أفلاطون والعالم الآخر

أفلاطون
أفلاطون
TT

أفلاطون والعالم الآخر

أفلاطون
أفلاطون

إذا كان اليونانيون قد قتلوا سقراط لأنه قدم لهم رؤية مختلفة للعالم حولهم من خلال الحث على التعرف على الذات والطبيعة وعدم قبول أي شيء على اعتباره أمرا مطلقا، فإن سقراط قد لقن الإنسانية درسا هاما حول التضحية بالنفس عندما شرب السم انصياعا لأوامر المجتمع حتى ولو كان هذا المجتمع على ضلالة، وفي كل الأحوال فإن فكر سقراط ولد أفكارا جديدة ممثلة في تلميذه النجيب أفلاطون الذي ولد في أثينا في 428 قبل الميلاد، ومثل أستاذه فأفلاطون كان له أكبر الأثر في المسيرة الفكرية لدى البشرية من خلال منحها منحا جديدا حتى وإن اختلفنا أو اتفقنا معه، فقد أخرج الرجل اليونان والإنسانية من طريقها الفكري التقليدي إلى طريق جديد غير محسوس، ولكن منهج الوصول إليه كان العقل والروح بدرجة أقل، فكان هذا ما درسه الرجل في مدرسته الشهيرة في أثينا التي عرفت باسم الأكاديمية نسبة إلى البطل اليوناني «أكاديموس»، والتي كان يدرس فيها الفلسفة والرياضة. لقد خرج أفلاطون عن نطاق فكر أستاذه سقراط حيث بدأ فلسفته مشددا على أن حقيقة وجود عالم ملموس نتحسسه بحواسنا الخمس يعني بالضرورة وجود عالم غير ملموس أو محسوس وندركه بعقلنا وبدرجة أقل روحنا، ومن هنا بدأ التوجه الأفلاطوني الذي ما زلنا نستخدمه إلى اليوم كمثال لما يجب أن تكون عليه الأمور أو الأخلاق أو الأشياء، ففي هذا العالم الذي نطلق عليه مجازا لفظ «الأفلاطوني» أو المثالي، تكون الأمور في أقوى وأعظم مستوياتها وأشكالها، فهذا العالم هو الأساس، والعالم المادي الذي نعيش فيه هو انعكاس غير كامل للكمال في العالم الأعلى، عالم الخلود والإتقان، ويرى أفلاطون أن في عالم المثاليات المثال الكامل لكل شيء، فهناك مثال كامل للرجل والمرأة وكل حيوان، وفي الأرض هناك انعكاسات غير مكتملة لما يجب أن يكون عليه كل شيء. وفي إحدى أعظم الأعمال الرمزية في الكتابة على المستوى الفلسفي نجد هذا الفيلسوف العظيم يقدم لنا نموذجا فريدا تحت اسم «خرافة الكهف» «Allegory of the cave»، فيصور أفلاطون البشرية على أنها مجموعة من البشر المكبلين داخل الكهف ينظرون إلى حائط النهاية في ظلام يكاد يكون دامسا، وخلفهم يوجد حائط أعلى ومن خلفه نار موقدة تعكس خيالات على الحائط أمام مكبلي الكهف، وعند هذا الحد يستطيع أحدهم، ويقصد به مجازا أستاذه سقراط، أن يتخلص من قيوده ويتسلق الحائط فيرى أن الخيالات المظلمة التي كان يراها ما هي إلا انعكاسات للكائنات المختلفة التي بدت في أعظم وأبهى أشكالها بألوانها الطبيعية وهيئاتها العظيمة، فيرى هذا المتحرر العالم كما أراده الله أن يكون، وليس من خلال انعكاساته التي تعودنا أن نراه بها بسبب القيود المفروضة علينا بالأغلال والظلام من حولنا، ولكن أخطر ما في الأمر هو أن المتحرر عندما يعود إلى المكبلين ليشرح لهم حقيقة العالم من حولهم، فإنهم يرفضون الخروج عما تعودوا عليه وما وجدوا آباءهم عليه، وهنا تبرز حكمة أفلاطون الشهيرة التي يقول فيها «إننا نستطيع أن نغفر للطفل الذي يخشى الظلام، ولكن المأساة الحقيقية في الحياة هي عندما يخشى الرجال النور». هنا تبدو عظمة الرمزية، فبالنسبة لأفلاطون فإن الإنسانية مقيدة لا تستطيع أن ترى العالم الفوقي أو المدينة الفاضلة إلا من خلال الانعكاسات بسبب ظروفهم الحسية المحدودة والتزامهم بالأنماط التقليدية للتفكير دون فتح المجال لتفهم حقيقة الأمور، ويرى أفلاطون أن التقرب لهذا العالم يجب أن يكون من خلال العقل والروح اللذين يمثلان الوسيلة، خاصة الروح لأنها تعد جزءا من هذا العالم قبل هبوطها لتسكن الجسد، ومن ثم أهمية الروح لأنها غير قابلة للتحلل والفناء مثل الجسد. ولقد كان من الطبيعي أن ينبع فكره السياسي من هذا المنطلق، فلقد رأى أفلاطون أن الدولة تتكون من ثلاث طبقات أساسية، الحكام أو القائد، ثم المساعدين والعاملين وهي الطبقة التي تشمل كل العمال والفلاحين والتجار ... إلخ، كما رأى أن وسيلة الحكم يجب أن تكون على نفس المستوى، وبالتالي فلقد رأى أن أفضل وسيلة للحكم هي أن يكون الحاكم هو الفيلسوف فيما عرف بالفيلسوف الملك Philosopher King، وذلك لأن الفيلسوف هو في حقيقة الأمر أقدر الأشخاص على الوصول للحكمة والعلم المطلوبين لقيادة الدولة، ولكن الرجل أصر أيضا على أن يكون قائد الدولة والجنود من غير ذوي الأملاك حتى لا تشغلهم أمور الحياة عن واجبهم المقدس لقيادة المجتمع إلى ما هو أفضل لهم. إن كثيرا من التحليلات الحديثة تذهب إلى أن كتابات أفلاطون يمكن أن تمثل، ولو بشكل مستتر، أول توجه نحو الفكر الشيوعي البدائي، فهو كان مؤمنا بالدولة ككيان سياسي هام له مسؤولية كبرى في تربية الشباب وتنظيم الحياة بالنسبة للجميع فضلا عن رعاية المحتاجين، ولعل ما ساهم في هذا التوجه كان انتقاداته الحادة للديمقراطية اليونانية التي كانت مبنية على تواجد المواطنين في مراكز تجمع المدينة، وجملته الشهيرة التي تعكس ذلك هي أن «الديمقراطية نوع جذاب من الحكم مليء بالمتنوعات وعدم النظام، فضلا عن كونه يمثل مساواة لمن هم سواسية أو من لا يجب أن يتساووا من الأساس». وفي كل الأحوال فإن أفلاطون يعد شخصية تكاد تكون فريدة لأنه وضع فلسفته الأساسية على مبادئ ميتافيزيقية غير ملموسة، وبنى عليها كل آرائه بعيدا عن الفكر التقليدي، ففكرة العالم المثالي المتواجد خارج نطاق العالم الملموس تمثل قاعدة استند إليها الكثير لمحاولة تقديم رؤى خارج نطاق الفكر التقليدي، وهو أمر شاركه فيه الكثير، فكل إنسان فينا لديه ارتباط بعالم المثل حتى ولو كان من صناعته، ففي هذا العالم يجسد الإنسان ما يربو له ضميره والحكمة التي يفرضها عليه عقله، وفكر أفلاطون لا يختلف عن مفاهيم كثيرة ترى فيما وراء الطبيعية مصادر هامة للإنسانية تمدها بالأخلاق والمثل والطاقة، فليس بالعقل وحده يسعد الإنسان.



واشنطن ترعى كسر «قواعد الاشتباك»مع إيران... لفرض ميزان قوى جديد

القبة الحديدية الإسرائيلية تتصدى لصواريخ حماس (أ ف ب/ غيتي)
القبة الحديدية الإسرائيلية تتصدى لصواريخ حماس (أ ف ب/ غيتي)
TT

واشنطن ترعى كسر «قواعد الاشتباك»مع إيران... لفرض ميزان قوى جديد

القبة الحديدية الإسرائيلية تتصدى لصواريخ حماس (أ ف ب/ غيتي)
القبة الحديدية الإسرائيلية تتصدى لصواريخ حماس (أ ف ب/ غيتي)

على الرغم من أن بعض التحليلات لا تزال تعتقد أن المنطقة قد تكون مقبلة على حرب موسعة، مدفوعة «بفائض القوة» الذي يشعر به بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، فإن ما جرى في الأيام الماضية أظهر أن ميزاناً جديداً للقوى إقليمياً في طور التشكل، بعدما كسرت إسرائيل «قواعد الاشتباك» التي كانت قائمة مع إيران وميليشياتها. فالحرب التي شنّتها على قطاع غزة، إثر «الزلزال» الذي أحدثه في المجتمع الإسرائيلي هجوم حركة «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي، لم تكن لتستمر من دون «غطاء» أميركي. وكشفت الأيام الأخيرة أن أهدافها بعيدة المدى تتجاوز مسألة الرد على «حماس» إلى فرض قواعد جديدة على «طوق النار» الذي تفرضه إيران عليها. إذ إن حشد الأساطيل الأميركية الذي تكرّر 3 مرات خلال الأشهر العشرة الماضية كان رسالة ردع مزدوجة، ليس لإعادة بناء الردع الإسرائيلي فقط، بل إعادة تكريس «معادلة جديدة – قديمة» مع إيران، تقوم على أضلاع عدة، منها منع امتلاكها السلاح النووي، ووقف تهديداتها وتدخلاتها، والانضواء كدولة طبيعية في محصلة إقليمية غير معادية للسياسات الأميركية.

انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من السباق الرئاسي قد يكون عجّل ما يسمى أميركياً بفترة «البطة العرجاء». إلا أنه عملياً قد يكون الآن - في الأشهر المتبقية من عهده - أكثر تحلّلاً من الالتزامات التي كان مضطراً لمراعاتها لو بقي في السباق. فهو ما عاد مضطراً لتقديم خطاب «يوازن» بين انحيازه لإسرائيل وشجب «المأساة الإنسانية» التي يتعرض لها الفلسطينيون.

وهكذا، دفعت الولايات المتحدة الأسبوع الماضي بوضع أصول عسكرية إضافية، بحرية وجوية، بالقرب من إسرائيل للمساعدة في الدفاع ضد ما يعتقد أنه «هجوم وشيك» من قبل إيران رداً على قتل إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» في طهران، واغتيال فؤاد شكر القائد الكبير في «حزب الله» في ضواحي بيروت، الأسبوع الماضي. وبدلاً من تقديم مخارج ملائمة تحفظ لإيران «ماء الوجه» على الأقل، يقود وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيان، أنتوني بلينكن ولويد أوستن، جهوداً دبلوماسية وعسكرية لممارسة ضغوط مباشرة وغير مباشرة على إيران، والطلب من بعض العواصم الإقليمية والدولية، بما فيها روسيا، حضّها وحلفاءها على كبح أي ردّ.

تحليلات لبعض الصحف الأميركية رأت أن الاجتماع «الاستثنائي» الذي عقده وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في المملكة العربية السعودية، يوم الأربعاء، بطلب من إيران، لمناقشة «جرائم الاحتلال الإسرائيلي المستمرة ضد الشعب الفلسطيني واعتدائه على سيادة إيران»، بما في ذلك مقتل هنية، قد يهدف إلى تأمين مخرج يجعل من تراجع طهران عن توجيه ضربة كبيرة، تلبيةً لمناشدات الدول المجتمعة، بعدم توسيع الصراع وجرّ المنطقة إلى حرب لا يريدها أحد، بعد تحميل إسرائيل المسؤولية.

كذلك عدّت التحليلات زيارة سيرغي شويغو، أمين مجلس الأمن الروسي ووزير الدفاع السابق، المفاجئة لطهران، جزءاً من الجهود الدبلوماسية لمنع التصعيد، الذي قيل إنه نصح قادتها بذلك لأسباب قد تختلف عن تصوّرات واشنطن، لكنها تتقاطع معها في هذه اللحظة الحرجة.

حراجة موقف «محور المقاومة»وبينما يرى البعض أن عمليات الاغتيال والمخاوف من أعمال العنف الانتقامية التي يمكن أن تطلقها، يمكن أن تدفع بعض الدول إلى الابتعاد عن إسرائيل والتقرب من إيران، في سعيها إلى تهدئة التوترات التي تهدد أمنها، يرى آخرون أن تراجع الخطاب التعبوي الإيراني، وتدرجه من الرد بكل «قوة» إلى الرد بحسب ما «يسمح» به القانون الدولي، وكذلك تراجع حسن نصر الله، زعيم «حزب الله» اللبناني عن «حافة الحرب الشاملة»، أدلّة على حراجة موقف «محور المقاومة»، وخشيته من التكلفة العالية التي قد يدفعها.

وفي حين كرّر بلينكن التحذير من أنه «لا ينبغي لأحد تصعيد هذا الصراع»، وأشار إلى «انخراطه في دبلوماسية مكثفة مع الحلفاء والشركاء، وتوصيل هذه الرسالة مباشرة إلى إيران وإسرائيل»، أكد أوستن أن واشنطن ستقف إلى جانب إسرائيل في مواجهة أي هجوم.

في المقابل، في إشارة إلى استثمار واشنطن المستمر في الأمن الإسرائيلي، أجرى يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي، مع أوستن يوم الثلاثاء مكالمة هي الخامسة بينهما منذ الهجوم الصاروخي الذي وقع في 28 يوليو (تموز) على بلدة مجدل شمس المحتلة في الجولان. وأيضاً توجه الجنرال مايكل كوريلا، قائد القيادة الوسطى الأميركية (سينتكوم) إلى إسرائيل يوم الاثنين، لإجراء مباحثات مع القادة العسكريين، أشاد بها غالانت، كونها «ترجمة مباشرة للدعم الأميركي لإسرائيل إلى عمل».

في هذا الوقت، تحدثت تقارير عن وجود احتكاك متزايد بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بسبب «المفاجأة» و«الغضب» من اغتيال هنية، الذي عُدّ انتكاسة لسعي إدارة بايدن لتأمين وقف إطلاق النار في غزة، «لكونها تعتقد أنها تحقق تقدماً فيه»، وفق المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي. غير أن تعيين يحيى السنوار، خلفاً لهنية، قد يكون أعطى إسرائيل مبرّراً لمواصلة التمسك بأهدافها في غزة، ولبايدن المسوّغات لتحميل «حماس» المسؤولية عن فشل جهوده، بعدما وصفت إدارته السنوار بالإرهابي، وطالبته بالعمل على تطبيق الاتفاق.

نتنياهو يحتاج نصراً معنوياً

ثم، مع أن حرب غزة ربما انتهت بالمعنى العسكري، فإن حاجة نتنياهو إلى «نصر معنوي» عبر القضاء على السنوار - الذي يحمّله مسؤولية هجوم أكتوبر - قد يترجمه في الأيام والأسابيع المقبلة بارتكاب مزيد من المجازر، وتدمير ما تبقى من عمران في غزة، بما يكرس مفاعيل «النكبة» الثانية بحق الشعب الفلسطيني.

وفي حين لا يستبعد محللون أن يكون تعيين السنوار رداً إيرانياً على محاولات إنهاء إمساكها بـ«الورقة الفلسطينية» كجزء من «ردّها» المعنوي على «الإهانة» التي تعرّضت لها، يرى آخرون أن محاولاتها إطالة الصراع لأطول مدة ممكنة يهدف أيضاً إلى توظيفه في أي تطورات سياسية قد تحصل على المشهد الانتخابي في أميركا.

وبعكس ما يراه البعض بأن نتنياهو هو المشكلة الآن في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، فربما يكون هو الورقة الرابحة بالنسبة لواشنطن، لا إيران، في احتواء الحريق الإقليمي. ومع أن نتنياهو قد غيّر شروطه للتوصل إلى اتفاق محتمل، بعد أن طرح بايدن خطته للتوصل إلى اتفاق، وهو الذي قيل إنه اختلف مع كبار مسؤوليه الأمنيين بسبب إصراره على مواصلة الحرب والضغط على «حماس»، بدلاً من قبول وقف إطلاق النار واتفاق إطلاق سراح الرهائن، فقد بدا الآن بعد مقتل شكر وهنية، أنه قادر على قلب المشهد، ورفع سقف الضغوط والمواجهة، مهما كان شكل الرد الإيراني.

انتقادات لاذعة

على صعيد موازٍ، كانت بعض الانتقادات الأميركية لسلوك نتنياهو لافتة، منها أنه «وضع الولايات المتحدة في موقف مستحيل»، وفق فرانك لوينشتاين، الذي شغل منصب المبعوث الخاص للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية في عهد الرئيس باراك أوباما. إذ قال لوينشتاين: «إنه يثير رداً قد يجرنا إلى حرب، لكن لا أحد يشكك في ذلك علناً... لأننا بالطبع سنقف مع إسرائيل ضد إيران».

مع ذلك، أظهرت الاغتيالات والهجمات والضربات التي شنّتها إسرائيل على مدى الشهور الماضية، وقبلها لسنوات، داخل إيران وخارجها، مستهدفة قادة منها ومن ميليشياتها، أنها لم تؤدِ إلى حرب إقليمية، وهذا رغم عدم إبلاغ الولايات المتحدة عنها، وغضبها. وبينما أكد مسؤول إسرائيلي أن المكالمة الهاتفية التي أجريت بين بايدن ونتنياهو الأسبوع الماضي، بعد قتل هنية كانت «متوترة»، لا تتوافر دلائل، كما لم تصرح إدارة بايدن، بأنها جاهزة لممارسة ضغوط كبيرة على إسرائيل لمحاولة احتواء أفعالها، مثل إعادة النظر ببعض المساعدات العسكرية أو الحد منها. وبذلك، حرّر بايدن نائبته كمالا هاريس، مرشحة الحزب الديمقراطي، من تحمل أوزار سياساته أمام بعض ناخبي الحزب الغاضبين من دعمه لإسرائيل.

أضف إلى ما سبق، أن إيران ومحورها يمران راهناً في لحظة ضعف وارتباك سياسي وعسكري واستخباري غير مسبوقة بوجود حكومة جديدة تسعى لتقديم «أوراق اعتماد» جديدة مع الغرب. ثم إن إدارة بايدن لطالما اعتقدت أن طهران، التي تمر بمرحلة انتقالية سياسية وتكافح مع اقتصاد متعثر، تريد تجنب صراع واسع النطاق، ما قد يجعل من تغيير التوازن الإقليمي أمراً ممكناً.

تحدثت تقارير عن وجود احتكاك متزايد بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بسبب «المفاجأة» و«الغضب» من اغتيال هنية

تغيير قواعد اللعبة

في هذه الأثناء، يقول دينيس روس، المبعوث الأميركي الخاص السابق لعملية السلام، إنه طالما لم تؤدِ جولات التوتر السابقة بين إسرائيل وإيران إلى تصاعد الصراع وبقيت محتواة، فإن مغادرة بايدن منصبه تحرره للتركيز على إبرام صفقة تطبيع إسرائيلية إقليمية، يرجح أن تكون مشروطة بإنهاء الصراع والحرب في غزة، ومن شأنها أن تغير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط.

روس قال في مقالة في مجلة «فورين أفيرز» إن نتنياهو يحتاج إلى الأميركيين لأخذ زمام المبادرة، ويعلم أنه من دون التدخل الأميركي لن يتمكن من التوصل إلى اتفاق. فالهزيمة العسكرية لـ«حماس» لن تكون ذات أهمية كبيرة إذا ما تمكنت من إعادة تشكيل نفسها. كذلك يدرك نتنياهو أنه إذا كان يريد بديلاً لحكم «حماس» في غزة، فسيحتاج إلى الدول العربية الرئيسية، للعمل مع الولايات المتحدة والجهات الفاعلة الأخرى لإنشاء إدارة مؤقتة في غزة تتولى مسؤولية الحكم والأمن اليومي. ومع تفضيل الديمقراطيين والجمهوريين بشكل عام فكرة تحقيق اختراق كهذا، من غير المرجح أن يعارضها ترمب أو هاريس في حال فوز أي منهما في السباق الرئاسي. تحدثت تقارير عن وجود احتكاك متزايد بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بسبب «المفاجأة» و«الغضب» من اغتيال هنية

أحد لقاءات نتنياهو وبلينكن المتكررة (ا ف ب)

تخوّف في واشنطن من «7 أكتوبر» ثانٍ

> يرى مراقبون أن «الارتباك» الذي تعيشه إيران وأذرعها، خصوصاً «حزب الله»، شجّع على مواصلة سياسة التهويل والضغوط، بأن البدائل عن عدم تراجعهم عن التصعيد، قد تكون إقدام إسرائيل على تنفيذ هجوم استباقي.حول هذا يقول ماثيو ليفيت، كبير الباحثين بالشأن الإيراني في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» -القريب من تل أبيب- إن سلوك «حزب الله» يثير القلق أكثر من سلوك إيران، في ظل امتلاكه عدداً كبيراً من الصواريخ والمسافة القصيرة نسبياً، إذ يمكن أن يؤدي الهجوم من لبنان إلى إصابة أهداف عسكرية واستراتيجية في شمال البلاد وفي المركز.وفي ظل تخوف الإسرائيليين من شن «حزب الله» هجوماً شبيهاً بهجوم «حماس» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، يتصاعد خطر أن تبادر إسرائيل بشن هجوم برّي استباقي لإزالة هذا الاحتمال. ومع أن غالبية المسؤولين الإسرائيليين يدركون أن الحرب مع «حزب الله» اليوم لن تكون مثل أي حرب خاضتها إسرائيل على الإطلاق -ولذا يفضلون تأجيل المواجهة- لكن إذا لم يتمكن المدنيون الإسرائيليون من العودة إلى منازلهم قريباً، قد تأتي الحرب في وقت أقرب كثيراً مما يرغبون.من جهة ثانية، تركيز الجهود الدبلوماسية الأميركية على إقناع الحزب بسحب جميع قواته إلى مسافة 10 كيلومترات على الأقل من الحدود، تطبيقاً للقرار الدولي رقم 1701، الذي صدر بعد حرب 2006، يمكن أن يجعل الهجوم المفاجئ على غرار 7 أكتوبر أقل احتمالاً بكثير. وهذا ما تسعى إلى تحقيقه واشنطن، وقد نقله عديد من الوسطاء الغربيين والعرب إلى لبنان، خصوصاً أن إسرائيل أنجزت تدمير وإفراغ هذا الشريط الحدودي من سكانه.على الرغم من ذلك، يقول ليفيت إن العوامل التي منعت «حزب الله» من فتح جبهة ثانية كاملة لا تزال قائمة. وبرأيه «يعاني لبنان أزمة اقتصادية وسياسية مدمِّرة، ولا يريد معظم مواطنيه أن يجر (حزب الله) البلاد إلى ما قد تكون حرباً مدمِّرة للغاية. وفي حين أن إيران سعيدة بالقتال حتى آخر وكيل عربي، فإن قادتها لا يريدون أن تمتد الحرب إلى حدودهم».ومع ميل بعض التحليلات عن الاغتيالات التي وقعت الأسبوع الماضي، إلى تسليط الضوء على قدرات إسرائيل على شن هجمات عسكرية وتكنولوجية متطورة في «عمق أراضي العدو»، يرى مراقبون أنها لم تنجح في تبديد الإحراج الذي حدث في 7 أكتوبر. وربما ما تقوم به إسرائيل من دفع لحدود تصرفاتها الإقليمية، لا ينبع من شعورها بالقوة بل لأنها تشعر بالضعف. إذ تلك العمليات، في الأساس لا تضيف إلا القليل من الحسابات الاستراتيجية طويلة الأمد. والآن، مع استعداد إسرائيل لتحمل أخطار أكبر واستيعاب التكاليف الأعلى، فإنها تسعى للاستفادة من المزايا التكتيكية، في محاولة محمومة لاستعادة الردع، وادعاء أن الجيش الإسرائيلي عاد مجدداً «جيشاً لا يُقهَر!».