بيتان يتجاوز عمرهما القرن يأتيان بالقرية اللبنانية إلى المدينة

في قلب بيروت وبين جبيل والبترون تعبَق رائحة الأرض

عمره 150 عاماً (قصرا)
عمره 150 عاماً (قصرا)
TT

بيتان يتجاوز عمرهما القرن يأتيان بالقرية اللبنانية إلى المدينة

عمره 150 عاماً (قصرا)
عمره 150 عاماً (قصرا)

ليست الأماكن بحَجَرها وسقوفها، بل بقدرتها على المسِّ بالداخل الإنساني، كأنْ تعبَق برائحة أو تُحرّك ذكريات... بين منطقتَي الجمّيزة ومار مخايل في بيروت، مساحة من هذا الصنف تكاد لا تشبه موقعها، المدن صاخبة لا تنجو من وجوه الزحمة؛ بشر وسيارات وعمران وأصوات وانفعالات، أمكنة مثل «بيت توريف» تُذكّر بالقرى الجميلة.

وبين جبيل والبترون، ينتظر بيتٌ يُسمَّى «قصرا» باحثين عن انسلاخ ما، ربما عن كل ما هو مُتشابه، وربما للتماهي مع شجرة يعبُرها الهواء. هذان البيتان خارج «الوسط»، مساحتهما الخاصة بعيدة قليلاً عن الجوّ العام؛ واحد في بيروت، يخترقها على شكل قرية، والثاني في منطقة «غرزوز» بقضاء جبيل. يجمعهما أيضاً تجاوُزُ عمرِهما القرن، ووقوفهما شاهِدَين على تحوّلات لبنان.

العريشة تتسلّق وتتمدّد (بيت توريف)

أمضى ساسين مزرعاني، صاحب فكرة «توريف»، سنوات خارج لبنان، وظلَّ الشوق يُحرّك والحنين يلفح، لما عاد خطر له: «لِمَ لا آتي بالقرية إلى بيروت؟». يُخبر «الشرق الأوسط» أنّ المسألة مردُّها رغبته في ألّا يشعر إنسان بأنه بلا جذور، يريد للمغتربين خصوصاً تمضية أوقات حلوة في جوّ قروي، فلا تصيب بعضهم غصّة الولادة في المدينة.

عُمر المنزل قرن و20 عاماً، ويحلو لمستأجره الحديث عن «رائحة الماضي»، يقول إنّ الآتي يشمّها في كل زاوية. حوَّل السطح إلى حديقة، «كما في القرى»، وترك الطبقة السفلية لجَمعة السُّفرة، وفي الأرجاء زرعٌ وزهور. هذه «عريشة» تتسلّق الجدران، وتفرش أوراقها على أحجار الماضي، وتلك «ليفة» تنمو وتُثمر، وبجوارها أصناف العطور: ياسمين وغاردينيا؛ وأصناف شجر: لوز ودرّاق؛ وما لا يعلو في الارتفاع، مثل النعناع والبصل، لكنه ينضمّ إلى ما يُحلّي المنظر.

منزلان عمرهما يتجاوز القرن يخبّئان حكاية (من اليمين «بيت توريف» ومن اليسار «قصرا»)

يعني الاسم جولة في الريف، فولد «توريف». يقول ساسين مزرعاني إنّ الطابع القروي يشمل أيضاً توظيف يد عاملة من النساء؛ لدعم النمو الاقتصادي في المناطق الريفية، فالطعام مصدره المنازل في القرى، والمرطبانات في «النملية» موقَّعة بأسماء صُنّاعها، ومُحمَّلة بلذائذ الطبيعة، تلك «النملية»، كما أطلق عليها أجداد القرى اللبنانية، أي خزانة المونة، واقفة في المكان كأنها شجرة بين الأشجار، تنضمّ إلى خبز «التنّور» المُستعمل على المائدة لمَنْح النكهة أصالتها.

عمره 150 عاماً (قصرا)

وإذا كانت قصة «بيت توريف» وُلدت من رغبة في مشاركة القرية مع الجميع، فإنّ حكاية «قصرا» وُلدت من قطاف الزيتون. تقول صاحبة الفكرة ريدا عازار لـ«الشرق الأوسط» إنّ البداية كانت من عام 2017، «فشهدنا آلام لبنان وما تحمَّل». حينها، دعت الناس إلى «ورشة عمل» لتعليم قطف الزيتون، وفوجئت بالمهتمّين.

المائدة والجدران العتيقة (قصرا)

ليس «قصرا» منزلاً كبيراً، بل تُشبهه بـ«البيت الزراعي»، عمره 150 عاماً، وغرفه مفتوحة بعضها على بعض، وكما قطاف الزيتون تتوالى ورش صناعة الصابون، وأخرى لتعليم الأولاد الزراعة، وبرنامج للسير في المنطقة، وهي مُحايدة تقريباً، فيحدُث اكتشافها، في القرى اللبنانية، بعض هذه المشاوير يُسمّى «سْليقة»، وفيه يُميّز الخبراء بين النبات الصالح للأكل وآخر لا مكان له في البطون الجائعة.

أمكنة تُذكّر بالقرى الجميلة (بيت توريف)

على ارتفاع نحو 400 متر عن سطح البحر، يحدُث التعارف بين الإنسان والطبيعة، فتُميّز العين مرة تلو الأخرى بين النبات المُتشابه في شكله وأوراقه، والذي لا يفكّ ألغاز تشابهه هذا سوى خبراء الأرض.

مثل ساسين مزرعاني، لا تستسيغ واقع أنّ البعض محروم من قرية، فتجعل المنزل العتيق مساحة للتعويض. برأيها، «على الريف والمناطق المجاورة النموّ، ما يتيح فرص العمل ويُحرّك الاقتصاد»؛ لذا تشتري الحاجات من جارها الدكان، ومكوّنات الطبخ من نساء المنطقة، وما يلزم مباشرة من أراضي المزارعين بقُربها.

السطح يتحوّل حديقة (بيت توريف)

وماذا يعني «قصرا»؟ فتروي: «القصة تعود إلى مرحلة العثمانيين، حين اعتادت عمّتي زيارة هذه الأرض في الظروف الصعبة، راح البعض يسخر من ولائها للتراب، فسمّوا المكان (قصرا) بالعامية اللبنانية، والمقصود (قصرها)، بنيّة تسخيفه؛ لكونه لم يكن عمارة بعد، وما اندفعت لحبّه بهذا الشكل سوى لأنه قصرٌ من وهم. حافظتُ على الاسم، وتحوَّل (قصرا) من لحظة ساخرة إلى مشروع».

مَن تخطر له القهوة يدخل إلى المطبخ ويعدّها للجميع، «كما في منازل أهل القرى». تتابع ريدا عازار إنّ «الثلاجة والخزائن متاحة للزوار»، لا تريدهم أن يأتوا من أجل الغداء فقط، ثم يغادرون من دون اكتمال التجربة، «لستُ مطعماً، بل مكان مريح». يُشاركها ساسين مزرعاني الوفاء للفكرة: «لسنا فندقاً ولا كافيه، نحن رائحة القرية في بيروت».


مقالات ذات صلة

«التخييم» وجهة شتوية لسكان الرياض تجمع بين الترفيه والتراث

سفر وسياحة المخيم الشتوي أضحى عادة سنوية ينشط لها سكان الرياض مع حلول فصل الشتاء (واس)

«التخييم» وجهة شتوية لسكان الرياض تجمع بين الترفيه والتراث

يقطع الراغبون في التخييم مسافات تزيد عن مائة كيلومتر عن مركز المدينة للحصول على موقع ملائم في فضاء الصحراء التي تحيط بالرياض وبدء تجهيزات المكوث في كنف الطبيعة.

عمر البدوي (الرياض)
سفر وسياحة لاس فيغاس في طليعة المدن الاميركية المسلية (غيتي)

ما أكثر 10 مدن ممتعة ومسلية في أميركا؟

أصدر الخبراء في موقع «والت هاب»، وهو موقع للتمويل الشخصي، مؤخراً تحليلهم للمدن الأكثر مرحاً في الولايات المتحدة. قيمت التصنيفات المدن عبر ثلاث فئات

مادلين فيتزجيرالد (نيويورك)
الاقتصاد وزير السياحة السعودي أحمد الخطيب متحدثاً في «دافوس 2025»... (الشرق الأوسط)

وزير السياحة السعودي: نعمل على تحويل الرياض مركزاً عالمياً للأعمال

أكد وزير السياحة السعودي، أحمد الخطيب، أنه يجري العمل على تحويل الرياض مركزاً عالمياً للأعمال، عبر استضافة المؤتمرات الدولية الكبرى.

«الشرق الأوسط» (دافوس (سويسرا))
سفر وسياحة موريشيوس وجهة رومانسية (الشرق الأوسط)

موريشيوس تفوز بلقب أفضل وجهة لقضاء شهر العسل

فازت دولة جزيرة موريشيوس بلقب أفضل وجهة في العالم لقضاء شهر العسل ضمن جوائز خيار المسافرين المرموقة لعام 2025 التي يمنحها موقع Trip Advisor

سفر وسياحة ينصح بوضع المتعلقات الثمينة في مكان آمن على الطائرة (أدوبي ستوك)

كيف تحمي نفسك من السرقة على متن الطائرة؟

في خبر تناولته الوسائل الإعلامية العربية جاء فيه أن الإعلامي اللبناني نيشان، تعرض لسرقة أغراضه الخاصة والثمينة من حقيبته التي كانت في المقصورة العلوية للطائرة

جوسلين إيليا (لندن)

«التخييم» وجهة شتوية لسكان الرياض تجمع بين الترفيه والتراث

المخيم الشتوي أضحى عادة سنوية ينشط لها سكان الرياض مع حلول فصل الشتاء (واس)
المخيم الشتوي أضحى عادة سنوية ينشط لها سكان الرياض مع حلول فصل الشتاء (واس)
TT

«التخييم» وجهة شتوية لسكان الرياض تجمع بين الترفيه والتراث

المخيم الشتوي أضحى عادة سنوية ينشط لها سكان الرياض مع حلول فصل الشتاء (واس)
المخيم الشتوي أضحى عادة سنوية ينشط لها سكان الرياض مع حلول فصل الشتاء (واس)

تشهد العاصمة السعودية الرياض، ومعظم المناطق الوسطى من البلاد، مناخاً شتوياً ساحراً، مع تسجيل الحرارة درجات متدنية، وهبوب موجات برد تداعب الأجواء، التي تشجع الكثير من سكان المدينة للمكوث في كنف «البر» والاستمتاع بالهدوء والسكينة بعيداً عن ضجيج وصخب المدينة.

ويقطع الراغبون في التخييم مسافات تزيد عن مائة كيلومتر بقليل عن مركز المدينة، للحصول على موقع ملائم في فضاء الصحراء التي تحيط بالعاصمة، والبدء في تجهيزات المكوث طويلاً أو لفترات قصيرة من الوقت في سياحة شتوية تجمع ما بين التراث والترفيه.

تحضر الأزياء التقليدية التي اعتاد الأهالي على ارتدائها مثل الملابس الشتوية والمعاطف الدافئة (واس)

وفي المخيم الشتوي، الذي أضحى عادة سنوية ينشط لها سكان الرياض مع حلول فصل الشتاء، تزخر تفاصيل التخييم بجوانب من تراث المجتمع، حيث تحضر الأزياء التقليدية التي اعتاد الأهالي على ارتدائها، مثل ملابسهم الشتوية الداكنة وأغطيتهم ومفارشهم ومعاطفهم الدافئة المعروفة باسم «الفري» أو «الفروات»، وتحضر الوجبات التقليدية التي تبث الدفء في الجسم، مثل الجريش والمرقوق والمطازيز (المعدة من القمح)، بالإضافة إلى أطباق من «الحلو الشتوي» مثل أطباق الحنيني والفريك والمحلى، المعدّة من القمح أيضاً، وأكواب من الزنجبيل والحليب الساخن بوصفهما مشروبين مفضّلين في الشتاء.

الانقطاع إلى الطبيعة

تحدث فهد المنصور إلى «الشرق الأوسط» عند تجاربه في التخييم، وقد اعتاد على هذه السياحة الشتوية منذ نحو عشرين عاماً، لم ينقطع خلالها عن قضاء معظم أوقات فصل الشتاء خارج المدينة، وأصبح يتنافس مع ذويه في اختيار المكان الأفضل لنصب الخيام وإيقاد مواسم الشتاء.

ساعات من الخلوة في الطبيعة لقضاء الوقت بين الترفيه والتراث (واس)

انتقلت هذه العادة للمنصور من والده، الذي كان يفضلها على سواها، يقول: «كنت مرافقاً لوالدي عندما كان يتجهز باهتمام لموسم الشتاء، ويعدّ كل ما يلزمه لقضاء الوقت في البر، حيث ينقطع إلى هذه اللحظة الأثيرة إلى نفسه، لقد جمعتنا الكثير من الذكريات في هذا الفضاء الطبيعي والساحر، كنا كعائلة نجتمع باستمرار تحت سقف المخيم المعدّ بعناية للاستمتاع بفصل الشتاء، والآن ترك لدي والدي هذه العادة التي لم أنقطع عنها منذ سنوات، وما زال أبي يرافقني إلى مخيمي الخاص بين وقت وآخر».

ولاكتمال مشهد التخييم على صفته التقليدية، يقول المنصور إن الغالبية لا يصطحبون أجهزة التدفئة الحديثة، ويستمتعون باستخدام الحطب المستورد في المواقد التي تنشر الدفء في المكان، ويستخدمونه وسيلة لإعداد ولائم العشاء، وأباريق القهوة والشاي عليها والتحلق حولها والاستغراق في الأحاديث الودّية بين أفراد المخيم.

وعن التجهيزات اللازمة لقضاء موسم تخييم شتوي ناجح، يقول موسى العمري إن التخييم الناجح يعتمد على الاستعداد الجيد، مشيراً إلى أن الكثير من ذوي الخبرة يتحضرون لموسم الشتاء قبل حلوله بوقت كافٍ، من خلال النزول إلى الأسواق الشعبية واقتناء أحدث ما تقدمه من تجهيزات تساعد على قضاء وقت ممتع في حضن الطبيعة.

تزخر تفاصيل التخييم بجوانب من تراث المجتمع (واس)

ويختلف معه في ذلك فهد المنصور، ويقول إن «التخييم»، لا سيما في وقت الشتاء ليس أكثر من «سقف يقيك، ونار تدفيك» وإن المبالغة في التجهيزات قد تفسد متعة قضاء الوقت بعيداً عن الأجهزة والآلات التي تنوب عن الإنسان في بذل جهد يغيّر روتينه المديني، يضيف: «للجميع حق الاختيار، هناك من يقطع مسافات طويلة تستلزم أن يستعد الإنسان جيداً لمواجهة كل الطوارئ المحتملة، لكن المبالغات تفسد شعور الانقطاع إلى هذا الفضاء الطبيعي والاتصال العفوي مع المكان، الذي يعود بعده الإنسان بروح نشطة وذهن صافٍ ومتقد».

التخييم يعزز نشاط الأسواق

مع دخول موجات البرد التي تشهدها معظم مناطق السعودية، وتسجيل مستويات متدنية لدرجات الحرارة، زاد إقبال الأهالي على أجهزة التدفئة بأنواعها المختلفة، بالإضافة إلى الملابس الشتوية مثل المشالح و«الفروة» التي تعد من الملابس التقليدية التي يستعين بها العديد من أهل هذه المناطق على مواجهة برودة الشتاء.

وتعد «الفروة» من الملابس الشتوية التقليدية التي يزيد الإقبال عليها وقت الشتاء، وهي شبيهة بالبشت (المشلح) من ناحية الشكل والحجم، وتختلف في كونها مبطنة بوبر أو صوف، وهناك عدد من الدول التي يستورد منها الفرو الصناعي، وتشمل الأنواع الموجودة في السوق السعودية الفروة الطليانية والطفيلية وفروة الراعي وغيرها.

أكواب الزنجبيل والحليب الساخن مشروبين مفضّلين في الشتاء (واس)

ومن أنشطة التسوق التي تبرز خلال الشتاء، المحلات المتخصصة في تجهيزات التخييم الشتوي، حيث تبدأ تلك المحال توفير ما يلزم لتجهيز مخيم شتوي متكامل، من الأدوات والأجهزة والترتيبات التي تضمن قضاء أفراد المخيم أوقاتاً ممتعة.

ويقول أجواد علي، الذي يستقبل زبائنه في أحد أركان سوق المعيقلية المعروف في الرياض، أن موسم الشتاء هو موسم مخصص لبعض أنواع البضاعة التي يزيد عليها الإقبال خلاله.

ويضيف: «هذا ينطبق على احتياجات الأفراد والمجموعات، حيث يتوجه المتسوقون إلى المحلات التي توفر قطع الملابس الدافئة، أو محلات لوازم الرحلات والتخييم، ومحلات تعديل السيارات التي تتولى مهمة تجهيزها بكل ما يلزم لقطع مسافات داخل البرّ، فيما تتنافس المحلات على توفير البضائع الملائمة لهذا الموسم الحيوي والسياحة الشتوية الواعدة».