أفلاطون والعالم الآخر

أفلاطون
أفلاطون
TT

أفلاطون والعالم الآخر

أفلاطون
أفلاطون

إذا كان اليونانيون قد قتلوا سقراط لأنه قدم لهم رؤية مختلفة للعالم حولهم من خلال الحث على التعرف على الذات والطبيعة وعدم قبول أي شيء على اعتباره أمرا مطلقا، فإن سقراط قد لقن الإنسانية درسا هاما حول التضحية بالنفس عندما شرب السم انصياعا لأوامر المجتمع حتى ولو كان هذا المجتمع على ضلالة، وفي كل الأحوال فإن فكر سقراط ولد أفكارا جديدة ممثلة في تلميذه النجيب أفلاطون الذي ولد في أثينا في 428 قبل الميلاد، ومثل أستاذه فأفلاطون كان له أكبر الأثر في المسيرة الفكرية لدى البشرية من خلال منحها منحا جديدا حتى وإن اختلفنا أو اتفقنا معه، فقد أخرج الرجل اليونان والإنسانية من طريقها الفكري التقليدي إلى طريق جديد غير محسوس، ولكن منهج الوصول إليه كان العقل والروح بدرجة أقل، فكان هذا ما درسه الرجل في مدرسته الشهيرة في أثينا التي عرفت باسم الأكاديمية نسبة إلى البطل اليوناني «أكاديموس»، والتي كان يدرس فيها الفلسفة والرياضة. لقد خرج أفلاطون عن نطاق فكر أستاذه سقراط حيث بدأ فلسفته مشددا على أن حقيقة وجود عالم ملموس نتحسسه بحواسنا الخمس يعني بالضرورة وجود عالم غير ملموس أو محسوس وندركه بعقلنا وبدرجة أقل روحنا، ومن هنا بدأ التوجه الأفلاطوني الذي ما زلنا نستخدمه إلى اليوم كمثال لما يجب أن تكون عليه الأمور أو الأخلاق أو الأشياء، ففي هذا العالم الذي نطلق عليه مجازا لفظ «الأفلاطوني» أو المثالي، تكون الأمور في أقوى وأعظم مستوياتها وأشكالها، فهذا العالم هو الأساس، والعالم المادي الذي نعيش فيه هو انعكاس غير كامل للكمال في العالم الأعلى، عالم الخلود والإتقان، ويرى أفلاطون أن في عالم المثاليات المثال الكامل لكل شيء، فهناك مثال كامل للرجل والمرأة وكل حيوان، وفي الأرض هناك انعكاسات غير مكتملة لما يجب أن يكون عليه كل شيء. وفي إحدى أعظم الأعمال الرمزية في الكتابة على المستوى الفلسفي نجد هذا الفيلسوف العظيم يقدم لنا نموذجا فريدا تحت اسم «خرافة الكهف» «Allegory of the cave»، فيصور أفلاطون البشرية على أنها مجموعة من البشر المكبلين داخل الكهف ينظرون إلى حائط النهاية في ظلام يكاد يكون دامسا، وخلفهم يوجد حائط أعلى ومن خلفه نار موقدة تعكس خيالات على الحائط أمام مكبلي الكهف، وعند هذا الحد يستطيع أحدهم، ويقصد به مجازا أستاذه سقراط، أن يتخلص من قيوده ويتسلق الحائط فيرى أن الخيالات المظلمة التي كان يراها ما هي إلا انعكاسات للكائنات المختلفة التي بدت في أعظم وأبهى أشكالها بألوانها الطبيعية وهيئاتها العظيمة، فيرى هذا المتحرر العالم كما أراده الله أن يكون، وليس من خلال انعكاساته التي تعودنا أن نراه بها بسبب القيود المفروضة علينا بالأغلال والظلام من حولنا، ولكن أخطر ما في الأمر هو أن المتحرر عندما يعود إلى المكبلين ليشرح لهم حقيقة العالم من حولهم، فإنهم يرفضون الخروج عما تعودوا عليه وما وجدوا آباءهم عليه، وهنا تبرز حكمة أفلاطون الشهيرة التي يقول فيها «إننا نستطيع أن نغفر للطفل الذي يخشى الظلام، ولكن المأساة الحقيقية في الحياة هي عندما يخشى الرجال النور». هنا تبدو عظمة الرمزية، فبالنسبة لأفلاطون فإن الإنسانية مقيدة لا تستطيع أن ترى العالم الفوقي أو المدينة الفاضلة إلا من خلال الانعكاسات بسبب ظروفهم الحسية المحدودة والتزامهم بالأنماط التقليدية للتفكير دون فتح المجال لتفهم حقيقة الأمور، ويرى أفلاطون أن التقرب لهذا العالم يجب أن يكون من خلال العقل والروح اللذين يمثلان الوسيلة، خاصة الروح لأنها تعد جزءا من هذا العالم قبل هبوطها لتسكن الجسد، ومن ثم أهمية الروح لأنها غير قابلة للتحلل والفناء مثل الجسد. ولقد كان من الطبيعي أن ينبع فكره السياسي من هذا المنطلق، فلقد رأى أفلاطون أن الدولة تتكون من ثلاث طبقات أساسية، الحكام أو القائد، ثم المساعدين والعاملين وهي الطبقة التي تشمل كل العمال والفلاحين والتجار ... إلخ، كما رأى أن وسيلة الحكم يجب أن تكون على نفس المستوى، وبالتالي فلقد رأى أن أفضل وسيلة للحكم هي أن يكون الحاكم هو الفيلسوف فيما عرف بالفيلسوف الملك Philosopher King، وذلك لأن الفيلسوف هو في حقيقة الأمر أقدر الأشخاص على الوصول للحكمة والعلم المطلوبين لقيادة الدولة، ولكن الرجل أصر أيضا على أن يكون قائد الدولة والجنود من غير ذوي الأملاك حتى لا تشغلهم أمور الحياة عن واجبهم المقدس لقيادة المجتمع إلى ما هو أفضل لهم. إن كثيرا من التحليلات الحديثة تذهب إلى أن كتابات أفلاطون يمكن أن تمثل، ولو بشكل مستتر، أول توجه نحو الفكر الشيوعي البدائي، فهو كان مؤمنا بالدولة ككيان سياسي هام له مسؤولية كبرى في تربية الشباب وتنظيم الحياة بالنسبة للجميع فضلا عن رعاية المحتاجين، ولعل ما ساهم في هذا التوجه كان انتقاداته الحادة للديمقراطية اليونانية التي كانت مبنية على تواجد المواطنين في مراكز تجمع المدينة، وجملته الشهيرة التي تعكس ذلك هي أن «الديمقراطية نوع جذاب من الحكم مليء بالمتنوعات وعدم النظام، فضلا عن كونه يمثل مساواة لمن هم سواسية أو من لا يجب أن يتساووا من الأساس». وفي كل الأحوال فإن أفلاطون يعد شخصية تكاد تكون فريدة لأنه وضع فلسفته الأساسية على مبادئ ميتافيزيقية غير ملموسة، وبنى عليها كل آرائه بعيدا عن الفكر التقليدي، ففكرة العالم المثالي المتواجد خارج نطاق العالم الملموس تمثل قاعدة استند إليها الكثير لمحاولة تقديم رؤى خارج نطاق الفكر التقليدي، وهو أمر شاركه فيه الكثير، فكل إنسان فينا لديه ارتباط بعالم المثل حتى ولو كان من صناعته، ففي هذا العالم يجسد الإنسان ما يربو له ضميره والحكمة التي يفرضها عليه عقله، وفكر أفلاطون لا يختلف عن مفاهيم كثيرة ترى فيما وراء الطبيعية مصادر هامة للإنسانية تمدها بالأخلاق والمثل والطاقة، فليس بالعقل وحده يسعد الإنسان.



عضلات نتنياهو انتفخت... والنتيجة مخيفة

تشييع إسماعيل هنية في طهران قبل مراسم دفنه في قطر (الشرق الأوسط)
تشييع إسماعيل هنية في طهران قبل مراسم دفنه في قطر (الشرق الأوسط)
TT

عضلات نتنياهو انتفخت... والنتيجة مخيفة

تشييع إسماعيل هنية في طهران قبل مراسم دفنه في قطر (الشرق الأوسط)
تشييع إسماعيل هنية في طهران قبل مراسم دفنه في قطر (الشرق الأوسط)

كثيرون من شهود العيان، ينشرون تقارير تفيد بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، كان في حالة اكتئاب شديد وإحباط أشد، في صبيحة السبت 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عندما أبلغه مستشاره العسكري بتفاصيل هجوم «حماس» على 11 موقعاً عسكرياً و22 بلدة في غلاف غزة.

هذه الحالة رافقته لأيام طويلة عدة. لكن الطريقة التي اختارها جيشه للرد على «حماس»، بالهجوم العسكري الجنوني الذي دمّر غزة بكل ما فيها من عمار وحضارة، وقصد قتل روح أهلها كباراً وصغاراً، أعجبت نتنياهو وأخافته في آن. ويقال إنه لم ينتعش ويبدأ العودة إلى طبيعته، إلا عندما جاءه الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تل أبيب في زيارته التضامنية الشهيرة، بعد 11 يوماً من الهجوم. في حينه شوهد نتنياهو وهو لا يتمالك نفسه وحاشر رئيس الدولة يتسحاق هيرتسوغ لكي يسبقه على عناق بايدن. وقد انتقده الإسرائيليون على خرق «البروتوكول» الذي ينص على أن الرئيس (هيرتسوغ) يسبقه في استقبال الرئيس الضيف (بايدن). واعتبروا ذلك تصرفاً صبيانياً فحسب. لكن الأميركيين أدركوا أن الرجل منهار وقد اهترأت أعصابه وهو ينتظر وصول بايدن... وما إن رأته عيناه حتى ارتمى في حضنه كما يفعل طفل ضائع يلتقي والدته.

منذ تلك اللحظات مرت عشرة أشهر، والطفل المنهار صار «طاووساً» أرعن مستأسداً... لا يتردد في مهاجمة بايدن في عقر داره ويعود إلى إسرائيل كما لو أنه حقق الانتصار عليه. وحقاً عاد من واشنطن أكثر تشدداً في مواقفه من الحرب. يتكلم عن ضرورة استمرارها بلا خجل ولا تردد. ويعمل بشكل واضح على توسيعها. وصادق على اغتيالات مشكوك في جدواها العسكرية والاستراتيجية. وأتت هذه الاغتيالات، بالصدفة أو بالتخطيط المقصود، لتتوّج زيارته إلى الولايات المتحدة.

خطط لنقل رسالة

اليوم، يتضح أن الحوارات الدائرة بين تل أبيب وواشنطن، تدل على أن نتنياهو ليس فقط نسي المشهد الذي ارتمى فيه على أحضان بايدن، بل يتصرف كما لو أنه هو صاحب الحضن. وعندما التقى الرئيس بايدن، شاءت الأقدار أن يكون الأخير في عز اضطراره إلى التنازل عن الترشيح للرئاسة.

الأميركيون يسمّون وضع الرئيس في حالة كهذه «بطة عرجاء». ومع أن رئيس الوزراء الإسرائيلي امتدحه وشكره على دعمه، فإنه لم يتردد في انتقاده أيضاً على ضغوطه لوقف الحرب. وبالفعل، لليمين الإسرائيلي خطاب سياسي واضح مع الأميركيين، وقد حرص نتنياهو على أن يصل إلى كل أذن في الولايات المتحدة. ملخص الخطاب، أن ما تفعله إسرائيل في غزة أقل بكثير مما فعلته الولايات المتحدة في العراق أو أفغانستان أو فيتنام. وأحد كتاب اليمين المشهورين، أليكس غوردون، صاغ هذا الموقف قائلاً: «في 4 يونيو (حزيران) 2024، قال الرئيس بايدن في مقابلة مع مجلة (تايم) إن (الناس لديهم سبب للاعتقاد) بأن رئيس الوزراء نتنياهو يطيل الحرب في غزة لأسباب تتعلق بالبقاء السياسي». ولكن من يدري إلى متى يجب أن تستمر هذه الحملة؟ ففي نهاية المطاف، لا يوجد ذكاء اصطناعي أو ذكاء طبيعي يعرف على وجه اليقين الفترة الزمنية الدقيقة والأمثل للحروب، بما في ذلك الحرب ضد الإرهابيين في غزة. وبما أن الذكاء الفائق الذي يعرف كل شيء غير موجود، فإننا مضطرون إلى إجراء تقدير زمني لمدة الحرب ضد الإرهابيين من خلال مقارنتها بحروب أخرى مع إرهابيين آخرين. فقد بدأت الحرب مع إرهابيي تنظيم (داعش) في مدينة الموصل العراقية يوم 24 مارس (آذار) 2016 واستمرت حتى 9 يوليو (تموز) 2017. وفي هذه الحرب التي قادها الجيش العراقي شاركت القوات الجوية الأميركية والبريطانية وفرنسا وألمانيا وتركيا والإمارات العربية المتحدة إلى جانب العراقيين. وهزم هذا التحالف الإرهابيين وطردهم من الموصل. كان يعيش في الموصل نحو 1.5 مليون نسمة. وبلغت مساحة الموصل 180 كيلومتراً مربعاً. أما في غزة فيبلغ عدد السكان نحو 2.23 مليون نسمة. وتساوي مساحة غزة 362 كيلومتراً مربعاً، أي ضعف مساحة الموصل. من حيث حجم المنطقة وحجم السكان وحدهم، من المتوقع أن تكون الحرب في غزة أطول بـ1.5 - 2 مرة من الحملة في الموصل، أي ما بين سنة و11 شهراً وسنتين و6 أشهر».

واضاف غوردون: «لقد قاتل نحو 8000 من إرهابيي (داعش) في الموصل، وعدد إرهابيي (حماس) أكبر بثلاث أو حتى أربع مرات من إرهابيي (داعش). ومن الواضح أيضاً من هذه الأرقام أن الحملة في غزة من المتوقع أن تكون أطول بكثير من تلك التي حدثت في الموصل. لكن في الموصل، لم يكن لدى إرهابيي (داعش) أنفاق تحت الأرض يصل طولها إلى نحو 500 كيلومتر كما هو الحال في غزة. ولهذا السبب لم يكن لديهم إمكانية المناورة تحت الأرض، ونقل سريع للقوات وهناك عدد لا يحصى من الكمائن كما هو الحال في غزة. لذلك؛ لا مفر من أن يؤدي تأثير الأنفاق إلى إطالة أمد الحرب في غزة أكثر بكثير من مدّتها في الموصل. لكن هناك عاملاً آخر يطيل أمد الحرب؛ لأن الجيش الإسرائيلي يتعامل مع السكان المدنيين في غزة بشكل أبطأ وأكثر حذراً من الجيش العراقي وحلفائه في الموصل».

ومع أن نتنياهو لم يلتقِ مسؤولاً أميركياً واحداً يشجعه على سياسته، وحتى المرشح الجمهوري دونالد ترمب، حثّه على إنهاء الحرب، عاد إلى إسرائيل رافعاً حدة تهديداته وراح يصعّد اجراءاته الحربية.

تغيّر توجه الجيش

من جهة ثانية، بشكل مفاجئ، وجد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي عارضت سياسته، وقد غيّرت توجهها. ففي يوم هبوط طائرة نتنياهو بمطار تل أبيب، تعرّضت ثلاث قواعد عسكرية إسرائيلية لهجوم من نحو ألفي شخص من ميليشيات اليمين المتطرف يحتجون على قيام الشرطة العسكرية التابعة للجيش باعتقال تسعة جنود للتحقيق معهم في شكاوى أسرى فلسطينيين تعرّضوا للتعذيب والتنكيل والاغتصاب الوحشي. ولقد اعتدى هؤلاء على الجنود وراحوا يطالبون بإقالة رئيس أركان الجيش هرتسي هليفي. ورافقهم في الهجوم عدد من الوزراء والنواب أعضاء أحزاب اليمين الحاكم، الليكود بقيادة نتنياهو والصهيونية الدينية بقيادة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير.

هذه أول مرة في تاريخ إسرائيل يحصل فيها هجوم على الجيش من مواطنين. لكنه تطور حتمي. فهو حصيلة تحريض شرس من اليمين على قيادة الجيش، مستمر منذ أكثر من عشر سنوات، بعدما اختلفت هذه القيادة مع نتنياهو ومنعته من إطلاق خطة للهجوم على إيران، واتهمته بالتخلي عن عقيدة القتال والاشتباك والإقدام.

ولكي نأخذ فكرة عن مضمون هذا الهجوم نقتبس ما قاله سموتريتش في مؤتمر حزب «تكوما» (البعث)، في أول الشهر الفائت: «نحن نحتاج إلى قيادة عسكرية مع حمض نووي (DNA) مختلف، لا يخاف من صنع النصر». وسموتريتش، الذي لم يخدم في الجيش، ومع ذلك وضعه نتنياهو وزيراً ثانياً في وزارة الدفاع، هاجم عدداً من الجنرالات، مثل عاموس يدلين وتمير هايمان، الرئيسين الأسبقين لشعبة الاستخبارات العسكرية، والمحرر العسكري لصحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، «الذين بدلاً من أن يدفنوا أنفسهم في البيت خجلاً وحياءً بسبب مفاهيمهم التي أوصلت الجيش إلى حالة الترهل، يواصلون حرث استديوهات التلفزيونات للتحليل والتعليق وتقديم النصائح المخزية التي تشجع على وقف الحرب وتقبل الهزيمة».

ما يُذكر، يعيش الجيش ومعه بقية أجهزة الأمن في إسرائيل كارثة معنوية منذ 7 أكتوبر الماضي؛ بسبب الإخفاق في منع هجوم «حماس». ولقد حاول الجيش التغلب على الكارثة بحرب جنونية دمر فيها قطاع غزة بشكل شبه كامل... اتضح أنها ليست موجهة ضد «حماس»، بل ضد الشعب الفلسطيني كله. إذ قتل نحو 40 ألفاً، ثلثاهم من النساء والأطفال والمسنين والعجزة، ودمّر كل الجامعات والمستشفيات ومعظم المدارس والجوامع والكنائس. وقَتَل علماء وصحافيين وأطباء ومعلمين وباحثين ومخترعين وفقهاء ورجال دين ومسعفين وطواقم إغاثة. لكن هذا كله لم يحقق أياً من أهداف الحرب. وبقيت الصورة الختامية أن هذا الجيش بعظمة قوته (ثلاثة أرباع المليون جندي ومئات الطائرات الحديثة والصواريخ الجبارة وآلاف الأطنان من المتفجرات) وبضخامة وحداثة أسلحته ودعم الولايات المتحدة وحكومات الغرب له، يدير حرباً تستغرق 10 أشهر ضد تنظيم مسلح محدود القوة (30 - 40 ألف عنصر) وفقير الأسلحة، ولم يستطع حسمها.

التصعيد ... لاستعادة هيبة مهدورة

هذه المشكلة أضعفت الجيش وأثارت تساؤلات كثيرة لدى الحلفاء والأصدقاء، الذين كانوا يأتون لتعلم دروس الحرب منه. وفي الوقت عينه، أثارت أسئلة كثيرة لدى الجمهور الإسرائيلي. وكلما عاد الجنود من الجبهة، ازدادت الأسئلة وأصبحت استنكارية أكثر. وبسبب الصراعات الداخلية داخل المجتمع الإسرائيلي، ومحاولات حكومة اليمين درء الاتهامات عنها بالمسؤولية عن الإخفاق، زاد اليمين على الوقود زيتاً فراح يحرّض على قيادة الجيش ويتهمها بالفشل وبالجبن. وفعلاً دلّت الاستطلاعات على أن ثقة الجمهور الاسرائيلي بالأجهزة الأمنية انخفضت بشكل حاد من 90 في المائة إلى 70 و60 في المائة. وصار رئيس أركان الجيش وجنرالاته يتعرضون لإهانات حتى في جلسات الحكومة، من وزراء كثيرين وليس فقط بن غفير وسموتريتش. وكان نتنياهو يسمع ويسكت. ومن هنا تفاقم الاستخفاف بالجيش لدرجة أن المستوطنين اعتدوا على جنوده في الضفة الغربية، ونشطاء اليمين هاجموا القواعد العسكرية.

لذا؛ قررت الأجهزة الأمنية استعادة هيبتها المهدورة أياً كان الثمن. فانتهزت فرصة التراخي الأمني في الضاحية وفي طهران، ووجهت ضربتيها، باغتيال رئيس حركة «حماس»، إسماعيل هنية في قلب مجمع «الحرس الثوري» الإيراني، واغتيال قائد أركان «حزب الله» فؤاد شكر. وخرج نتنياهو يعلن بتفاخر مخضّب بسكرة نصر: «لقد أغلقنا حسابات مع (القائد العسكري بـ«حزب الله»، فؤاد شكر) محسن، وسنغلق الحسابات مع أي شخص يسيء إلى بلادنا». وأردف: «منذ هجوم بيروت، سمعت التهديدات من جميع الجهات. نحن مستعدّون لأي سيناريو، وسنقف مركّزين، ومصمّمين ضدّ أي تهديد، وستجبي إسرائيل ثمناً باهظاً، إزاء أي عدوان علينا من أي ساحة. قلت بالفعل في الأيام الأولى للحرب إن الأمر سيستغرق وقتاً ويتطلّب الصبر منّا جميعاً، وسأكرّر ذلك اليوم أيضاً».

وبعدما ألقى هذا الحجر في البئر، واستعرض العضلات المنفوخة على أقصى حد، دخلت المنطقة برمتها في توتر خطير، وتصعيد مخيف، باتجاه توسيع الحرب نحو مدى يصعب تقديره.