الأحلام المؤجلة توقظ صراعات نفسية وتخلق دراما مسرحية

الموضة تتكئ على أمجاد الماضي للهروب من الحاضر

الماضي كان خيطاً قوياً ربط العديد من عروض خريف وشتاء 2025-2026
الماضي كان خيطاً قوياً ربط العديد من عروض خريف وشتاء 2025-2026
TT

الأحلام المؤجلة توقظ صراعات نفسية وتخلق دراما مسرحية

الماضي كان خيطاً قوياً ربط العديد من عروض خريف وشتاء 2025-2026
الماضي كان خيطاً قوياً ربط العديد من عروض خريف وشتاء 2025-2026

في لقاء أجرته لايدي غاغا منذ بضع سنوات، فاجأت النجمة الأميركية محاورتها عندما أجابت عن سؤال يتعلق بأهمية ودور أزيائها المسرحية قائلة: «هذه الأزياء أنقذتني من الاكتئاب... لقد أخرجتني من حالة حزن حادة كنت أمر بها». تصريح بكل بساطته وصدقه، يعكس الحالة النفسية للعديد من الناس حالياً، كما يعكس حالة الموضة ودورها، التي أصبحت في ظل أزمة جيوسياسية، ملاذاً. يهرب إليه العديد من الناس للحصول على فسحة من السعادة والثقة والأمان، والمصممون على التعبير عن مكوناتهم وآرائهم باستعراض جانب درامي، قد يبدو مسرحياً في بعض الأحيان، إلا أنه عندما يغوص داخل الذات يستكشف خباياها، أو يستنجد بالماضي، يتحول إلى «صرخة فنية» تترك أثرها طويلاً.

هذه هي الموضة على مر الأجيال وفي كل المراحل والأزمات، تتمرد على القيود وتبحث عن كل ما يحتضن ويُحرر. فهي لا تعيش في منأى عن الواقع حتى عندما تحاول الهروب منه.

هذا العام، أكدت أنها لم تسلم مثل باقي الصناعات من تبعات أزمات تتوالى عليها منذ جائحة كورونا إلى اليوم، ما يجعل العديد من المصممين يحاولون إنعاشها والتعامل معها كمضاد حيوي بإضافة جرعات قوية من الألوان والأحجام والابتكار حتى وإن تطلب الأمر الاتكاء على أفكار من الماضي.

«شانيل» أيضاً استقت من الماضي ياقات وفيونكات (شانيل)

تفاوتت نسبة الجرعات الحيوية التي ضخ بها كل واحد اقتراحاته، لكن ظل هناك خيط يجمعهم، يتمثل في استعانتهم بإبداعات الأجداد، وهو ما جسدوه إما في ياقات عالية وكشاكش تستحضر العهد الإليزابيثي، أو في تنورات مستديرة وضخمة من العهد الفيكتوري. هذا الحنين إلى الماضي ظهر أيضاً في تنظيم العروض التي تميزت بحميمية افتقدت في العقود الأخيرة. أي قبل جنون «السوشيال ميديا»، كما قال دانييل روزبيري، مصمم دار «إلسا سكاباريللي»، الذي علّق على وضع الموضة وعلاقتنا بها، قائلاً إن العديد منا يتساءل «عمّا يمنح الحياة معناها الحقيقي في وقت أصبح فيه العديد منا يشعرون بالملل وعدم الارتياح لاختراق وسائل التواصل الاجتماعي حميميتها وأدق خصوصياتها».

مال دانيال روزبيري مصمم «سكارباريللي» إلى دراما تعكس الذوق الخاص وفنية مستدامة (سكاباريللي)

الجواب الذي توصل إليه أن المعنى الحقيقي ينبع من «تقديرنا لكل ما هو ثمين فيها، بدءاً من الأشياء إلى الأشخاص الذين لا يمكننا استنساخهم، ويسهل التعامل معهم بشكل شخصي مباشر». في لغة الموضة، هذا يعني أزياء مستدامة بتصاميم كلاسيكية ومبتكرة، لا تعترف بزمان أو مكان مهما بلغت فنيتها وجنوحها للمسرحي. «المهم أن تُعبِر عن ذوق خاص».

لم يحتكر روزبيري هذا الرأي. وافقه عليه عدد لا يستهان به من المصممين. منهم من هرب من الواقع إلى داخل الذات، بحثاً عن أجوبة لأسئلة ميتافيزقية وفلسفية تُرجمت في تصاميم معاصرة، مثل شون ماغير، مصمم دار «ماكوين» الذي اقتبس من الكاتب أوسكار وايلد مقولته الشهيرة «اعرف نفسك... كن نفسك». جسَدها المصمم في إطلالات بأسلوب «داندي»، حافظ فيه على جرأة الكاتب وروحه المتمردة، لكن فكَّكه من أي استفزاز.

أليساندرو ميكيلي، مصمم «فالنتينو» أيضاً حاول الغوص في أعماق الذات. الفرق أنه مال إلى الغرابة وإحداث الصدمة. أطلق على تشكيلته عنوان «الحميمية» واختار ديكوراً لعرضه يمثل الحمامات العامة. تفسيره أنه أراد أن يسلط الضوء على أن الجماعي والفردي يلتقيان في نقطة ما، كذلك الخفي والمكشوف والوعي واللاوعي، أو وفق قوله «تلك النقطة التي تسقط فيها الأقنعة».

استلهم المصممون من الماضي أشكالاً وأحجاماً ضخوها بجرعة من الدراما المعاصرة

الحنين إلى الماضي

من بين كل هذه الأفكار الفلسفية ومحاولات الغوص في أعماق الذات، بقي العنصر الأقوى هو الماضي. تكاد تشم رائحته في معظم العروض. شون ماغير مصمم «ماكوين» مثلاً لم يكتف بالاستعانة بالكاتب أوسكار وايلد، عرج على العهد الفيكتوري ليقتبس منه الأكمام المنفوخة والياقات العالية والأقمشة الغنية مثل الجاكار والدانتيل المطرز بالورود.

فالماضي كما يبدو هذا الموسم، استعمل كمنجم أفكار وملاذ من التهديدات القادمة. تمت دراسته وإعادة تفسيره بأسلوب معاصر من دون الإغراق فيه، باستثناء لورانزو سيرافيني المدير الإبداعي لدار «ألبرتا فيريتي»، الذي قدم مجموعة عاد فيها إلى التسعينات، وهي حقبة شهدت فيها الدار عصرها الذهبي. أراد من خلالها تكريم المؤسسة، ألبرتا فيريتي، إلا أنه بالغ في الأمر ليبقى سجين هذه الحقبة.

فيما عداه، بقيت أقدام كل من عادوا إليه راسخة في الحاضر. ما شفع لهم أنه حتى عندما استعانوا بالأرشيفات القديمة واستنجدوا بكتب التاريخ ظلوا واقعيين وكأن ما جادت به قرائحهم وليد اليوم.

المصممة سيلفيا فندي وبروفات قبل عرضها (فندي)

«فندي»

المصممة سيلفيا فينتوريني وريثة دار «فندي» واحدة من المصممين الذين يؤمنون أن الماضي جزء من الحاضر. فالإرث العائلي الذي تحمل مسؤوليته على عاتقها راق وعمره نحو 100 عام. لم تستنسخه حرفياً، لأنها كما تقول لم تحتج إلى أن تعود إلى الأرشيف للاستلهام منه، لأن جينات الدار تجري في دمها، مضيفة: «احتجت فقط إلى ذكرياتي الشخصية – المعيشة والمُتخيلة». والنتيجة كانت تشكيلة تتألق ببريق العصر الذهبي للدار الرومانية المنشأ، وللسينما الإيطالية في منتصف القرن الماضي. فساتين تلمع وتنورات متوسطة الطول منسقة مع قطع بياقات عالية وخصور مشدودة من الساتان والجلود والتويد وطبعاً الفرو. فهو علامة الدار المسجلة وسبب من أسباب كينونتها واستمراريتها. هو الذي يربط ماضيها بحاضرها على الرغم من الضغوطات التي يسببها حماة الحيوانات والمناهضون لاستعمالاته. لا يمكنها التخلي عنه، لكنها لا بد أن تفكر في تقنيات حديثة وبدائل طبيعية تجنبها الانتقادات مستقبلاً.

«ديور» استلهمت من العصر الإليزابيثي ياقات عالية وكشاكش (ديور)

«ديور»

الماضي كان حاضراً بقوة في تشكيلة «ديور» أيضاً. ظهر في قمصان باللون الأبيض استوحتها المصممة ماريا غراتزيا تشيوري من عصر إليزابيث الأولى، بياقات عالية وكشاكش سخية، بينما تميزت المعاطف بأكمام منتفخة مستوحاة هي الأخرى من بورتريهات الطبقات الأرستقراطية القديمة. ويبدو أن تشيوري ليست وحدها من أغوتها الأكمام، لأن سحرها لمس أغلب المصممين، من أنطوني فكاريللو مصمم «سان لوران» إلى سيلفيا فندي مروراً بـ«سكاباريللي» و«ماكوين» وغيرهم. كلهم تفننوا في أشكالها وأحجامها، لا سيما ما يعرف ب«كمّ الجيغو» (وترجمته الحرفية كمّ فخذ الخروف).

أكمام «الجيغو» ظهرت في عدة عروض مثل «سان لوران» و«فندي» و«ماكوين»

ظهر هذا التصميم في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وشاع أكثر بين عامي 1830 و1890. يستمد اسمه من انتفاخه الدرامي عند الكتف ليبدأ في التناقص تدريجياً حتى يضيق عند الساعد أو المعصم. كانت الفكرة منه خلق توازن بين الجزء الأعلى من الجسم والجزء الأسفل، وكان في العهد الفيكتوري يدعم بحشوات داخلية للحفاظ على شكله المنفوخ.

تصميم «روب دي ستايل» الذي كان رائجاً في العشرينات أعاده المصمم أنطوني فاكاريللو للواجهة (سان لوران)

التصميم الآخر الذي بُعث من الماضي هذا الموسم، هو الـ«روب دي ستايل». تصميم كان رائجاً في العشرينات وعلى عكس فستان «فلابر»، منافسه الأكبر في تلك الفترة بقصّته المستقيمة والصبيانية إلى حد ما، كان «روب دي ستايل» أكثر أنوثة، بتنورته الواسعة المدعومة إما بطبقات متعددة من القماش، أو بحشوات داخلية مثل الأطواق أو الكرينولين الخفيفة. وغالباً ما كانت تتميز بخط خصر طبيعي أو منخفض قليلاً يمنح صاحبته الراحة وفي الوقت ذاته يتمرد على الكورسيه. ظهر في عرض «سان لوران» كما ظهر في عرض «فيراغامو»، الذي التقط فيه مصممها ماكسيميليان ديفيس، هذا الخيط ونسج منه تشكيلة عاد فيها إلى بداية القرن الماضي، مبرراً ذلك بأن «العشرينات كانت لحظة تحرر، تمرد فيها الناس على التقاليد وخلقوا مساحات لأنفسهم». كانت هذه نقطة انطلاقه لتقديم فساتين من حرير وأخرى مزينة بتطريزات دانتيل على الخصر المنخفض، أو مغطاة بشرائط من الفرو، بينما استعمل تفاصيل على الجلود تستحضر تلك الحقبة.

ومضات من الماضي ظهرت في كثير من التفاصيل وعززها المصمم بالابتكار (سالفاتوري فيرغامو)

لم يتوقف ديفيس عند حقبة العشرينات وحدها. انتقل أيضاً إلى السبعينات والثمانينات على أساس أنها «هي الأخرى كانت فترة تحرر وحب»، وفق تصريحه. تفاصيل كثيرة من أرشيف الدار تظهر على شكل زهور زينت قطع من الأورجانزا والجلد والساتان، كما تناثرت عبر أحذية تستوحي سلاستها وعمليتها من أعمال سالڤاتور فيراغامو في منتصف القرن الماضي. وبما أن حقائب اليد هي المنجم الذي يحقق الربح لصناع الموضة عموماً، طرحها بأشكال مثيرة تجمع المسرحي والسريالي. فقد كان من المهم بالنسبة له «أخذ أشياء يومية عملية وجعلها تبدو مشوشة قليلاً» حتى تثير جدلاً فنياً وفكرياً في الوقت ذاته.

جيفنشي

سارة بيرتون قدمت أول تشكيلة لها لدار «جيفنشي» بعد التحاقها بها في بداية العام. لم تُخف احترامها للماضي وقالت إنه كان من الطبيعي بالنسبة لها أن تعود إلى جذور الدار «للمضي قدماً». قبل أن تتخذ أي خطوة، قضت وقتاً لا يستهان به في دراسة الأرشيف وأسلوب مؤسسها هيبار دي جيفنشي. اكتشفت أن هناك قواسم مشتركة بينها وبينه، مثل حبهما للتفصيل والحرفية، وهو ما كانت ثمرته تشكيلة تجمع دقة الأساليب التقليدية البسيطة والتفاصيل الأنثوية الانسيابية. وهكذا أكدت مقولة يكررها العديد من المصممين أن من يتحكّم في الماضي يتحكم في المستقبل؛ ومن يتحكمّ في الحاضر يتحكم في الماضي.

ديمنا عاد إلى مؤسس الدار كريستوبال بالنسياغا ليعيد لنا قدرته الفذة في التفصيل (بالنسياغا)

بالنسياغا

ديمنا مصمم دار «بالنسياغا» هو الآخر ركب الموضة وتوجه إلى الماضي، مستوحياً من إبداعات مؤسسها، كريستوبال بالنسياغا في الخمسينات والستينات. هذه الإبداعات جسدها في معاطف بأحجام كبيرة إضافة إلى فساتين جريئة وقطع منفصلة كثيرة ومتنوعة، دمج فيها الخطوط الكلاسيكية مع عناصر من أزياء الشارع والأسلوب «السبور». وصفة أتقنها جيداً وتحقق مبيعات عالية لمجموعة «كيرينغ» المالكة للدار.


مقالات ذات صلة

أسبوع الموضة الرجالية لربيع وصيف 2026 في مواجهة التغيير

لمسات الموضة من عرض فاريل ويليامز لدار «لوي فويتون» (أ.ب)

أسبوع الموضة الرجالية لربيع وصيف 2026 في مواجهة التغيير

المصممون يواجهون أزمات التغيير بتصاميم راقية وبسيطة في الوقت ذاته. هدفهم مخاطبة أكبر شريحة ممكنة من عشاق الموضة

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة الهوت كوتور... من العصر المذهب إلى عُرس القرن

لقاء الموضة بالنفوذ والصورة

مقولة منسوبة لرجل الأعمال الأميركي جي. بول غيتي مفادها أن «المال هو القوة الحقيقية في هذا العالم، ولا شيء يتحرك من دونه» تُلخص حال الموضة بشكل أو بآخر

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة دانيال يحيِّي ضيوفه بعد عرض أثار الإعجاب وأيقظ الأحلام (غيتي)

«سكياباريللي»... بين عبقرية إلسا وبصمة روزبيري

دانيال روزبيري: «قد نختلف على طريقة نطق اسمها، لكننا جميعاً نعرف من هي. لا يهم إن نُطقت تشيابارالي أو سكياباريللي، المهم هو التعرف عليها وعلى رموزها بسهولة».

جميلة حلفيشي (باريس)
لمسات الموضة جيلدو زينيا وإيلي صعب يتوسطان أنجيلو زينيا وإيلي صعب جونيور (زينيا)

«زينيا» و«إيلي صعب» ومفهوم التوريث

تخرج من اللقاء بنتيجة واضحة، وهي أن إرث «زينيا» و«إيلي صعب» قائم على علاقة تنسجها الأجيال، وأنها في أمان.

«الشرق الأوسط» (دبي)
لمسات الموضة أسلوب الطبقات والأقمشة المبتكرة كان لها حضور قوي في هذه التشكيلة (زينيا)

عرض «زينيا» لصيف 2026... صُنع في إيطاليا وعُرض في دبي

في هذه اللعبة التي خاضها أليساندرو سارتوري بجرأة لصياغة مفهوم جديد للأناقة الرفيعة والمريحة، كانت ورقته الرابحة هي الأقمشة والتقنيات الحديثة والمتطورة.

جميلة حلفيشي (دبي)

أسبوع الموضة الرجالية لربيع وصيف 2026 في مواجهة التغيير

من عرض فاريل ويليامز لدار «لوي فويتون» (أ.ب)
من عرض فاريل ويليامز لدار «لوي فويتون» (أ.ب)
TT

أسبوع الموضة الرجالية لربيع وصيف 2026 في مواجهة التغيير

من عرض فاريل ويليامز لدار «لوي فويتون» (أ.ب)
من عرض فاريل ويليامز لدار «لوي فويتون» (أ.ب)

الأضواء مسلطة هذا الأسبوع على عروض الـ«هوت كوتور» في باريس. الكل ينتظر أول تشكيلة يقدمها ماثيو بلايزي لدار «شانيل»، والأولى لجوناثان سوندرز لـ«ديور» وبدايات أخرى تزيد من عنصر التشويق والإثارة. لكن ماذا عن عروض الأزياء الرجالية لربيع وصيف 2026. شهدتها كل من ميلانو وباريس منذ أسابيع قليل، ومرت مروراً خافتاً يعكس حجم التغيرات التي تشهدها ساحة الموضة في الوقت الراهن. بيد أنه من الصعب القول إنها خلت تماماً من الإثارة والجديد، حتى وإن لعب هذا الجديد على القديم والمضمون. يشفع له في ميلانو تركيزه على الحرفية الإيطالية وتقاليدها، إلى جانب تطوير الأقمشة وغزلها بأساليب غير مسبوقة. أما في باريس، فكان اللعب على الإبهار والمبتكر بفضل إمكاناته الضخمة.

ميلانو... حضور الغياب

في ميلانو بدا الأسبوع وكأنه يختصر حكاية القطاع كله. تقلصت مدة فعالياته إلى ثلاثة أيام فقط، في ظل غياب أسماء كبيرة مثل «زينيا» التي اختارت تقديم تشكيلتها في دبي منتصف يونيو (حزيران) الماضي في بادرة غير مسبوقة. قالت إنها لأسباب استراتيجية وثقافية ترتبط بإرثها.

ثم جاء غياب السيد جيورجيو أرماني. لم يحضر لتحية ضيوفه كعادته في عرضيه: «جيورجيو أرماني» و«أمبوريو أرماني». السبب «وعكة صحية لا يزال يتعافى منها في بيته» وفق بيان صدر عن داره. غني عن القول أن هذا الغياب أثار موجة من القلق حول مصيره رغم أن الدار حاولت التخفيف من وقع الخبر وطمأنة محبيه بأن وعكته لم تمنعه من العمل «هو من أشرف وعمل بتفانٍ على المجموعات التي عُرضت، ويتابع من كثب كل مرحلة من مراحل العروض»، وفق ما أفاد البيان.

هذا الغياب أعاد إلى الواجهة سؤالاً يدور في أوساط الموضة منذ سنوات حول من سيخلفه؛ إذ إنه رغم سنواته الـ90 لم يعين خليفة له بعد، وكان حتى الأمس القريب يُصرّ على لقاء ضيوفه وتحيتهم بعد كل عرض رغم آثار السن والمرض البادية على وجهه وخطواته. أعاد أيضاً إلى الواجهة أهمية دعم مصممين شباب وإفساح المجال لهم لضخ الأسبوع بدماء جديدة.

بين الحنين والحداثة

من عرض «زينيا» لربيع وصيف 2026 في دبي (زينيا)

رغم كل هذا، لم يفتقد الأسبوع حيويته فيما يخص الأزياء، أبرزها الحرص على مفهوم «صنع في إيطاليا». ركزت معظم البيوت والمصممين على طرح قطع عملية بتفصيل مدروس، وألوان حيادية، كان الهدف منها ربط القطع ببعضها؛ الأمر الذي منح الرجل إطلالة موحدة بسيطة وأنيقة. والأهم من هذا منحته راحة وانتعاش مستمدين من الخامات والأقمشة.

وهذا تحديداً ما جسدته تشكيلة «زينيا» لربيع وصيف 2026. عُرضت في دبي لأول مرة خارج حدودها المعتادة، لكنها تنبض بالهوية الإيطالية. كانت أقمشتها المتطورة الأداة التي استعملها مصمم الدار أليساندرو سارتوري لاستعراض قدراته الفنية. لم ينس أن يذكرنا بأن قوة الدار تكمن في هذه الصناعة، أي الأقمشة. اللافت فيها هذه المرة أنها خرجت عن السيناريو الكلاسيكي الذي تعوَدناه: أن تكون منمقة ومحبوكة بعناية شديدة.

من عرض «زينيا» لربيع وصيف 2026 في دبي (زينيا)

يشرح سارتوري أنها خضعت لتقنيات حديثة جعلتها تبدو مكرمشة عن سابق إصرار وتعمد لتكتسب روحاً منطلقة تبدو وكأن صاحبها نسقها بلامبالاة. فالجلود الطبيعية مثلاً خضعت في معامل الدار لمعالجة رائدة جعلتها قابلة للغسل. لم يختلف الأمر في التصاميم والقصات، حيث جاءت أكتافها متحررة تنسدل عنه وتبتعد عن المستوى التقليدي في تمرد صارخ عليه، وجيوب واسعة واضحة للعيان، وسترات بخطوط مربعة ومرنة. فكك سارتوري معظمها ليخفف من وزنها بعد استغنائه فيها عن التبطين. قدم مثلاً بدلة من الحرير لا يتجاوز وزنها 300 غرام.

أرماني... الغائب الحاضر

من اقتراحات جيورجيو أرماني في أسبوع ميلانو لربيع وصيف 2026 (جيورجيو أرماني)

في عرض جيورجيو أرماني غاب بجسده، لكن بصماته كانت حاضرة بقوة. تتجلى في سترات بصدر مزدوج وياقات مفتوحة، وسراويل واسعة ذات طيّات بشكل دمعة، تنحسر عند الكاحل أو تنسدل على نيات عريضة.

كل شيء فيها يتهادى بانسيابيةٍ على الجسد دون أي قيود، حتى المعاطف المصنوعة من الجلد اكتسبت خفة. هذه الإطلالات رسمها المايسترو بألوان استوحيت من أجواء الصحراء أو البحار. الطريف أن حتى طريقة العرض تؤكد حضور المصمم الغائب، من خلال إرسال ثنائيات، شاركت فيها المرأة أحياناً وكأن المصمم يقول إن هذه التصاميم لا تعترف بجنس ولا زمان.

«برادا» و«تودز»... بين الجديد والقديم

هذه التصاميم التي تتوجه إلى رجل معاصر وعملي في الوقت ذاته شملت بيوت أزياء أخرى مثل «برادا». رغم ما تمر به من تغييرات وتعاني منه من إقالات واستقالات لم تفقد بوصلة توازنها. بعد استقالة رئيسها التنفيذي السابق جانفرانكو داتيس بسبب «خلافات بشأن أمور استراتيجية» وفق تصريح له، تم تكليف رئيس مؤقت مكانه.

من عرض «برادا»... أزياء بسيطة بلمسات معاصرة (رويترز)

لكن لا شيء فيما قدمته ميوتشا برادا وشريكها في الإبداع راف سيمونز كان مؤقتاً، باستثناء بعض التفاصيل البسيطة مثل القبعات والجوارب التي كان دورها الإثارة أولاً وأخيراً. أطلقت الدار على العرض شعار «تغيير النغمة»، ليتضح أن النغمة التي اعتمدتها، بسيطة ووظيفية إلى حد كبير، أعادت فيها ميوتشا وراف سيمونز صياغة المفهوم التقليدي للأزياء الرجالية بأسلوب «سبور» وأكثر شبابية. قمصان بيضاء وشورتات عالية الخصر، وبدلات رياضية بسترات بأكمام مثنية، ومعاطف تعطي الانطباع أنها صُممت بعفوية. مثل باقي بيوت الأزياء ظلت الألوان متنوعة، تتراوح بين الرمادي والكحلي مع ومضات صيفية مثل الأزرق، والأحمر، والأخضر، والأصفر والبنفسجي. لكن الجرأة الحقيقية ظهرت في الإكسسوارات، مثل القبعات المصنوعة من الرافيا، والأحذية التي تم تنسيقها مع جوارب طويلة.

احتفلت «تودز» بحرفيتها وأيقونتها: حذاء الغومينو (تودز)

أما دار «تودز» فاختارت أن تلعب على ورقة مضمونة أكدت لها عبر العقود أنها رابحة: الـ«غومينو»، الحذاء الأيقوني الذي صار رمزاً للصيف والأسلوب الإيطالي المترف على حد سواء. أطلقت الدار على عرضها عنوان «نادي الغومينو» (Gommino Club)... استوحى ماتيو تامبوريني المدير الإبداعي، منه تشكيلة بخامات متنوعة، وتصاميم تواقة للحياة والهواء الطلق، ميَزتها خطوط ناعمة تنساب على الجسم بحرية، على شكل سترات غير مبطنة، وسراويل واسعة وقمصان خفيفة. الجلد كان حاضراً. لم يعد يقتصر على الخريف والشتاء بعد أن تم ترويضه ليصبح بخفة الحرير وملمسه.

ابتكرت الدار بحكم خبرتها الطويلة فيها، نوعاً أطلقت عليه اسم «باشمي» (Pashmy)، خضع لعلاجات وتقنيات عدة ليصبح مرناً يمكن تشكيله بسهولة في قطع منسابة. استعمله المصمم تامبوريني في قطع كلاسيكية منها سترة الـ«bomber»، وبلايزر غير المبطن، وسترات أخرى بتصاميم متنوعة.

باريس... تفتل عضلاتها وإمكاناتها

في باريس كانت النغمة مختلفة. أكثر صخباً وبذخاً بالمقارنة، وليس أدل على هذا من عرض فاريل ويليامز لدار «لوي فويتون». لم يحمل جديداً بالمعنى الثوري على صعيد أزياء كانت سمتها الأبرز التنوع لكي تخاطب شرائح كبيرة وتحقق النجاح التجاري، إلى جانب شورتات واسعة وسراويل واسعة يعرف أنها مطلب الشباب. ما افتقدته التصاميم من إثارة عوَّض عنها بما يتقنه أكثر: الموسيقى من خلال جوقة سيمفونية أشعلت الحماس وأشاعت أجواء مفعمة بالطاقة.

من عرض أنتوني فاكاريللو لدار «سان لوران» (إ.ب.أ)

لكن إذا كانت ميلانو قد افتقدت «زينيا»، أحد أهم أعمدتها الرئيسية، فإن باريس كسبت عودة دار «سان لوران» إلى البرنامج الرسمي للموسم الرجالي بعد انقطاعها عنه في يناير (كانون الثاني) 2023. كانت عودة سعيدة أكد فيها المصمم أنطوني فاكاريلو، مدى شغفه بمصمم الدار الراحل إيف سان لوران. في تشكيلاته الأخيرة، لم تغب صورة الراحل. لا من خلال الألوان أو القصات أو حتى الإكسسوارات، بما فيها نظارته ذات الإطار الأسود السميك. هذه المرة أيضاً استلهم منه إطلالاته في سبعينات القرن الماضي، من شورتات قصيرة وبدلات سافاري وغيرها. لكن الدار حرصت على شرح أن إيف الشاب «مجرد ذكرى» لا تزال حية «في عام 1974 انسحب من الضجيج وفي عام 2026 ما زال أثره حياً؛ لأنها ليست تحية. ليست ذكرى... إنها الاستمرارية». يقول المصمم إنه استوحاها من «زمان شكَّلت فيه الرغبة أسلوباً، والجمال درعاً حصيناً»، وبالتالي أرادها أن «تستكشف ذلك الإحساس الخفي ولحظة ضعف يحتاج فيها الإنسان إلى التأنق ليكشف عن هويته ويخفيها في الوقت ذاته».

من هذا المنظور نسَّق فاكاريللو الشورتات مع قمصان بأكمام طويلة، وسترات سمتها الخفة والبساطة، ضيّقة عند الخصر وعريضة عند الأكتاف، مع استخدام أقمشة خفيفة مثل الحرير والنايلون بألوان تهمس برقي هادئ.

من عرض جوناثان أندرسون لدار «ديور» (أ.ف.ب)

عرض «ديور» لربيع وصيف 2026 كان من بين الأكثر ترقباً. ولم يخيب الآمال، حيث قدم فيه جوناثان أندرسون لـ«ديور» تشكيلة توجه فيها نحو مستقبل جديد. التقط خيوطاً خفيفة من الأرشيف نسجها في تصاميم شبابية تعكس روح العصر. بدا واضحاً أنها كانت برؤيته وبصماته، إلا أنها لم تتجاهل رموز الدار تماماً.

ما تجدر الإشارة إليه أن جوناثان أندرسون، عُيِن في أوائل يونيو (حزيران) خلفاً لماريا غراتسيا كيوري في دار «ديور» بعد أسابيع قليلة من انضمامه إلى الدار بوصفه مصمماً رجالياً خلفاً للبريطاني كيم جونز. وبذلك، أصبح أول مصمم أزياء يشرف على خطوط الأزياء النسائية والرجالية على حد سواء منذ كريستيان ديور.