البدلة تنتعش وربطة العنق تتراجع

المصممون يُعاملون البدلة الرجالية بـ«نعومة ورقّة» مراضاة للسوق

شتان بين حضور «بيتي أومو» المتأنقين في السابق وبينهم اليوم (خاص)
شتان بين حضور «بيتي أومو» المتأنقين في السابق وبينهم اليوم (خاص)
TT

البدلة تنتعش وربطة العنق تتراجع

شتان بين حضور «بيتي أومو» المتأنقين في السابق وبينهم اليوم (خاص)
شتان بين حضور «بيتي أومو» المتأنقين في السابق وبينهم اليوم (خاص)

قطاع الأزياء الرجالية يعيش حالة من الانتعاش هذه الأيام. مستقبله يبدو وردياً حسب دراسة قامت بها شركة «يورومونيتور»، وتُفيد بأنه ينمو بوتيرة أسرع من باقي القطاعات الأخرى على الرغم من التغييرات التي يمر بها. نسبة نموه تُقدر بـ5.8 في المائة سنوياً والتوقعات تشير إلى أنها ستصل إلى 548 مليار دولار خلال السنوات الأربع المقبلة. في إيطاليا وحدها يشهد هذا القطاع انتعاشاً بلغت نسبته 20.3 في المائة، ليصل إلى 11.3 مليار يورو عام 2022، متجاوزاً بذلك المستوى الذي كان عليه قبل جائحة «كوفيد». أرقام المبيعات هاته لها مفعول السحر على صناع الموضة من ناحية تحفيزهم على الابتكار وتعلُم لغة جديدة يفهمها الشباب. الأمر لم يعد يقتصر على مصممي بيوت الأزياء الكبيرة الذين يتكلمون هذه اللغة بطلاقة بحكم أن أغلبهم من شريحة الشباب فحسب. شمل أيضاً خياطو إيطاليا وسافيل رو بلندن ممن توارثوا تقنياتهم أباً عن جد.

هذه التغييرات يقودها جيل شاب نجح في فرض أسلوبه وميوله على الساحة بفضل إمكاناته المادية العالية. حتى أعرق بيوت الأزياء الإيطالية والإنجليزية، مثل «كيتون» و«زيغنا» و«جيفز آند هوكس» إلى جانب علامات مثل «بيليونير» وغيرهم، أذعنت لرغباته وتسعى لمراضاته بـ«نعومة ورقّة».

من اقتراحات «دولتشي آند غابانا» (أ.ب)

وبما أن المعارض وعروض الأزياء هي البوصلة التي تُسلط لنا الضوء على اتجاهات الموضة، فإن نظرة سريعة لما يجري منذ بداية هذا الشهر في معرض «بيتي أومو» بفلورنسا الإيطالية، وعروض الأزياء لربيع وصيف 2024 في كل من ميلانو وباريس تشير إلى أن الخريطة الشرائية أثرت بشكل مباشر على الماكينة الإبداعية. فشتان بين صورة الأناقة الرجالية في الماضي حين كانت داكنة وحياذية وبينها اليوم، حيث تلوَنت بألوان الورود. تخففت كذلك من تفاصيل كانت في عهد الجيل السابق أساسية وأصبحت في عيون جيل اليوم ترتبط بأناقة «داندية» لم تعد تناسبه في ظل تسارع إيقاع الحياة العصرية وثقافة الانفتاح على الآخر وتقبل التنوع والاختلاف بكل أشكاله وألوانه.

من هذا المنظور تعرضت البدلة الكلاسيكية إلى عمليات تجميل فكّكتها وأضفت عليها نعومة ولمسات «سبور» منحتها جُرعة ديناميكية وفي الوقت ذاته أكسبتها شعبية. أمر لا يمكن قوله على ربطة العنق، الإكسسوار الذي كان لا يفارقها إلى في حالات نادرة. فقد تعرض لتجاهل شبه تام في هذا الموسم، باستثناء إطلالات قليلة جداً. وحتى هذه تعرضت فيها لعمليات تنحيف قاسية جعلتها لا تظهر للعيان من بعيد.

في «لوي فويتون» ظهرت بتصاميم واقتراحات عدة (أ.ف.ب)

السبب أن المصممين لم يتشجعوا على الإسهاب فيها لأن جيل الشباب عازف عنها ومبيعاتها في تراجع مستمر. غيلدو زيغنا، رئيس مجلس الإدارة في مجموعة «إيرمينغلدو زينيا»، أكَد أن مستقبلها لا يدعو للتفاؤل. على الأقل في المستقبل القريب «فهي لم تمت تماماً، لكنها فقدت شعبيتها لصالح قطع أخرى». السبب حسب رأيه، أن الرجل العصري يريد أن يُنسق بدلته «مع قميص من الحرير» أو مع «بولو تي - شيرت» أو حذاء موكاسان أو بتصميم رياضي. وهذا المظهر المنطلق لا يحتاج إلى ربطة عنق. تجدر الإشارة إلى أن «زيغنا» من بين بيوت أزياء أخرى كثيرة مثل «كيتون» الإيطالية، باتت تُركز حالياً على القطع المنفصلة أكثر من البدلات المفصلة، مثل القمصان والقطع الصوفية حتى تُلبي كل الأذواق وتغطي كل الاحتمالات.

بيد أنه من الخطأ القول أن مسؤولية تراجع هذا الإكسسوار تعود كاملة إلى جيل الشباب. فنجمها بدأ يخفت منذ عام 2016 وزاد الأمر سوءاً بعد عام 2019 بسبب جائحة كورونا وما ترتب عنها من عُزلة وانعزال، أديا إلى تراجع مبيعاتها بنسبة 6 في المائة عام 2019، و42 في المائة في عام 2020. ما اختبره الجميع آنذاك، أن العمل من البيت لا يحتاج إلى بدلة وربطة عنق. كما اكتشفوا مُتعة الراحة عندما تترافق مع الأناقة غير الرسمية. لهذا؛ وحتى بعد اجتياز العالم الجائحة واسترجاع البدلة مكانتها، بقي هذا الإكسسوار الحلقة الأضعف. ربما لأنها ظلت محتفظة بشخصيتها الرسمية رغم محاولات البعض تنحيفها. لم تنجح لحد الآن في تجديد صورتها ودورها على العكس من البدلة. ولحسن الحظ أن التغييرات التي خضعت لها لم تستهدف تأنيثها بقدر ما ركّزت على التخفيف من رسميتها بإضفاء النعومة عليها. أصبحت الخطوط أقل صرامة والأكتاف أكثر التحاماً مع الجسم، في حين غابت أي تفاصيل من شأنها أن تُقيّد صاحبها. وهذا ما جعلها تستقطب زبائن جُدداً من دون أن تستثني الجيل القديم. فعلامة «بيليونير» التي تتوجه إلى الرجل الناضج قدمت مثلاً عرضاً لعبت فيه على الكلاسيكية من خلال بدلات في غاية الرسمية، تلاعبت عليها بالتخلي عن ربطة العنق والقميص الكلاسيكي. وهكذا حقق الرجل الذي لا يريد الاستغناء عن البدلة المعادلة الصعبة بمواكبته الموضة من دون أن يتنازل عن أناقته.

البدلة من دون ربطة تخاطب كل شرائح العمر (أ.ف.ب)

المتابع لمعرض «بيتي أومو» الفلورنسي عبر العقود، يلاحظ مدى تغيُر مشهده، سواء من نوعية حضوره أو تنوع اقتراحاته. ما يحسب للمسؤولين فيه، أنهم لم يُلغوا شخصيته تماماً، ولم ينسوا أنه الوجهة المفضلة للباحثين عن الأزياء الرسمية، سواءً كانت بدلات بصديري أو قمصاناً بياقات عالية أو ربطات عنق من الحرير أو الصوف المغزول بالكشمير وما شابه. لم يكن مطروحاً أن يحيدوا عن هذا النص المرسوم منذ انطلاقه، لكنهم في الوقت ذاته أدركوا أن رياح التغيير قوية وعليهم اجتيازها بسلام. لهذا تبنوا لغة خفيفة ومعاصرة. الطريف أن حتى ضيوفه ممن كانوا يُنعتون بـ«طواويس الموضة» لأنهم كانوا يستعرضون فيه أساليبهم «الداندية» بكل مبالغاتها وبذخها، لم يتعمّدوا لفت الأنظار هذا العام، بل انصهروا مع باقي الحضور باختيارهم أزياء أنيقة ومنطلقة تحمل لمسات «سبور». أقصى ما ذهبوا إليه أنهم نسّقوا سترات مفصلة مع بناطيل قصيرة تلامس الركبة أو تجلس فوقها قليلاً.

من عرض «بيليونير» (أ.ب)

هذا التزاوج بين الرسمي والـ«كاجوال» كان واضحاً أيضاً في عروض كل من ميلانو وباريس لربيع وصيف 2024. بالنسبة لبيير باولو بيتشيولي، مصمم دار «فالنتينو»، فإن الأمر كان عملية فلسفية وثقافية أعاد فيها تشكيل الهوية الذكورية إلى جانب طرحه تساؤلات حول ارتباط الماضي بالحاضر والمستقبل. بذلك ربط البدلة الرسمية كما عرفها الأجداد والآباء بالبدلة الشبابية، مستدلاً على هذا الترابط بجملة بليغة للكاتبة هانيا ياناغيهارا تقول «كبرنا كثيراً إلى درجة أن أصبحنا شباباً مرّة أخرى». فدورة الحياة مستمرة وما يبدو قديماً الآن كان جديداً وربما ثورياً في الماضي.

دار «برادا» قدمت هي الأخرى تشكيلتها، وهي من تصميم كل من ميوتشا برادا وراف سيمونز، وكل ما فيه يرمي إلى «تحرير جسد الرجل من كل ما هو تقليدي». وصرّح راف سيمون بأن «مَن يُتابع العرض يرى أزياء كلاسيكية للوهلة الأولى، لكن عند التدقيق فيها يتّضح كم هي الصورة مختلفة». فالهدف هو تحريره ومنحه الراحة.


مقالات ذات صلة

«لورو بيانا» تحتل واجهات «هارودز» لتحتفل بمئويتها وإرثها

لمسات الموضة حوَّلت «لورو بيانا» الواجهات إلى احتفالية بإرثها وحرفييها وأيضاً بالثقافة البريطانية التي تمثلها معلمة مثل «هارودز» (لورو بيانا)

«لورو بيانا» تحتل واجهات «هارودز» لتحتفل بمئويتها وإرثها

مع اقتراب نهاية كل عام، تتسابق المتاجر والمحلات الكبيرة على التفنن في رسم وتزيين واجهاتها لجذب أكبر نسبة من المتسوقين إلى أحضانها.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق في عقدها الثامن اختار إريك جدّته «مانيكان» تعرض تصاميمه (حساب المُصمّم على إنستغرام)

إريك ماتيو ريتر وجدّته هدى زيادة... جيلان يلتقيان على أجنحة الموضة

معاً؛ زوّدا عالم الأزياء بلمسة سبّاقة لم يشهدها العالم العربي من قبل. التناغُم بينهما لوّن عالم الموضة في لبنان بنفحة الأصالة والشباب.

فيفيان حداد (بيروت)
لمسات الموضة كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)

5 أشياء تدين بها صناعة الموضة العربية لإيلي صعب

المهتمون بالموضة، من جهتهم، يكنون له الاحترام، لرده الاعتبار لمنطقة الشرق الأوسط بوصفها تملك القدرة على الإبهار والإبداع.

جميلة حلفيشي (لندن)
الاقتصاد صورة تُظهر واجهة متجر دار الأزياء الإيطالية «فالنتينو» في وسط روما (أ.ف.ب)

للمرة الأولى منذ الركود العظيم... توقعات بانخفاض مبيعات السلع الفاخرة عالمياً

من المتوقع أن تنخفض مبيعات السلع الفاخرة الشخصية عالمياً في عام 2025 لأول مرة منذ الركود العظيم، وفقاً لدراسة استشارية من شركة «بين».

«الشرق الأوسط» (روما)
لمسات الموضة في الدورة الأولى من رئاسة زوجها اعتمدت ميلانيا عدة إطلالات أنيقة كان لدار «دولتشي أند غابانا» نصيب كبير فيها (خاص)

هل حان الوقت ليصالح صناع الموضة ميلانيا ترمب؟

قامت ميلانيا بالخطوة الأولى بدبلوماسية ناعمة بإعلانها أنها امرأة مستقلة ولها آراء خاصة قد تتعارض مع سياسات زوجها مثل رأيها في حق المرأة في الإجهاض وغير ذلك

جميلة حلفيشي (لندن)

فؤاد سركيس يرسم لوحة ملونة بالالوان والتفاصيل في مجموعته لـ 2025

اعتمد المصمم على التفاصيل الجريئة حتى يمنح كل زي ديناميكية خاصة (خاص)
اعتمد المصمم على التفاصيل الجريئة حتى يمنح كل زي ديناميكية خاصة (خاص)
TT

فؤاد سركيس يرسم لوحة ملونة بالالوان والتفاصيل في مجموعته لـ 2025

اعتمد المصمم على التفاصيل الجريئة حتى يمنح كل زي ديناميكية خاصة (خاص)
اعتمد المصمم على التفاصيل الجريئة حتى يمنح كل زي ديناميكية خاصة (خاص)

في أحدث مجموعاته لموسم خريف وشتاء 2025، يعيد المصمم فؤاد سركيس رسم هوية جديدة لمعنى الجرأة في الموضة. جرأة اعتمد فيها على تفاصيل الجسم وتضاريسه. تتبعها من دون كشفها. هدفه أن يُشكِلها بأسلوب يمنح المرأة الثقة من دون أن يحرمها من إحساسها بأنوثتها. صحيح أن بعضها يتسم ببعض الجرأة، إلا أن ما يشفع له فيها أنه نجح في ضخها بحقنات مناسبة من العصرية والديناميكية من خلال فنية تظهر حيناً في الأكمام وحيناً آخر في التنورات والجوانب وغيرها.

لعب المصمم على الأنوثة ليرسم لوحة مفعمة بالأنوثة الطاغية والراقية في الوقت ذاته (خاص)

اللافت فيها أيضاً أنها بالرغم من تفاصيلها وكشاكشها وطياتها، مريحة. يشرح المصمم أنه راعى فيها أن تمنح المرأة حرية الحركة «فمن دون حركة وراحة لا يمكن للمرأة أن تبدو ساحرة وواثقة من نفسها» حسب رأيه. ويُبرر أن الجرأة التي اعتمدها محسوبة، بدليل أنها قد تقتصر على الأكمام ولا تركز على إبراز مفاتن الجسد بشكل واضح.

اعتمد المصمم على الألوان الأحادية المتوهجة وكأنه يريد استعمالها بوصفها مضاداً لرمادية الشتاء (خاص)

اختارها ألا تكون صادمة، بل فنية لإضفاء مزيد من الأناقة الفنية على كل قطعة. فكل قطعة في التشكيلة لها شخصيتها الخاصة. أرداها أن تتكلم بلغة تفهمها المرأة التي ستختارها، معتمداً كلياً على التفاصيل، سواء كانت هذه التفاصيل على شكل طيات من لون القماش، أو ثنايا تتلوى على جانب معين، أو فتحات تغازل العين.

يكمن جمال الفساتين في تفاصيلها وأنوثتها من دون أن تكشف الكثير من مفاتن الجسد (خاص)

هذه الرؤية، ينفذها المصمم فؤاد سركيس بألوان متوهجة وواضحة، تكسر الصورة النمطية التي ارتبطت بألوان الخريف والشتاء. بالنسبة له، فإن الألوان الغنية تلعب دوراً محورياً في ضخ التصاميم بالديناميكية التي ينشدها. «فكل لون هنا يضفي قيمته على الزي، سواء تلوّن بالأخضر الزمردي أو الفوشيا النابض بالحياة أو الأحمر الناري أو الأزرق النيلي أو الأسود وغيرها من الألوان الطبيعية الأخرى».