تحظى الهند بتاريخ طهي ثري بمأكولات متنوعة تأثرت بمناطق وثقافات وأديان مختلفة. وتعد مسألة حفظ الطعام عنصراً أساسياً من المطبخ الهندي، وجرت ممارستها قروناً عدة لضمان إمكانية تخزين الطعام واستهلاكه على امتداد فترة أطول. وفيما يلي بعض السبل القديمة التي لا يزال الهنود يستخدمونها لحفظ الطعام:
التخليل
لطالما كانت المخللات جزءاً من الثقافة والتاريخ الهندي منذ 400 عام، بل يذهب البعض إلى أن يَعُدَّ هذه العملية قديمة قدم الحضارة الهندية نفسها. بدأت القصة بتمليح ومعالجة الطعام في محلول ملحي لحفظه خلال الرحلات الطويلة.
المعروف أن الملح والوقت يكسران الخضراوات والفواكه بشكل طبيعي ويحفظونهما. وتتولى البكتيريا الجيدة تفكيك السكريات وتكوين حمض اللاكتيك، ما يحافظ على الخضراوات والفواكه المستخدمة في التخليل. وتوفر أشعة الشمس المباشرة والإضاءة المحيطة الدفء اللازم للبكتيريا للقيام بعملية التخمير التي تستغرق ما بين 15 يوماً إلى شهر.
ويمكن تحضير المخللات باستخدام مجموعة واسعة من المكونات، بما في ذلك المانجو والليمون والجزر والبصل.
ومن جهتها، شرحت شوبهرا تشاترجي، مؤسسة موقع «@tonsvalleyshop» كيف أن عمليات تخليل بكميات ضخمة تجري داخل ولاية البنجاب الهندية. ومع ذلك، داخل البنغال، هناك كثير من الصلصات التي تُنْتَج هناك، لكن توجد طرق حفظ أخرى تعتقد شوبهرا أنها أهم، وأكثر شيوعاً كانت تستخدمها جدتها (ناني) وكذلك والدتها، أبرزها طريقة شائعة جداً بالمناطق الجبلية وهي: التجفيف بالشمس.
التجفيف بالشمس
يعد تقليداً طويل الأمد لحفظ الطعام، ويعمل على تقليل نشاط الماء، ما يمنع نمو البكتيريا. كما يتيح هذا الأسلوب في الحفظ نقل الأطعمة بسهولة من مكان إلى آخر؛ لأن التجفيف يقلل الوزن.
عادة ما يلجأ لهذا الأسلوب سكان التلال، ويستخدمونه مع الخضراوات، مثل الطماطم والكرنب واللفت (السيقان والأوراق) وأوراق الخردل، إلى جانب الخضراوات البرية الأخرى من أجل تناولها في الشتاء. في إطار هذا الأسلوب، يجري غلي بعض الخضراوات في الماء أولاً، ثم تجفيفها بالشمس.
وأشار باحثون إلى أن الأشخاص الذين يعيشون في ظروف قاسية في هذه المناطق يتولون تجفيف لحوم الحيوانات عن طريق تعليقها. وتُدهن شرائح اللحم بالكركم والملح وزيت الخردل، وتُربط بخيوط في جميع أنحاء الغرفة.
في هذا الصدد، شرحت بهافنا كاركي، الباحثة لدى مركز «دي إم إم سي» أن «هذا الأسلوب في الحفظ يُعرف باسم آرجي. وفي إطاره، يجري تحضير النقانق من اللحوم الحيوانية، باستخدام أجزاء لا يجري تناولها بشكل عام».
وتعد هذه إحدى الطرق التقليدية التي لا تزال مستخدمة في الهند. ومن خلال التخلص من الرطوبة، يحول تجفيف المنتجات الغذائية دون ظهور الجراثيم والخمائر والعفن. وقد جرى استخدام هذه الطريقة قروناً عدة، وما زالت تُستخدم حتى اليوم، ليس بسبب الحاجة إلى الحفاظ على الطعام، وإنما لأن العادات استمرت، وسمحت بإعادة إنتاج هذه الأطعمة الشهية.
وأضافت كاركي: «غالباً ما يجري تعليق اللحم كذلك داخل المطبخ، ويضفي الدخان المنبعث من الموقد عليه نكهة دخانية مميزة، ما يجعل الناس تستمتع به بشدة. وفي الوقت نفسه، فإنه يطيل أمد العمر الافتراضي للحوم».
ومن ناحية أخرى، يجري اعتماد طرق فريدة أخرى لتخزين الخضراوات النيئة. على سبيل المثال، يجري رش البطاطس والزنجبيل والكركم بعصير الليمون وحفظها في حفر تحت الأرض مغطاة بالقش في بداية فصل الشتاء. كما يجري تجفيف زهور الرودودندرون بالشمس واستخدامها في وقت لاحق لتحضير المخللات أو الصلصة.
ولننظر على سبيل المثال إلى البابادوم والوادي (فطائر العدس المتبلة المجففة بالشمس)، والتي تعد من المكونات المهمة في الطعام الهندي. اليوم، تعد رقائق البطاطا والفلفل الأحمر والفواكه الجافة والتوابل والخضراوات... وما إلى ذلك من المنتجات المجففة بالشمس الأكثر استخداماً.
وكثيراً ما يجري تجفيف الخضراوات مثل الفجل والقرع على أسطح المنازل في شمال شرقي الهند.
ومن ناحيتها، قالت نيلزا وانغمو، الشيف ومؤسسة مطعم «ألشي كيتشين»، والحائزة جائزة «ناري شاكتي بوراسكار» (جائزة تمكين المرأة)، تكريماً لإحيائها أساليب إعداد الطعام التقليدية السائدة، إنه داخل مسقط رأسها في لاداخ، بصحراء الهيمالايا الباردة، يسود أسلوب التجفيف بالشمس الخضراوات والأعشاب بالشمس، الذي ظل معمولاً به منذ العصور القديمة، وأضافت أنه لدى اعتماد هذا الأسلوب، تحمل الخضراوات والأعشاب نكهة شديدة. ولا تقتصر ممارسة التجفيف على الفواكه والخضراوات فحسب، وإنما تمتد كذلك إلى اللحوم ومنتجات الألبان. وغالباً ما تجري التضحية بالحيوان (الياك الأكثر شيوعاً) ويجري الاحتفاظ به كما هو بضعة أيام حتى يتجمد. بعد ذلك، يجري تقطيعه شرائح رفيعة وتعليقها في غرفة مظلمة (ممارسة شائعة في كل منزل) حتى تجف. ويلجأ بعض الناس إلى رش الملح عليه.
التخمير
كان التخمير هو الآخر من الطرق القديمة والاقتصادية لحفظ الطعام، بالإضافة إلى تحسين مذاقه وصفاته الغذائية في الهند.
ومن الناحية العلمية، يعزز التخمير نمو البكتيريا المفيدة المعروفة باسم البروبيوتيك. وكشفت دراسات أن مكملات البروبيوتيك في الغذاء توفر عدداً من الفوائد الصحية، مثل تحسين عملية الهضم، وتعزيز جهاز المناعة... وما إلى ذلك.
وتتميز الأطعمة المخمرة في الهند بنكهات وقوام ومظاهر ووظائف فريدة تعتمد على الركائز والعناصر الخام المكونة لها. ويمكن تصنيفها إلى كثير من الفئات المختلفة، مثل الخضراوات المخمرة والأسماك واللحوم وفول الصويا وبراعم الخيزران ومنتجات الألبان... وما إلى ذلك.
من جهته، كشف الشيف راهول أكيركار عن سبب ولعه المفاجئ بالأطعمة المخمرة التي كثيراً ما كانت جزءاً من المطبخ الهندي فترة طويلة. وأضاف: «كنا نستكشف المظهر الحلو والحامض للأطعمة الزراعية، وانتهى بنا الأمر إلى إنشاء قائمة تحتوي على عنصر مخمر واحد في كل طبق».
في شمال شرقي الهند، يجري استهلاك السينكي، وهو شكل من أشكال جذر الفجل المخمر. ويتوافر بكثرة في فصل الشتاء، ومن ثم يجري تحضير السينكي في الغالب في جو أقل رطوبة. وبعد عملية التخمير، يخرج الطعام كتلة، ثم يجري تقطيعها إلى قطع صغيرة وتجفيفها بالشمس لمدة 3 - 5 أيام. ويمكن تخزينه مدة سنتين أو أكثر في درجة حرارة الغرفة، ما يتيح له التعرض لأشعة الشمس بشكل دوري.
ومن ناحية أخرى، تؤدي أسماك نغاري (الأسماك المخمرة) دوراً مهماً في مطبخ مانيبوري. ويُستعان بهذا النوع من السمك المحلي في إعداد النغاري المغطى بالملح والمجفف بالشمس. تُوضَع طبقة من زيت الخردل على الجدار الداخلي لوعاء فخاري يُمْلأ بعد ذلك بالسمك، بعد ذلك، ويُضْغَط بإحكام ويُغْلَق، ثم يُخَزن في درجة حرارة الغرفة مدة تتراوح بين و6 أشهر. وتبلغ مدة صلاحيته نحو عام، ويُتناوَل طبقاً جانبياً مع الأرز.
الدفن
يمكن للدفن الحفاظ على الطعام لأسباب كثيرة، منها غياب الضوء أو الأكسجين أو درجات الحرارة الباردة أو مستوى الرقم الهيدروجيني أو المجففات في التربة. ويمكن استخدام الدفن إلى جانب أساليب أخرى مثل التخمير أو التمليح. ويمكن الاحتفاظ بمعظم الأطعمة طازجة فترة طويلة في التربة المجمدة أو شديدة الجفاف والمالحة.
المعروف أن كثيراً من الخضراوات الجذرية مقاومة تماماً للتعفن، وتحتاج فقط إلى تخزينها في بيئات باردة ومظلمة عن طريق دفنها في الأرض.
ويكثر دفن الأرز تحت الأرض في ولاية أوريسا الهندية لتخزينه، مدة 3 إلى 6 أشهر خلال موسم الجفاف، وساعدت هذه الاستراتيجية في التخزين في حفظ الفواكه خلال العصر المغولي.
جدير بالذكر أن الحفاظ على الفاكهة في العصر المغولي شكَّل أمراً أساسياً لتمكين الحكام من الاستمتاع بالفواكه الهندية الموسمية التي يقدرونها على مدار العام، وقد ابتكروا طرقاً بارعة يمكنهم من خلالها الاستمتاع بها في غير مواسمها.
ذكر جيهان نزار، مدون الطعام الذي يكتب في كثير من المنشورات العالمية: «في مدينة عين أكبري في القرن السادس عشر، يروي مؤرخ البلاط أبو الفضل يوميات إدارة إمبراطورية المغول في عهد الإمبراطور أكبر، وذكر أن عشق أكبر للمانجو (الموسمية) كان الدافع نحو ابتكار حفظ الفاكهة في العسل».
ويذكرنا الكاتب المَعنيّ بشؤون الطعام، فيكرام دكتور، بكيفية استخدام الجاجري (أحد أنواع قصب السكر) لحفظ الأغذية في الهند، خصوصاً في ظل وفرة زراعة قصب السكر في الهند منذ العصور القديمة.