في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، احتضنت مدينة مراكش، النسخة السادسة من فعالية «فاشن تراست أرابيا»، التي تعد إحدى أهم المبادرات التي ترعى وتدعم المصممين الناشئين العرب حالياً. كانت هذه المرة الأولى التي تخرج فيها من الدوحة، مسقط رأسها. في مراكش تم الكشف عن أسماء الفائزين بجوائزها القيمة. ومنذ أسابيع قليلة استقبلت «هارودز» اللندنية الفائزين بحفاوة، تمهيداً لعرض تصاميمهم هذا الصيف في أروقة متجرها العريق.
كانوا سبعة فائزين. عن فئة المجوهرات فازت كل من سارة نايف آل سعود ونورا عبد العزيز آل سعود ومشاعل خالد آل سعود، مؤسِّسات علامة «APOA) ،«A Piece of Art). وعلى جائزة فرانكا سوزاني، الموهبة الصاعدة سيلويا نزال، وهي فلسطينية - أردنية. بينما حصلت بتول الرشدان من الأردن على جائزة Fashion Tech. وكل من زافي غارسيا وفرانكس دي كريستال على جائزة البلد الضيف: إسبانيا. أما الجوائز الثلاث الأخرى فكانت من نصيب ثلاث مصريات: نادين مسلم عن فئة الأزياء الجاهزة، وياسمين منصور عن فئة أزياء المساء والسهرة، بينما كانت جائزة الإكسسوارات من نصيب ريم حامد.
في لقاء جانبي مع ياسمين منصور وتحت أشعة شمس ألقت بدفئها على لندن، تصف مشاعرها وهي تتسلم جائزتها من الأميرة المغربية للا حسناء: «إنها تجربة ستبقى محفورة في ذاكرتي مدى الحياة، لأنها من المحطات المفصلية في حياتي».
ما بدأ كدردشة عابرة، تحوَّل سريعاً إلى لقاء نابض بالإيجابية. أثار حماسها فضولي لاكتشاف المزيد عنها كمصممة وكإنسانة، ووجدت هي في الحوار مساحة للبوح بهويتها المزدوجة، وشغفها العميق، والتحديات التي واجهتها في طفولتها ومراهقتها نتيجة معاناتها من فرط الحركة وعسر القراءة وافتقار المنطقة العربية إلى بنية تحتية تدعم المصممين الناشئين.
يستوقفك أسلوب ياسمين لاختلافه وتميزه، إذ يجمع تقاليد قديمة بصياغة حديثة لا تعترف بزمان أو مكان. هذا ما أقنع لجنة تحكيم «فاشن تراست أرابيا» المكونة من أسماء عالمية ورشحها للفوز. هذا أيضاً ما تتأكد منه من النظرة الأولى. تفاصيل معقدة لكن مصوغة بحرفية عالية ولغة أنثوية تُخفي تحتها تفصيلاً رجالياً لا يُعلا عليه اكتسبته منذ صباها من تعاملاتها المباشرة مع الخياطين.
يتطور الحديث، وتكتشف أن خلف حسها الإبداعي يكمن أيضاً وعي تجاري لا سيما بعد أن تشير إلى حقيبة يد صغيرة بألوان متوهجة تحقق رواجاً لافتاً رغم أنها مصنوعة من قصاصات أقمشة عوض الجلد الطبيعي. تقول المصممة إنها ولدت من رحم الركود الذي فرضته جائحة كورونا. كانت هذه الفترة عصيبة عليها. بصفتها مصممة، كانت ولا تزال تؤمن بأن التواصل المباشر مع الزبونات هو أساس عملها، ولم يكن يُغريها عرض تصاميمها على مواقع التسوق الإلكتروني والاعتماد على الإنترنت. لكنَّ العزلة التي فرضتها الجائحة أفقدتها كثيراً من زبوناتها، لهذا كان لا بد من إعادة التفكير في كل شيء وفق قولها: «وأنا أفكر في ضرورة إعادة ترتيب أوراقي، بدأت أرتّب المكان من قصاصات القماش المتناثرة على الأرض. جمعتها واحدة واحدة كما لو كنت ألملم أفكاري. هكذا بدأت فكرة هذه الحقيبة وهكذا وُلدت».
البداية كانت مبكرة
عندما تتحدث ياسمين عن مسيرتها تعطي الانطباع أنها أكبر من سنها بكثير. أسألها عن عمرها، فترد ضاحكة أنها في الـ34 من العمر، مستطردةً بسرعة كأنها تريد أن تؤكد أنها بخبرتها أكبر من سنها: «لا تنسي أنني دخلت هذا المجال في سن مبكرة. لما كنت في الثانية عشرة من عمري شعرت أن التصميم سيكون قدري، ثم دخلته عملياً وأنا في السابعة عشرة». بسبب معاناتها من عسر القراء وفرط النشاط، كانت تشعر أنها مختلفة. هذا الاختلاف أيقظ جانبها الفني. كانت تفضل البقاء في غرفتها ترسم وتُلوِّن. زاد اهتمامها بالموضة ومظهرها في سن المراهقة، إلا أنها لم تكن تجد ما يروق لها أو يعكس أسلوبها وشخصيتها.
كان الحل الوحيد أمامها الاستعانة بخياطين. تشرح: «يمكنك القول إن علاقتي بالخياطة بدأت من الحاجة، قبل أن تتحوّل إلى مسار حياة. فقد بدأت أتردد على الخياطين منذ أن كنت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة. كنت أعرف ما أريد منهم ربما لتأثري بوالدتي، التي كانت عاشقة للفن والموضة، وتمتلك خزانة غنية بالملابس والإكسسوارات الكلاسيكية. كان أسلوبها مستلهماً من نجمات مصر من مثيلات سعاد حسني وفاتن حمامة وشادية وغيرهن، الأمر الذي يفسر ذلك المزيج بين الكلاسيكي والحداثي في تصاميمي».
في المقابل كان والدها يعمل في مجال المال والاستثمار. لم يقتنع في البداية بتوجهها إلى عالم الموضة. مثل أي أب عربي كان يريدها أن تدرس الطب أو الهندسة أو أي مجال يضمن مستقبلها. تجد له ياسمين العُذر بأن «صناعة الموضة في قطر آنذاك لم تكن كما هي عليه اليوم».
تتذكر أنه في عام 2013 لم تكن هناك صناعة موضة حقيقية مثلما كان الحال عليه في لبنان مثلاً. «كانت الساحة تفتقر إلى أي بنية تحتية، أو سوق بالمعنى المتعارف عليه. كان المصمم يعني خياطاً في عيون الغالبية. كنا أربعة مصممين فقط ولم يكن الطريق مفروشاً بالورود بالنسبة إلينا». ثم كانت النقلة مع إطلاق مبادرة «فاشن ترست أرابيا» على يد كل من الشيخة المياسة، ودعم من الشيخة موزا، واللبنانية تانيا فارس. تغير المشهد تماماً في قطر، وأصبحت الدوحة من أكثر الداعمين للموضة؛ صناعةً وفناً.
مع الوقت وبفضل قوتها الداخلية، وأيضاً بسبب معاناتها من عسر القراءة، جعلت والدها يذعن لرغبتها ويشجّعها. تقول مازحةً: «صحيح أنني لم أرث قدراته على إدارة المال والأعمال، إلا أنني ورثت عنه حبه للأناقة والتفصيل اليدوي. كنت معجبة بأسلوبه إلى حد أني كنت أرتدي بدلاته في بعض الأحيان وأنسِّقها بشكل يناسبني. لا أنكر أنه أثّر عليَّ وهو من وراء شغفي بالتفصيل اليدوي، وذلك الخيط الرفيع بين الرجالي والأنثوي».
الهوية المصرية
تنحدر ياسمين من أسرة مصرية هاجرت للعيش في قطر. فيها وُلدت وشبَّت وأطلقت دارها. مصر بالنسبة إليها كانت هي الصيف وفترة الإجازات، والتجول في أسواق خان الخليلي، تشتري منه قطعاً معدنية تعيد صياغتها: «كنت أريد أن أختبر كل شيء، أن أتعلم من كل تجربة». في سن العشرين وبعد إنهاء دراستها، بدأت من قطر رحلة العمل والنجاح.
المزج بين الأصالة والحداثة
تعترف أن «فاشن ترست أرابيا» كان لها فضل كبير على المصممين الشباب من أمثالها. توفر لهم منصة يستعرضون فيها مهاراتهم وفي الوقت ذاته تفتح أمامهم فرص ذهبية للتدريب واكتساب خبرات جديدة فـ«الجوائز وحدها لا تغيّر شيئاً» وفق قولها. المهم لها هو توظيف المؤهلات العربية والإرث الثقافي والفني لإعطاء صورة إيجابية، تستلهم من التراث وتصوغه بلغة عصرية لا تخضع لإملاءات الموضة الموسمية.
تقول هذا وهي تستعرض قطعة طويلة على شكل «كاب» بطيَّات دقيقة مرصوصة كأنها بليسيهات. خطوطها مواكبة للموضة العالمية، إلا أنها في الحقيقة مستلهَمة من العباءة العربية بأكتافها وانسدالها.
قريباً ستحتفل ياسمين بعامها الـ35. زاد نضجها الفني والإنساني وأصبحت تعرف ما تريد. هدفها لم يكن أبداً الانتشار السريع بقدر ما كان بناء علاقة حقيقية مع زبونات يُقدرن الخياطة الراقية. اليوم وبعد أن خاضت تجربة «فاشن ترست أرابيا» وذاقت طعم النجاح، تقف بثقة في «الروف الخاص بهارودز» في الطابق الخامس، ولسان حالها يقول إن العالمية قريبة جداً، وهي أهل لها. بماذا تحلم؟ «أن أنظم عرض أزياء ضخماً في الدوحة، وأن أفتتح متجراً رئيسياً في باريس».