يواصل معرض «كريستيان ديور: مُصمم الأحلام (Christian Dior: Designer of Dreams)»، الذي افتُتح في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في المتحف الوطني السعودي بمدينة الرياض، استقبال زواره في لقاء ثقافي وفني بين التراث والإبداع. فالمعرض يُقدِّم تجربةً إبداعيةً فريدةً من نوعها لمُصمِّمٍ عَشِقَ الموضة والطبيعة، وكرَّس مهاراته للاحتفال بأنوثة المرأة. قدِّم لها تصاميم رومانسية سخية بكل أنواع الترف، ولم يبخل عليها بالأكسسوارات والعطور وكل ما تحتاج إليه لإبراز جمالها. وحتى بعد وفاته بعقود لا يزال حاضراً في أعمال كل مَن توالوا على الدار من بعده. كلهم، من إيف سان لوران إلى ماريا غراتسيا كيوري، يلتزمون بمبادئه الفنية.

لأول مرة في السعودية، سيكتشف زائر المعرض أكثر من 200 فستان «هوت كوتور»، أغلبها من الأرشيف، إلى جانب الأكسسوارات، ووثائق أصلية تعزِّز مكانة «ديور» بوصفها واحدةً من أهم دور الأزياء العالمية المتخصصة في الأزياء الراقية وأسلوب الحياة المرفهة. جاءت الدار إلى السعودية بخيارات وتصاميم تأخذ بعين الاعتبار منطقة تربطها بها علاقة طويلة، لهذا فإن الأجواء الغالبة تعكس الروح الثقافية للسعودية، لا سيما من خلال ألوان الذهب والرمال الصحراوية.

جولة في المعرض ستتيح لعشاق الموضة والفن، على حد سواء، فرصةً لقراءة تاريخ الدار واستكشاف إبداعاتها والتأثيرات التي شكَّلت مسيرة عمرها أكثر من 75 عاماً. كتب كثير من المصممين الكبار الذين توالوا عليها فصولاً مهمةً في تاريخها، لكنهم ظلوا أوفياء دائماً لمبادئ المؤسِّس، العاشق للفن. فهي لا تزال لحد الآن، مثلاً، تتعامل مع فنانين من كل أنحاء العالم، تُدخلهم عالمها الخاص وتمنحهم حرية إضافة لمساتهم الخاصة على أيقونتها «لايدي ديور»، إلى جانب عناصر أخرى أرساها ولا تزال راسخة.
أشرف على إعداد المعرض، الذي يأتي بوصفهً إعادة ابتكار لسيرة «ديور» الفنية، المؤرخ الفني فلورنس مولر، ومصممة السينوغرافيا ناتالي كرينير. حرص الاثنان على أن تعكس كل جوانبه وإضاءاته أهمية إرث بدأ في عام 1947 ولا يزال مستمراً. فعنوان الدار في جادة «مونتين 30» أصبح معلمة للسياح ومزاراً لعشاق الموضة، يتعرَّفون فيه على التأثيرات التي شكَّلت أسلوبها، بدءاً من شغف مؤسِّسها بالحدائق والطبيعة الخلابة، وصولاً إلى إعجابه بقصر فرساي، وعصر التنوير، من دون أن ننسى عشقه للطبخ.

من هذا المنظور، يتتبع المعرض إرثاً غنياً يُقدِّم من خلاله سيرة عن عالم «ديور»، وإبراز تأثير كل واحد من المديرين الفنّيّين الذين توالوا على الدار. كما يحتفي بأول مجموعة من الملابس الجاهزة تم إطلاقها، بالإضافة إلى تخصيصه قاعة للأقمشة يمكن للزائر أن يعاين فيها خبرة المشاغل الفنية، ومهارات الأيادي الناعمة التي تنفذ فيها كل التفاصيل بدقة.
الالتزام بالجمال والكمال
وبين تفاصيل ساحرة وقطع مميزة تظهر حقيبة «لايدي ديور» الشهيرة. تختزل كل معاني الجمال كما تَصوَره كريستيان ديور، حتى قبل أن يصبح مصمّم أزياء. فقد كان قبل ذلك صاحب معرض فني، كرّس حياته للاحتفاء بالفنّ واكتشاف الفنانين الجدد. كان هذا الفن هو الطريق الذي أدى به إلى الموضة.

أما كيف يحتفي المعرض بحقيبة «لايدي ديور»، فعبر الأعمال الفنية التي جابت العالم ضمن 9 نسخ من مشروع «ديور لايدي آرت»، ومن بينها عمل من تصميم الفنانة السعودية منال الضويان، مستوحى من التراث السعودي والجمال الأصيل.
وتعدّ منال الضويان، أوّل فنانة سعودية تصمّم حقيبة «ديور لايدي آرت» في عام 2021. نجحت التجربة خصوصاً أن الضويان استعانت بوسائط مختلفة كالصور الفوتوغرافية، والتركيبات، والفيديو، والمنحوتات؛ لاستكشاف موضوعات متعلّقة بالهوية الأنثوية، والتفاعل بين التقاليد السعودية والثقافات العالمية.
«ديور» ومنطقة العلا

لم يكن من الممكن أن يحط معرض «كريستيان ديور: مصمم الأحلام» في المتحف الوطني السعودي بالرياض، من دون أن يشيد بجمال واحة العُلا، إذ تم تخصيص قسم فني مستوحى من تكوينات المنطقة الصخرية وواحاتها الخضراء وتركيباتها الفنية الطبيعية بألوانها الذهبية. وكانت النتيجة، تجربة تجمع بين إرث الماضي وأصالة الطبيعة وأناقة باريس. فالزائر سيستمتع برحلة بصرية غامرة من عمق أجواء المنطقة وطبيعتها. كما سيلمس التقارب بين تضاريس واحة العُلا وجغرافيتها، والتصاميم التي أبدعها مصممو «ديور» عبر سلسلة من الفساتين الدرامية بأشكال معمارية تشع بدفء ينبعث من أشعة الشمس الذهبية وأحياناً الحارقة.
فقد خصَّص المعرض قاعةً بعنوان «جمال الصحراء» تُكرِّم الطبيعة الصحراوية تحديداً بكل تعقيداتها، وجمال كثبانها الرملية، وتفاعل الضوء والظلال.
تأثير الصحراء

لا يقتصر تجسيد جمال الصحراء في التصاميم فحسب، بل أيضاً في الألوان المعدنية الذهبية مع درجتَي البيج والبني. فهذه تُعدّ بالنسبة للدار رمزاً للرقيّ والأناقة المرهفة، حيث تلوَّنت بها إطلالات مختلفة تحمل أسماء مثل أرابي، وأوازيس (الواحة)، وديزير (الصحراء)، وسابل (الرمل). مصممة الدار الحالية ماريا غراتسيا كيوري تستكشف دائماً في تشكيلاتها هذا اللون، لقدرته على إبراز دقة تفاصيل الفساتين المنسدلة بأسلوب درابيه، ورداءات الكاب، والمعاطف المزودة بقلنسوات.

تأثير الصحراء أكد عليه أيضاً القسم المُخصَّص للعطور، إذ نكتشف أن الدار أطلقت في عام 1991، عطر «دون (Dune)». وكما يشير اسمه فهو مستوحى من كثبان بيلا الرمليّة الواقعة على الساحل الأطلسي الفرنسي. كان مهماً حينها أن تعبِّر القارورة التي ابتكرتها الفنانة فيرونيك مونو، عن الانسجام العميق بين الإنسان والطبيعة.
ولتطوير هذا التصميم، يكشف المعرض أنها استخدمت تقنيات زجاجية تقليدية معقدة، على غرار نفخ الزجاج والضغط اليدوي، من خلال دمج الذهب والمعادن في الزجاج مع تدرجات لونية تتراوح بين البرونزي والذهبيّ لتتماهى مع جمال الصحراء.
بدأ المعرض، الذي يحتضنه المتحف الوطني السعودي بمدينة الرياض ويُنظَّم ضمن فعاليات «موسم الرياض»، استقبال زواره في نوفمبر الماضي، ويمتد حتى 2 أبريل (نيسان) المقبل.