«Badguèr» يُرفق الأطباق بأنشطة ثقافية تُحيي التقاليد

«حكاية الحبّ العظيم» بنكهة الإرث الأرمني في بيروت

أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)
أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)
TT

«Badguèr» يُرفق الأطباق بأنشطة ثقافية تُحيي التقاليد

أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)
أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)

تُكثِر المهندسة المعمارية، أربي منكاساريان، سرد حكايات الماضي لسبب قد لا يفهمه مَن يظنّ أنه يقصد مطعمها «Badguèr» في منطقة برج حمّود، مدينة الأرمن في لبنان، لمجرّد تناوُل الطعام. الآتي، سيسمع. لا بدّ أن يلمح في عينَي الأرمنيات المنكبّات على إعداد الأطباق، بريقاً على شكل مرايا تعكس الصور. جميعهنّ لا يعددن الأكل لملء البطون، بل لإحياء الإرث والتباهي به. الأكل تذكيرٌ بأنّ النجاة تشكّل تمريناً على الحبّ، وإن عذَّبت أحمال الذاكرة وأثقلت المسار.

أبعد من مجرّد تناوُل طعام (صور أربي منكاساريان)

يتجاوز المطعم التذوُّق إلى مُراكمة التجربة. مبناه من طبقتين: الأرضية تفترشها الطاولات والكراسي، وفي أرجائها يُلمح انهماك النساء الأرمنيات من أجل تحضير القوائم اللذيذة. وفي الطبقة الأولى، مساحة ثقافية تشكّل متنفّساً لحرفيين وفنانين لعرض ما يُنجزون. تقول أربي منكاساريان لـ«الشرق الأوسط» إنّ المشهد بأسره يمثّل الحاجة إلى نشر الحبّ. فما تبتكره الأنامل من أحذية، وحقائب، ومجوهرات، وسائر الحِرف التي يشتهر بها الأرمن ويُجيدونها، مردُّه شغف التميُّز والإبقاء على الإحساس بجدوى الحياة. تلك الحياة المسلوبة من أسلافهم، فقرّروا مَنْحها بعظمة الحبّ على هزيمة الموت.

من اليمين... أربي منكاساريان وضيوف المطعم (حسابها الشخصي)

كبُرت أربي منكاساريان وهي تسمع الحكايات وتمتلئ بها. وبين القصة والأخرى، تحدُث استراحة مع الرقص والموسيقى. فالمكان حيث نشأت وأقامت ألِفَ النغمات وأحبَّها وجعلها بعض عاداته. «تهجَّر الأرمن، وتهجَّر معهم تاريخهم وثقافتهم. منذ الطفولة وأنا أتأمّل هذه المعادلة. سمعتُ ورأيتُ، ونشأتُ على وَقْع السرد. حفظتُ الحكايات وسجَّلتها ذاكرتي. رسّختُها لرفضي النسيان».

وُلد المطعم عام 2010 من دون تخطيط مسبق، ليصبح جامع الناس على الأكل الأرمني. اشترت منكاساريان عقاراً صدَفَ أنه عُرض للبيع، أملاً في إيجاد مساحة لهو لوالدها التسعيني المولع بلعب الطاولة واللَّمة مع الأصدقاء. ثم وجد المكان نفسه يتحوّل إلى مساحة حكواتية. كل طبق يُخبر قصة. وكل يد تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه والتعريف به. تقول المؤسِّسة إنّ الوافدين إليها بغالبيتهم أرمن، لكنّ ذلك لا يمنع الآخرين من تذوُّق ما هو أبعد من طعم. إنها مشاركة التجربة والنبش في الذاكرة. «حتى غير الأرمن تلفحهم رائحة التراث، ويكرّرون الزيارة. يجدون في المكان حكاية أجيال تجترح الإرادة من الاضطهاد والإصرار من الإبادة. ما تُقدّمه مُعدَّات الطعام ليس شكله وطعمه فحسب، بل الأهم روح أرمينيا».

يتجاوز المطعم التذوُّق إلى مُراكمة التجربة (صور أربي منكاساريان)

تروي تاريخ أسلافها، وتُبحر في التفاصيل. عن الأم المثقفة والجدّات مُتكبّدات المرارة. وعن الأحياء والناجين رغم قسوة ما حصل. الذاكرة مُحمَّلة بما قد يزن جبلاً. بمَن أُرغموا على ترك الأحبّة في منتصف الطريق نحو النجاة، ووجدوا أنّ الالتفات إلى الخلف مُكلف، وقد يدفعون ثمنه حيواتهم، فأكملوا السير. تتحدّث وتتحدّث وتتحدّث. تبدو كمَن يُقلّب صفحات كتاب. وكمَن يسرح أمام فيلم يُخبر الحكاية من البداية.

الأطباق بمثابة حكواتي ينتظر مَن يجتمع حوله ليحدُث البوح. «المائدة أرمنية، وعلى الإرث أن يبقى حياً». خلاصة حكايات أربي منكاساريان تصبح على هذا النحو: «خسرنا الأرواح والفرص والأرض. بعض أفراد العائلة لم يتعرّفوا إلى بعضهم الآخر. فرّقتهم السنوات. طعم المرارة الإنسانية جرّاء الحروب والانفصال والموت، يعلَقُ في الحناجر. حين تتعاظم الخسائر ينمو الحبّ. مَن رحلوا علّمونا الحبّ الكبير».

الطعام لإحياء الإرث والتباهي به (صور أربي منكاساريان)

هذه فلسفة «Badguèr» (يعني باللغة الأرمنية «صورة»)، وروحه المتداخلة بروائح البهار والوصفة الخاصة. «كما أحبّونا ورحلوا، نريد للحبّ أن يبقى. جعلونا نحبّ الأرض والموسيقى والفن والثقافة. لذا انقسم المكان إلى مساحة لحفظ الإرث الغذائي، وأخرى لحفظ الإرث الثقافي والحِرفي. جميع مَن أعمل معهم لديهم حكاية. أمي وعائلتها، وأبي وعائلته، وأنا».

مساحة ثقافية تشكّل متنفّساً لحرفيين وفنانين (صور أربي منكاساريان)

راقبت الأرمن وهم يحوّلون العادي إلى ابتكار. والدها رسام، عمل في سكة الحديد قبل التقاعُد. ووالدتها مولعة بالفنون. «من المهارات التي نشأتُ عليها، أردتُ جزءاً من المكان أن يتحوّل إلى فضاء للإبداع». مع الأكل، تُقام حفلات موسيقية وأنشطة ثقافية واجتماعية: «بالموسيقى نُحيي الحبّ العظيم. وبكل حقيبة أو قطعة مجوهرات أو حذاء يُصنَع. حفظُ الإرث الأرمني الغذائي والحِرفي هو ما يُبقي المطعم حياً طوال هذه السنوات».

المشهد بأسره يمثّل الحاجة إلى نشر الحبّ (صور أربي منكاساريان)

تنظر في عيون الآتين من أجل ذلك البريق الذي أمضت العمر تبحث عنه وتتوق إلى إيجاده وسط كل ما فُقِد: «أسمّيها الحرارة، وأراقب الوجوه من أجل أن أحظى بها. خليط ثقافتي الأرمنية وعلاقتي الفريدة بلبنان يمنحان الحبّ في داخلي قيمته. أحتكُّ بالإنسان لأتبادل معه مكنوناتي. الأرواح التي خسرناها علّمتنا أن نستعيدها في كل طبق، ومقطوعة تُعزَف، وصوت يغنّي، ويد حِرفيّ أرمنيّ تحوّل المادة إلى مهارة».


مقالات ذات صلة

المطبخ العراقي على لسان السفراء الأجانب

مذاقات الطريقة التقليدية لطهي سمك المسكوف (أ.ف.ب)

المطبخ العراقي على لسان السفراء الأجانب

في مقطع فيديو ظهر السفير البريطاني لدى العراق ستيفن هيتش الذي يجيد ليس اللغة العربية فقط، بل اللهجة المحلية العراقية ظهر مع وزيرة الداخلية البريطانية...

حمزة مصطفى (بغداد)
مذاقات الشيف حسين حديد يوقّع أطباق المتحف (إنستغرام)

«بافيون كافيه»... ينبثق من متحف على المستوى الرفيع

مهما خطر على بالك من أفكار حول مطعم ينبثق من متحف وعلى المستوى الرفيع، فإن ما ستراه في «بافيون كافيه» سيفاجئك. أجواؤه الراقية مطعّمة بأنامل سيدات لبنانيات

فيفيان حداد (بيروت)
مذاقات دادان لفنون الطهي في العلا (الشرق الأوسط)

العُلا تفتتح مركز «دادان لفنون الطهي»

اكتسبت حركة «سلوفود» العالمية زخماً جديداً مع افتتاح مركز «دادان لفنون الطهي» في العلا، وهي خطوة مهمة تحتفي بأساليب الزراعة المستدامة وتقاليد الطهي المحلية.

«الشرق الأوسط» (العلا )
مذاقات الشيف المغربي فيصل بطيوي (الشرق الأوسط)

«تابل 3» في دار البيضاء يفوز بجائزة أفضل مطعم صاعد

نال مطعم «Table 3» في الدار البيضاء بالمغرب على جائزة One To Watch Award American Express التي تندرج تحت أفضل 50 مطعماً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لعام 2025.

«الشرق الأوسط» (لندن)
مذاقات البروكلي (بكسيلز)

نصائح الطهاة لأفضل طرق طهي البروكلي

تتسع المساحة التي يحتلها البروكلي على مائدة الطعام المصرية يوماً بعد يوم فقد أصبح ضمن قائمة الخضراوات التي تجتذب كثيرين بشكل لافت خلال السنوات القليلة الماضية

نادية عبد الحليم (القاهرة)

جنيف تطلق دليل مطاعم هديةً لزوّارها

بليلة في جنيف يقدم المأكولات اللبنانية بلمسة عصرية (الشرق الأوسط)
بليلة في جنيف يقدم المأكولات اللبنانية بلمسة عصرية (الشرق الأوسط)
TT

جنيف تطلق دليل مطاعم هديةً لزوّارها

بليلة في جنيف يقدم المأكولات اللبنانية بلمسة عصرية (الشرق الأوسط)
بليلة في جنيف يقدم المأكولات اللبنانية بلمسة عصرية (الشرق الأوسط)

أطلقت مدينة جنيف دليل مطاعم هدية لزوّارها، وتولّى خبير الطعام سيباستيان ريباري إعداده بعناية فائقة. ويضم الدليل 60 مطعماً ومقهى تمّ اختيارها بعناية من أكثر من 160 مطبخاً حول العالم، ويستعرض هوية فن الطهي المميزة في جنيف، بدءاً من المطاعم الفاخرة الحاصلة على نجوم «ميشلان»، وصولاً إلى المقاهي الصغيرة وأكشاك المأكولات الشعبية المفعمة بالحياة.

ويُعدّ هذا الدليل تكريماً لدور جنيف، بوصفها وجهة تجمع تجارب الطعام المحلية والعالمية؛ حيث يُمكن للزوّار من مختلف أنحاء العالم الاستمتاع بأطباقهم المفضلة واكتشاف براعة المدينة في المزج بين المأكولات السويسرية التقليدية والأطباق العالمية بطرق مبتكرة.

لا بونبونيير المعروف في جنيف (الشرق الأوسط)

وعلّق الشيف سيباستيان ريباري: «هذا الدليل بمثابة هدية من صديق! دليل سيرافقكم في رحلتكم لاكتشاف أبرز وأرقى وجهات الطعام في جنيف».

وفي حديثه عن تجربته حول إعداد هذا الدليل، أضاف: «لطالما كان الطهي بالنسبة لي وسيلةً للتعبير عن الحب، واستقبال الضيوف بحفاوة، وتقديم أشهى المأكولات التي تُضفي متعة المشاركة على تجربتهم. ومن خلال إعداد هذا الدليل، تمكّنت من إعادة اكتشاف المدينة التي قضيت فيها طفولتي، والتعرُّف على عالم الأطايب الذي تحتضنه. وآمل أن يُشكّل هذا الدليل مصدر إلهام لكم لاستكشاف قطاع المطاعم النابض بالحياة في جنيف، والاحتفاظ بذكريات لا تُنسى».

من أطباق بليلة اللبناني في جنيف (الشرق الأوسط)

وُلد ريباري وترعرع في جنيف، وحقّق مسيرة مهنية لامعة من خلال العمل مع نخبة من خبراء فن الطهي في فرنسا ودول أخرى. وقاده التزامه بالطهي المستدام والمسؤول إلى المشاركة في تأسيس منظمة «Chefs4ThePlanet»، إضافة إلى إصدار كتابه الشهير بعنوان «L’ami des chefs».

وأدّى تعاونه مع مؤسسة «جنيف للسياحة والمؤتمرات» إلى إطلاق دليل يُبرز تميّز جنيف في عالم الطهي، ويعكس انفتاحها على ثقافات متعددة.

وقال الرئيس التنفيذي لمؤسّسة «جنيف للسياحة والمؤتمرات»، أدريان غينيه: «تفتخر مدينة جنيف بقطاع مطاعم استثنائي، يتراوح بين المطاعم الفاخرة الحائزة على نجوم (ميشلان) والمقاهي الشعبية المفعمة بالحياة. يضمّ دليل سيباستيان ريباري 60 مطعماً ومقهى مميزاً، يعكس تنوّع تجارب الطعام في المدينة وشغفها بفن الطهي. كما يُعدُّ دعوةً لاستكشاف جنيف، والاستمتاع بأشهى أطباقها، والاحتفاء بتنوّعها الفريد في عالم الطهي».

مطعم ليه أرمور الشهير بطبق «الفوندو» (الشرق الأوسط)

ومن بين المطاعم المميزة المذكورة في الدليل، يلمع اسم مطعم ليه أرمور (Les Armures) العريق، الذي يشتهر بتقديم «فوندو الجبنة السويسرية» و«جبنة الراكليت»، إلى جانب مطعم لاتولييه روبوشون (L'Atelier Robuchon) الحائز على نجمتَين من دليل «ميشلان»، الذي يُحافظ على إرث جويل روبوشون في فن الطهي. يضم الدليل وجهات طعام فاخرة أخرى، منها مطعم بليلة، الذي يُقدم أطباقاً لبنانية بنكهات متوازنة، ومطعم لو بان مي، الذي يدلّل ضيوفه بتشكيلة من المأكولات الفيتنامية الشعبية، ومطعم لا بوفيت دي بان دي باكي المحبوب، الذي يقع على ضفاف البحيرة، ويشتهر بتقديم تجربة مميزة لـ«فوندو الجبنة».

جنيف الشهيرة بالشوكولاته المميزة (الشرق الأوسط)

أمّا بالنسبة إلى عشّاق الحلويات، فبإمكانهم تذوّق الشوكولاته المحضّرة يدوياً والحلويات المبتكرة بأسلوب مميز في باتيسري دو رون ولا بونبونيير (La Bonbonniere) و شوكولاتييه (Chocolatier)، فضلاً عن الاستمتاع بتجربة شاي بعد الظهر البريطانية الأصيلة في مطعم ويندوز (Windows) المُطلّ على بحيرة جنيف الأخّاذة.