطاعم عرفت كيف تقدّم الطعام الذي يجمع بين الأصالة والحداثة، وهو ما نسميه الفيوجن، وتشتهر به محلات كثيرة كـ(بابل). ولكنني شخصياً أفضّل أن يتعرّف أولادي على هوية المطبخ اللبناني الأصيل، فيعودون إلى الجذور من خلال الطعام الذي يتناولونه».
إذن، التغيير في أسلوب الاستهلاك الغذائي بسبب إيقاع حياة سريع أثّر بشكل أو بآخر في خيارات شبابنا، فيما يخص أصناف الطعام التي يتناولونها. وهو ما ولّد مساحة حرية أكبر عندهم. وصار وحده يقصد هذا المطعم أو ذاك لتذوق منقوشة أو ساندويش شاورما أو طبق ما. وهي عادات يتوارثها الأولاد عن أهاليهم. ومن كان من الجيل الماضي يستمتع في جلسة طعام مع الأصدقاء في مطعم «رودستر» مثلاً، صار أولاده يعرضون عليه التغيير، فيقصدون معه مطعم «تشيز أون توب» لأنه يحاكي عصر العولمة الذي نعيش فيه.










