من أقوال كوكو شانيل المأثورة التي يحبها المصمم إيلي صعب أن التقليد من أعلى درجات المديح والإعجاب. فهي على حق إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه حتى أعمال كبار الفنانين والرسامين ما هي سوى تقليد للطبيعة إلى حد ما، إلا أننا نعرف في الوقت ذاته أن كل ما يزيد على حده يتحول إلى ضده. «فإذا كان الاستلهام مقبولا فإن التقليد الحرفي مرفوض، لأنه جريمة في حق الإبداع» حسب قوله.
ولعل المصمم الذي يشهد له العالم بالإبداع، أكثر من يفهم الجانب الأخير، بالنظر إلى عدد المصممين الذين تبنوا أسلوبه، معتقدين أن السخاء في التطريز والإغراق في الرومانسية جوازهم للعالمية، وكلما باءت محاولاتهم بالفشل وانتابهم الإحباط زاد تخبطهم وتراجعهم. فالملاحظ عند مقابلة أي واحد من هؤلاء تأتي سيرته على لسانهم، إما إعجابا وإما حسدا. الإعجاب، ويكون غالبا من الشباب، على أساس أنه قدوتهم. فهو عصامي تحدى السائد وفرض أسلوبه على ساحة الموضة.
والحسد، ويكون عادة من أبناء جيله، لأنهم يعتقدون بأن نجاحه مجرد ضربة حظ. فقد اتبعوا الوصفة نفسها ومع ذلك لم يحققوا نصف النتيجة.
الخيط الرفيع بين التأثر والتقليد برز عندما كان المصمم يُسجل برنامجه «بروجيكت رانواي» في دبي. كانت الحلقة الأخيرة والمنافسة على أشدها بين المتنافسين الثلاثة، وكان الشاب سليم شبيل من تونس واحدا منهم. لم يُخف هذا الأخير منذ بداية البرنامج إعجابه الشديد بإيلي صعب، لكن المشكلة أنه ترجم هذا الإعجاب في تشكيلة يصعب من بعيد التفريق بينها وبين تصاميم سابقة لمثله الأعلى إلى حد أنها كانت صادمة. في مقابلة خاصة يرد إيلي صعب بدبلوماسيته المعهودة أنه لم يتفاجأ بالأمر «فصغر سنه يشفع له، كما أنه شعور حلو أن يُلهم أسلوبي مصمما شابا، المهم أن لا يتحول إلى عقدة تُكبل خياله وقدراته في المُستقبل».
المشكلة أن أمثال سليم كُثر في المنطقة العربية ممن يعتبرون أنفسهم من مدرسة إيلي صعب، وحسب توضيحه «في لبنان وحده هناك من 70 في المائة إلى 80 في المائة منهم. وبينما يبقى الاقتداء بشخصية ناجحة أمرا مقبولا ومرحبا به بالنسبة لشاب في أول الطريق كونه لا يزال يبحث عن أسلوبه الخاص، فإنه يأخذ صورة قبيحة عندما يأتي من مصمم له أكثر من عشر سنوات في هذا المجال. فما يؤكده في هذه الحالة أنه لا يثق بنفسه ولا بأسلوبه. وهذا تحديدا ما اعتبره عُقدة يجب التخلص منها، لأنها لن تؤدي به سوى لمزيد من الإحباط».
لا يختلف اثنان أن إيلي صعب فلتة أو ظاهرة في عالمنا العربي. فهو لم يكتف بالـ«هوت كوتير» رغم نجاحه الساحق فيه وتوسع إلى الأزياء الجاهزة ثم إلى العطور والإكسسوارات وتصميم اليخوت وهلم جرا. إمبراطوريته تتسع يوما بعد يوم بدليل أنه افتتح في بداية الشهر أول متجر له في جادة ماديسون بنيويورك ليكلل نجاحه في الأسواق الأميركية بعد باريس ولندن وبيروت ودبي وقطر. ومن يعرف المصمم ويسمعه يعرف أنه لا يزال في جعبته الكثير من المفاجآت، مؤكدا في كل مناسبة أنه لا يُقلد أحدا بقدر ما يستفيد من تجارب الغير. فالموضة مثل كل أنواع الفنون تحتاج إلى إلهام وأيضا إلى ابتكار وشجاعة ومغامرة.
لكن ما نلمسه في كثير من العروض والمناسبات أن عُقدة إيلي صعب أصبحت مترسخة تتجسد في التصاميم الرومانسية والتطريزات الغنية غير المدروسة التي توقع كثيرا من المصممين في مطب الاستسهال. ولأننا لا يمكن التعميم، لا بد من الإشارة إلى جيل صاعد تخرج من معاهد متخصصة يحاول جاهدا شق طريقه بأسلوبه الخاص، إلى حد أن بعضهم أصيب بـ«عقدة عكسية» يتعمد فيها الابتعاد عن أسلوب إيلي صعب خوفا من تهمة التشبه به. من هؤلاء نذكر حسين بظاظا، الذي تدرب في دار ربيع كيروز في باريس، ومن ثم عمل كمصمم مبتدئ في دار إيلي صعب ببيروت، ويُشهد له بالإبداع تترجمه الجوائز المهمة التي حاز عليها في عدة مسابقات ومحافل. يعترف بأن إيلي صعب ظاهرة وقدوة بالنسبة له وعقدة للبعض الآخر «فهو الأكثر مبيعا في منطقة الشرق الأوسط، وبما أن أغلب المصممين العرب يتوجهون للزبونة نفسها، فإن بعضهم يلجأون إلى تقليد أسلوبه أملا في أن يقتطعوا لأنفسهم ولو جزءا صغيرا من الكعكة، وعندما يفشلون يلومون حظهم العاثر بدل أن يعيدوا التفكير في أسلوبهم». ويضيف بأنهم لم يفهموا لحد الآن أن التقليد لن يؤدي بهم إلى أي نجاح «لأن المرأة عندما تريد أسلوب إيلي صعب، فإنها تتوجه إلى المنبع». لا يُخفي بظاظا أنه تأثر بإيلي صعب «فقد كبرت وأنا أسمع اسمه يتردد على مسامعي وكان طبيعيا أن يكون قدوتي لكني أرفض تقليده... أعرف أنه ظاهرة فريدة، لكني مؤمن أيضا بأنه سيظهر مصممون آخرون لهم أسلوبهم الخاص بهم وسيحققون النجاح بطريقتهم».
المصمم الشاب رامي قاضي يوافق حسين بظاظا الرأي، فهو الآخر تدرب في دار إيلي صعب قبل أن يستقل بنفسه، نائيا بأسلوبه عن أسلوب أستاذه تماما. فسمعته في باريس حاليا أنه يعشق البحث عن تقنيات جريئة يوظفها في تصاميم تمزج العصري بالسريالي. ويرد السبب الرئيسي في نجاح إيلي صعب لشخصيته وبصمته التي حافظ عليها «أي شخص يُقلده لا بد أن يفشل، وشخصيا أفضل أن ينتقدني الناس لأي شيء أقوم به على أن ينعتوني بالتقليد». ورغم أن رامي قاضي يعترف أن صعب هو المصمم الأول في العالم العربي والمثل الأعلى لأي مصمم شاب، فإنه ينفي أن يُشكل عقدة بالنسبة له «بالعكس استعمل نجاحه كمحفز لي لتحقيق النجاح ذاته في يوم ما لكن بأسلوبي وأدواتي الخاصة. ما يجب أن نفهمه أن إيلي صعب لن يتكرر، كما لن يتكرر كريستيان ديور أو فالنتينو، لكن من الطبيعي أن تظهر أسماء أخرى تعكس عصرها».
ما يشير إليه كل هؤلاء ويوافق عليه إيلي صعب أن لكل جيل لغته وتجاربه. فتجربة إيلي صعب منذ أربعين سنة تختلف كثيرا عن تجارب هؤلاء الشباب لأن الظروف اختلفت تماما. فبينما درسوا في جامعات ومعاهد موضة، بدأ هو من الصفر وعلم نفسه في وقت كان مصمم الأزياء في الوطن العربي يُعتبر مجرد خياط عليه تنفيذ ما تريده زبونته فقط. لهذا عندما يقول بعض المصممين إن تجربة إيلي صعب فريدة كونه «ظهر في وقت مختلف لم تكن فيه هذه المنافسة الشرسة بين المصممين، كما أن البيئة التي ظهر فيها كانت خصبة لكي يتفرد بنفسه» ينتفض قائلا: إنه لم يجد الطريق معبدا أمامه بل العكس تماما، فالفضل في تعبيد الطريق أمام الآخرين يعود إليه وإلى تجربته. كل ما كان يمتلكه من سلاح آنذاك تلخص في إرادة قوية ونظرة واضحة «وهو ما لا يملكه كثير من المصممين الذين تخرجوا من أشهر المعاهد». يستطرد: «لما بدأت لم تكن الأشياء متوفرة كما الآن...لم تكن لدي الإمكانيات المادية للعرض في أوروبا مثلا، وإلا كنت لخصت المسافة الزمنية للوصول إلى العالمية، بدل تركيزي على السوق المحلية لعقد من الزمن أو أكثر، وهو ما أشعر أنه كان وقتا ضائعا في مسيرتي».
ما يقصده أن المنطقة العربية منذ أربعين عاما تقريبا لم تكن تعترف بإمكانيات مصمم عربي يقدم تشكيلات موسمية. والزبونة العربية لم تكن مستعدة لأن تتعامل معه بالثقة نفسها التي كانت تتعامل بها مع مصمم أجنبي.
يقول صعب: «تعذبت طويلا وقضيت وقتا امتد لأكثر من خمس سنوات تقريبا أحاول نيل ثقتها وأقنعها بإمكانياتي. وجدت صعوبة كبيرة في ذلك، لعدم توافق نظرتي وطموحاتي مع نظرتها وطموحاتها... كنت مثلا أقدم لها تصميما أراه مناسبا للغاية ترفضه وتحاول فرض رؤيتها بتغيير تفاصيله وأحيانا موديله بالكامل، الأمر الذي كان يحز في نفسي وكان من الممكن أن يُحبطني لكن طموحي وإيماني بنفسي كانا يموداني بالقوة للاستمرار».
الصعوبة كانت تكمن في أنه كان يعرف أنه لا يملك القدرة أن يخسرها وفي الوقت لم يكن يريد أن يخسر نفسه، لهذا ظل كل هذه السنوات في صراع معها محاولا أن يقنعها بأن هناك فرقا شاسعا بين المصمم وبين الخياط. لا يُخفي إيلي صعب أن هذه المرحلة كانت الأصعب في مسيرته، ويتذكر بمزيج من الحزن والفخر: «كان من السهل أن أنصاع لذوقها لكي أبيع وأحقق النجاح التجاري، لا سيما أني كنت في أمس الحاجة إلى الدعم المادي، لكني قاومت. كان حبي للتصميم ورغبتي في التميز أكبر من رغبتي في النجاح المؤقت. هذا لا يعني أني لم أقدم تنازلات لإرضاء زبونتي، لكن أبدا لم تكن على حساب فنيتي. لقد أدركت منذ ذلك الحين أن النجاح يحتاج إلى موقف واضح وشجاع».
ما يُحسب لإيلي صعب أنه لم يُضيع وقته في التحسر في تلك المرحلة، وحول السلبي إلى إيجابي، حيث استغل هذه الفترة لصقل أسلوبه بشكل يتواءم مع طموحاته ودراسة السوق في الوقت ذاته. وكانت النتيجة اكتشافه أن مصدر الصعوبة التي كان يواجهها يعود إلى تبنيه لغة غريبة على هذه الزبونة. كان أسلوبه بسيطا للغاية، حسب قوله: «فقد كنت متأثرا بالأسلوب الأوروبي، وبالتالي كنت أركز على القصات ولا أميل بتاتا للتطريز، وعندما أعدت التفكير في الأمر، انتبهت إلى أن زبونتي عربية ومن واجبي أن أخاطبها بلغتها». وهكذا بدأ يُطوع جموحه ويُدخل التطريز بالتدريج. ولدهشته اكتشف أنه لا يتعارض مع الجمال والأناقة، بل العكس تماما «انتبهت أنه يمكن أن يلعب دورا في تمييزي عن غيري من المصممين الأوروبيين، وبالصدفة تحول ما كان الهدف منه تجاريا لبيع تصاميمي للمنطقة العربية إلى أسلوب خاص بي». مع الوقت طور هذه التطريزات وأكسبها فنية فرضت نفسها على الساحة العالمية لتصبح لصيقة باسمه وأسلوبه، وهكذا كسب إيلي صعب الشاب قلب هذه الزبونة وثقتها، ومنذ ذلك العهد وهو المصمم الأكثر مبيعا في المنطقة. بل يمكن القول إنه من فتح شهية المصممين العالميين على التطريز لكسب ود هذه الزبونة.
يعود إيلي بذاكرته للوراء ويعترف قائلا: إنه لن ينسى فضل المنطقة العربية عليه أبدا، لكنه ما أن كسبها حتى بدأ يشعر بأنه يريد أن يُحلق أعلى وأن محيطه أصبح ضيقا. داعبه حلم باريس مرة أخرى وبالفعل كان من الأوائل الذين اخترقوا أسوارها عندما كانت مغلقة في وجه كل عربي. فالصورة المترسخة في أذهان خبراء الموضة العالميين عن المصممين العرب آنذاك أنهم مجرد خياطين يقلدون إصداراتهم، باستثناء عز الدين علايا.
لهذا غني عن القول: إن طريقه هنا أيضا لم تكن مفروشة بالورود. بيد أنه كان مُستعدا لخوض حرب مخملية مع الغرب ويكسبها بأي ثمن، لأنه لم يعد يطيق المحلية.
«بدأت أشعر بضيق المنطقة العربية على إمكانياتي. اكتفائي بها كان يتعارض مع طموحاتي والصورة التي رسمتها لنفسي عندما دخلت هذا المجال. لم تعد في فترة معينة، قادرة على استيعابي رغم أني مدين لها بالكثير ولا أزال. فلولاها لم وصلت إلى أوروبا وأنا قوي بإمكانياتي المادية...لم احتج إلى أي أحد وهذا بحد ذاته قوة لا يستهان بها».
هل يرى الآن أن نجاحه ضربة حظ كما يراه باقي المصممين؟ يضحك ضحكة لا تعرف إن كانت تنطوي على سخرية أم على مرارة ويرد «لم يكن حظا على الإطلاق بل مثابرة وتخطيط دائمان للوصول إلى العالمية لكن بطريقتي كما تقول أغنية فرنك سيناترا الشهيرة».
تخرج من اللقاء وأنت تشعر بأن إيلي صعب بالفعل ظاهرة. فرغم كل النجاحات التي حققها واعتراف العالم بأسلوبه وقوته التجارية، لا يزال متحمسا ومتعطشا لمزيد. تشعر أيضا أنه ليس مُنظرا، فالحياة بالنسبة له عمل ميداني وتجارب يعيشها بشكل يومي، وقابلة للفشل والنجاح لكن المهم هو الاستفادة منها وتحويلها إلى إيجابيات، لهذا تستشف في نبرة صوته حسرة وهو يتحدث عن أبناء جيله من المصممين الذين لم يستوعبوا أن لكل شخصيته ومسيرته وبأنه لم يصل إلى النجاح بين ليلة وضحاها.
إيلي صعب... ظاهرة تحولت إلى عُقدة
المصمم اللبناني لـ «الشرق الأوسط»: النجاح يتطلب مواقف واضحة وشجاعة... وتقليدي لن يؤدي سوى إلى الإحباط
إيلي صعب... ظاهرة تحولت إلى عُقدة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة