يسميها اللبنانيون «الترويقة»؛ لأنها تمثل الوقت الصباحي لتناول الطعام بهدوء، فيتفننون بتحضير أطباقها كي يتلذذوا بطعم أكلات تندرج على لائحتها. «الترويقة» أو وجبة الفطور الصباحية تعود إلى عادة قديمة رائجة في القرى، فكان الأهالي يعطونها الوقت الكافي من يومهم الطويل، ليتوجهوا من بعدها إلى عملهم الزراعي وهم مزوَّدون بالطاقة والشعور بالشبع. وكانت تتألف عادة من البيض المقلي الطازج مع لحم القاورما المحضّر بالسمن البلدي، ومن مشتقات الحليب كالكشك والجبن و«اللبنة المكعزلة» المكبوسة بزيت الزيتون. ويرافق هذه الأطباق خبز التنور أو «المرقوق» المشهور في القرى اللبنانية.
اليوم، بات اللبنانيون يقصدون مطعماً أو مقهى لتناول فطور غني بأطباقه، فتحضيره في البيت يستغرق الوقت، ويفضلون استبدال مائدة جاهزة به، تنتظرهم ضمن «بوفيه» في فندق، وكذلك في مطاعم مختصة بتقديم «الترويقة» الشهية.
وتُعدّ «ترويقة الست بلقيس» من بين الأشهر في بيروت. وصاحبة الفكرة بلقيس عثمان أرادتها شاملة وغنية بمكونات بلدية. «كل منتجاتي من مونة وغيرها منبعها مناطق لبنانية. بعد القطاف أوضبها كي تكون جاهزة للاستعمال. إنها هواية عندي وُلدت معي منذ الصغر».
هكذا تختصر بلقيس فكرة الترويقة التي تستقطب اللبنانيين من كل حدب وصوب. وفي مطبخها الكائن بمنطقة خلدة تستقبل زوارها، فهم يتصلون بها مسبقاً لحجز أماكن لهم، ولا سيما أن المكان لا يتسع سوى لخمسين شخصاً فقط.
تقول، لـ«الشرق الأوسط»، إن فكرتها بدأت من خلال تحضيرها المونة اللبنانية. «كنت أجوب لبنان من شرقه إلى غربه كي أُحضّرها. أرفض شراء الخضر والفواكه من الأسواق العادية، لذلك كنت أتوجه إلى هذه القرية أو تلك كي أختار ما يناسبني من زراعاتها. تطورت الفكرة وتوسعت إلى حين زيارة الشيف جو برزا مطبخي، عندها اقترح عليَّ الاستفادة من مونتي وأن أنظم أوقات فطور يومية».
هكذا انطلقت بمشروعها الصغير بعدد طاولات لا يتسع لأكثر من 20 شخصاً، أما اليوم فتوسع مطبخها ليستقبل نحو 50 شخصاً.
وعندما تُلقي نظرة على «ترويقة الست بلقيس»، المشهورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ستُفاجأ بأعداد الأطباق التي تتضمنها، وكذلك بطريقة إعدادها إياها، ولا سيما من مربيات تُصنع على نار الحطب.
معجنات ومناقيش ومربيات وفول مدمس وأنواع مخللات وأطباق البيض؛ من عجة وغيرها، تنتظرك في «ترويقة الست بلقيس».
وتخبر «الشرق الأوسط»، قائلة: «لديَّ أكثر من 50 صنف طعام على لائحة الفطور اللبناني الأصيل. وما يميزها جميعها أنها مصنوعة من مكونات (بيو) طبيعية مائة بالمائة. ولكلّ موسم ثماره ومنتجاته التي أحفظ بعضها في حاويات (مراطبين) زجاجية. فبعض رواد مطعمي يحبون شراءها بوصفها مونة يحتفظون بها في منازلهم، ويفتخرون بتقديمها لضيوفهم في مناسبات كثيرة».
3 نساء يساعدن بلقيس في تحضير «الترويقة» اللبنانية. «وهناك 300 امرأة غيرهن يتوزعن على مناطق البقاع وعكار والشوف يوضبن مكونات المونة الخاصة بـ(ترويقة الست بلقيس)».
تقول إنها تختار أنواع الزيتون من أخضر وأسود من منطقة الشمال، في حين تجمع التفاح والجوز ولحم القاورما «لحم غنم المقلي» من نيحا الشوف. ومن بلدة ليسا في منطقة جبيل الساحلية تشتري السفرجل ودبس الرمان، ومن بلدة شمسطار البقاعية تقطف الباذنجان والمشمش، وتحوز أفضل أنواع الكشك البلدي. أما عكار فتعدّها أفضل عنوان لصناعة جبن «الشنكليش» اللذيذ. وحامض الحصرم تجلبه من البقاع الغربي المشهور بزراعة العنب.
مرات تحمل بلقيس مكونات «الترويقة» معها إلى خارج لبنان. «أُنظم حفلات فطور في بلدان عربية عدة. وبدايةً، كنت أنام بين الزعتر والزيتون والنعناع وكأنها أولادي. اليوم نظمت مطبخي ورتبته كي يصلح لتحضير فطور في لبنان وخارجه. أحمل معي مونتي الخاصة في أسفاري كي تكون الترويقة نسخة طبق الأصل من تلك التي أحضرها في بيروت. زبائني من سياح عرب وأجانب يرددون أنه حتى طريقة تقديمي أطباق (الترويقة) تختلف عن غيرها في المطاعم عامة».
في صحون مصنوعة من الفخار، تصطف أصناف «ترويقة الست بلقيس» على المائدة. وبين مسبّحة الحمص وفتة الفول والباذنجان و«البيض عيون» أو مع القاورما ومناقيش محضرة بطحين اللوز، يبدأ مشوار زائرها.
وعندما تسأل بلقيس: لماذا لم تختر منظر البحر في خلدة كي يطل عليه مطبخها، تردُّ بسرعة: «لأنني لا أرغب في أن يتلهى الناس بمشهدية أخرى غير أطباقي، فهم بذلك يركزون أكثر على أصناف طعام أقدّمها لهم ويتذوقونها بسعادة».