عندما يكون المكان مدججاً بالتاريخ، وتناظرك القصص والحكايات من زواياه وكل ما يحيط به، ويتسلل من بين أزقته وجدران قلاعه العتيقة عطر الانتصار ونشوة المجد، وأنت لا تعلم، وتعلم أنك لا تعلم، أنك تسير بمفردك ولست وحيداً في واديي قنونا ويبه، وتسمع ما يسلّي خاطرك عن الأشوريين والعرب البائدة، وتشاهد نقوشاً هنا وهناك، وتتمتم في ذهول «ما هذا؟»، وأنت تشاهد جبال العِرضيات وهي تسدلُ عنها الشحوب لتريك زينتها، وقصصاً جمة تنتظر مشط الراوي ليعقد جدائلها المنثورة لأكثر من 5 آلاف سنة، حينها لا تجزع، بل قف، وانظر إلى شموخ هذه المدينة، وأنصت لحكايا يحتضنها الجزء الجنوبي من منطقة مكة المكرمة.
العِرضيات أو العُرضيات، بكسر العين أو ضمّها. كسرت اللامعقول في الكمّ، واحتضنت تاريخاً حافلاً، هذه المدينة التي تقبع جنوب غرب السعودية، الغارقة في بحر الحكايات والقصص، من النبي سليمان - عليه السلام - الذي أرسل وفداً للمدينة بحثاً عن الذهب في بطن العِرضيات، إلى حكاية المناجم وقوم ثمود، وحقبة الصيادين الأوائل قبل 5 آلاف سنة من ظهور الإسلام في الجزيرة العربية.
تاريخ عريق وطبيعة فاتنة
المدينة لم تكتفِ بنسبها وتاريخيها، بل بإجادة في طبيعتها، وهو ما يراه الباحثون أحد أبرز العوامل التي استقطبت الأقوام الفائتة؛ الأخضر يوشّح وديانها، وشلالاتها تقفز شوقاً من أعلى الجبال لمعانقة الأرض، ناهيك بعيون الماء النقية التي تسرح في أودية المحافظة طيلة العام.
عبد الله الرزقي، الباحث في الآثار والتاريخ، يقول: إن العِرضيات مدينة ضاربة في التاريخ، وفقاً لما رُصِد فيها من آثار ورسوم منحوتة على جبالها، من نقوش لحيوان الوعل، الذي يعود لحقبة الصيادين الأوائل، موضحاً أن المدينة مرّت بمرحلتين مهمتين تمثلت الأولى منهما بـ«مرحلة العرب البائدة» حين كان يقطنها قوم ثمود في منطقة ثميدة، مستشهداً بالكتابات الثمودية الموجودة في بعض المواقع بها، إضافة إلى ما ورد في دراسات محمد بيومي مهران من جامعة الإسكندرية في كتابه «تاريخ العرب قبل الإسلام»، الذي أشار إلى أن هذه المنطقة قد ورد اسمها في بعض الأسفار، وأنها هي المنطقة التي أرسل إليها النبي سليمان وفداً للبحث عن ذهب لا ينقى من الشوائب.
وتابع الرزقي، أن هناك نقوشاً تعود إلى الأنباط ونعتقد أنهم سكنوا المدينة، كذلك الفينيقيون والأشوريون الذين جابوا البحر الأحمر وصولاً إلى المنطقة، وهذا ما أورده المؤرخ حسن فقيه ضمن خريطة آثار ثميدة، موضحاً أن واديي قنونا ويبه اللذين تتمنطق بهما محافظة العِريضات من جبال السرة إلى القنفدة وصولاً إلى البحر، سجلا الكثير من الأحداث التاريخية، ومن ذلك توافد القبائل من مختلف الأرجاء للاستيطان فيهما، إضافة إلى أن أحد ملوك جرهم قبل الإسلام لجأ وادي قنونا وورد في كتاب «تاريخ الأزرقي في أخبار مكة».
جبل القلادة
ومن الروايات القديمة التي يسردها قاطنو المدينة ويرويها الباحث الرزقي، واقعة جبل القلادة الذي كان اسمه «خشم جبهه» نسبة لشكل الجبل التي تكون نهاية طرفه على شكل أنف، وفيما أورد، أن قافلة عابرة نوّخت ركابها في وادي خيطان الموازي لجبل القلادة للتزود والاسترخاء، فتوجهت إحدى النساء فيها للاغتسال، فوضعت قلادتها الثمينة على إحدى الصخور القريبة منها، ومن دون مقدمات انقضّ طائر الحداة على القلادة انتشلها وحلّق بها على مرأى الجميع، حتى استقر الحال به ورماها على الجبل، فما كان من زوجها إلا أن وعد بتقديم جائزة ثمينة لمن يستطيع جلبها من فوق الجبل، وهذا ما حصل بالفعل، وأُعيدت القلادة ومنذ تلك اللحظة وذلك التاريخ أُطلق عليه هذا الاسم الجديد.
العسل والسياحة
بحكم موقعها الجغرافي بين منطقة عسير جنوباً وشرقاً، ومنطقة الباحة شمالاً، اكتستها الطبيعية فأصبحت وجهة سياحية مفضلة للباحثين عن الدفء وجمال الطبيعة في فصل الشتاء، كما يقول محمد أحمد القرني، الإعلامي والباحث في الآثار، موضحاً أن العِرضيات تكثر فيها الأودية وتسرح فيها المياه، ومنها أودية قنونا، ويبه، والنظر، والجناح، وعلى جنباتها قامت المزارع وعاشت أشجار النخيل.
ولفت القرني، إلى أن وادي يبه العملاق أحد أكبر الأودية في السعودية، والذي يستمد عنفوانه من أعالي جبال السروات ومن عشرات الأودية والشعاب التي تشكل روافد رئيسية له ليمتد بما يزيد على 100 كيلومترٍ حتى يصبّ في البحر الأحمر، موضحاً أنه على وادي قنونا قام سد شكل بحيرة ذات امتداد واسع أسهمت في زيادة المتعة البصرية للزائرين والسائحين.
وهناك الكثير من القرى الأثرية القديمة والنقوش التي تعود إلى مئات السنين، ومنها قرى الجربش، ومخشوشة، وصخران، وسوق خميس ناخس القديم، والحديث للقرني، الذي قال: إن هناك مقابر أثرية بمركز «الويد» بها نقوش ومعالم تاريخية بالخيطان وقرية الحنو الأثرية، وهناك تشكيلات صخرية عجيبة وبأشكال متعددة.
وعن العسل تحدث القرني، بأن مدينة العِرضيات تنتج أجود أنواع العسل ويُنظّم له مهرجان سنوي، حيث يمارس نحو 1200 نحال مهنة تربية النحل ويمتلكون نحو 350 ألف خلية يقدر إنتاجها السنوي بنحو مليون و200 ألف كيلو، تقدر قيمتها السوقية بـ500 مليون ريال سنوياً.
الشاعر والأديب محسن علي السهيمي، خرج بنا بعيداً عن الملموس في جماليات الكلمة لكثير من الشعراء الذين تغنوا بالعِرضيات لجمالها وموقعها بين منطقة عسير والباحة والذي جعلها تشبه شبه الجزيرة في شكلها، لتكون محط عبور قوافل التجارة، التي كانت تسير في ثلاثة مسارات تتمثل في السروات من أبها إلى الطائف، وكان يطلق عليه «طريق الفيل»، و«طريق الجند» وهو يمتد على ساحل البحر الأحمر، وهنا العبور الأخير الذي يمرّ مع العِرضيات وكان يربط المنطقة الجبلية المنخفضة التي تمتد من مكة إلى رجال المع.
وفي مدح جبل حضوضي يقول السهمي:
يا شامخاً دهرَهُ حركتَ أشجاني
بِذُرْوَتَيْكَ.. فهامتْ فيك أوزاني
هنا السمـوُّ إلى العَلْيا وإن بَعُـدتْ
هنا حَضَوْضَى عظيمُ القَدْرِ والشانِ
فـي سفحِه ملعبٌ للسُّحْبِ تألفُـهُ
وتلك أيامُه دالتْ بثَهْلانِ