لم يعُد يخفى على أحد أن الموضة جزء لا يتجزأ من الحبكة الدرامية لأي فيلم أو مسلسل. في الكثير من الأحيان تكون هي البطل بلا منازع، إلى حد ينعكس على نسبة المشاهدة.
التعليقات على الماركات والألوان والقصات والتي تغطي على التحليلات الفنية، تشهد على هذا. في عصر هوليوود الذهبي، كانت الأزياء بطلاً صامتاً. فمن منا لا يتذكر فستان أودري هيبورن الأسود الناعم في فيلم «إفطار في تيفاني» أو الفستان الأزرق السماوي لغرايس كيلي في فيلم «للقبض على لص». الأول أطلق المصمم الفرنسي هيبار جيفنشي إلى العالمية، والآخر عزز مكانة إديث هيد كأقوى مصممة أزياء في تاريخ السينما. لكن شتان بين تأثيرها في ذلك العهد وبينها الآن.
صوتها ارتفع إلى حد الصراخ في بعض المسلسلات التلفزيونية على الأخص. وليس أدل على هذا من السلسلة التلفزيونية «سيكس أند ذي سيتي» التي يمكن القول إن الموضة فيها هي الحلقة الأقوى. فالسلسلة بمثابة عرض أزياء أسبوعي يسلط الضوء على مصممين شباب أو يُروّج لبيوت أزياء عالمية، مثل «فندي» التي ارتفعت مبيعات حقيبتها الأيقونية «الباغيت» بعد ظهور بطلة المسلسل بها، وكذلك أحذية مانولو بلانيك وفساتين «فيفيان ويستوود» وغيرها من العلامات التي شهدت انتعاشاً إثر تغني كاري الشخصية التي لعبت دورها سارة جسيكا باركر بقيمتها.
لا يختلف اثنان أن تزامنها مع بداية الألفية شكّل فرصة لنجاحها. فحقبة التسعينات التي غلب عليها أسلوب هادئ يرفع شعار «القليل كثير» أصاب الطبقات المتوسطة المتنامية بملل. فهذه الطبقة شهدت حينذاك انتعاشاً اقتصادياً، وبالتالي كانت تريد الاستمتاع به وإعلانه على الملأ من خلال نقشات أو قصات ترتبط بدار أزياء عالمية يتعرف عليها الناظر بسهولة.
في مسلسل «كما تُحب» «And Just Like ...» يبدو اليوم مثل الأمس. تعود البطلة كاري التي تلعب دورها سارة جيسيكا باركر وصديقاتها بنفس العقلية والطموحات حتى بعد أن كبرن سناً. غني عن القول أن المصممين، صغاراً وكباراً، عدّوا المسلسل منصة دعائية لهم، لا سيما، أنه في الحالات الاستثنائية التي لا يستطيع فيها المشاهد تخمين اسم الماركة التي تظهر بها إحدى البطلات، فإنها تتبرَع بذكرها من دون رقيب أو حسيب.
اللافت، أن عرض المسلسل تزامن مع مسلسل «Succession». الاثنان استعملا عنصر الموضة، والاثنان تنافسا على استقطاب أكبر عدد من المشاهدين، مع اختلاف كبير يتلخّص في أنهما من مدرستين مختلفتين تماماً. بينما يُروِج «كما تحب» لموضة «اللوغوهات» وأزياء موقّعة بأسماء عالمية من الرأس إلى القدمين بالبنط العريض، يُروِج الثاني «Succession» لأسلوب مضاد يتبنى مبدأ «الفخامة الهادئة»، من بيوت أزياء مثل «لورو بيانا» و«كوتشينللي» و«هيرميس» وغيرهم.
أزياء تبدو بسيطة وعادية جداً قد تكون مجرد «تي_شيرت» أو بنطلون جينز، لكنها بأسعار باهظة وحرفية عالية. هذا الأسلوب الذي بدأ يتسلل لساحة الموضة في المواسم القليلة الأخيرة، واعتقد البعض أنه سيكتسح الساحة، يقوده أثرياء ينحدرون من أسر عريقة ويُلمون بأسرار الموضة وخباياها، وبالتالي لا يهمهم إذا كان الناظر سيُقدّر سعرها أم لا. المهم أنه هو يعرف قيمتها.
من هذا المنظور، فإن متابعة مسلسل «Succession» بمثابة لعبة تخمين للعلامات التجارية التي يلبسها الممثل، بينما ما على المشاهد وهو يتابع «كما تحب» «And Just Like That» سوى الاسترخاء. بطلاته يتبرَعن بكل المعلومات عن طيب خاطر. وبما أن الموضة تعتمد على كل ما يحرك العواطف ويؤجج الرغبة وحركة البيع والشراء، فإن بيوت الأزياء العالمية مثل «دولتشي أند غابانا» و«لويس فويتون» و«بيربري» وغيرها، تستهدف الشباب والطبقات حديثة الثراء التي تريد الاحتفال بنجاحها بأي ثمن. هذه الشريحة هي التي تتوجه لها بيوت أزياء عالمية بتصاميم لا تخطؤها العين، وأسعار تُلهب الجيوب، مثل حقيبة من جلد التمساح مرصعة بالذهب والماس طرحها مصمم دار «لويس فويتون» الجديد فاريل ويليامز باسم «مليونير» للدلالة على قيمتها التي تقدر بمليون دولار.
منذ الحلقة الأولى لمسلسل «كما تحب» تبيّن هذا الأمر عندما أعلنت الممثلة نيكول آري باركر، التي تلعب شخصية ليزا تود ويكسلي، وهي في طريقها لحفلة بفستان أنيق وقبعة ريش تُزيِن رأسها: «هذا ليس جنوناً، إنه فالنتينو». في لقطة أخرى، تظهر وهي تصطحب أطفالها إلى المخيم بجاكيت في غاية الأناقة ووشاح أخضر بنقشات دار لويس فيتون المعروفة. أما البطلة كاري، التي لعبت دورها الممثلة سارة جيسيكا باركر، فحدث بلا حرج. إنها لا تكُف عن ترديد أن التسوق بالنسبة لها دواء وعلاج.
شارلوت، التي تؤدي دورها الممثلة كريستين ديفيس، هي الأخرى تتقاسم مع بقية صديقاتها الهوى نفسه. فهي تظهر بحقيبة من ماركة «بيربري» البريطانية المعروفة بنقشاتها. وحتى عندما تدخل المطبخ، تلبس مريلة وغطاءً للأذن من الماركة نفسها. في لقطة أخرى، صرَّحت وهي تتحسر كيف بأن ابنتها المراهقة باعت فستاناً من ماركة «شانيل» لتحقيق حلمها في مجال الموسيقى. في السياق نفسه، تظهر سيما، التي تؤدي دورها الممثلة ساريتا تشودري، وهي تندب حظها بعد سرقة حقيبتها من ماركة «هيرميس بيركين». كانت تتحدث عنها بوصفها كنزاً لا يُعوَّض.
هذا الاهتمام المفرط بالموضة، أو على الأصح الماركات العالمية، وصل تأثيره إلى حد تخصيص مجموعة من المتابعين حساباً على تطبيق «إنستغرام» يتابعه أكثر من 277 ألف متابع يُناقشون فيه الأزياء التي تظهر في كل حلقة. كذلك الأمر بالنسبة لمسلسل «Succession» الذي أصبحت له صفحة باسم «Successionfashion» يتابعها نحو 184 ألف متابع.
بالنظر إلى الفرق في عدد المتابعين، فإن أسلوب الفخامة الهادئة، الذي تم تبنيه على تطبيق «تيك توك» مؤخراً وهلَلت له جهات وبيوت أزياء عدة تهتم بالأناقة الراقية، ربما يكون قد تعرَض إلى نكسة. فمن الواضح أن هناك حركة مضادة تقودها الغالبية تريد الاحتفال بالموضة بكل مبالغاتها حتى تُدخل السعادة على نفسها في وقت يعاني فيه العالم اضطرابات بيئية واقتصادية. فالموضة بالنسبة إلى هؤلاء أيضاً «علاج» وهروب من واقع قاتم يعاني الركود والأزمات السياسية والاجتماعية.