لطالما شهدت واشنطن صعود شخصيات سياسية تمكنت خلال فترة وجيزة من فرض نفسها داخل الدائرة الضيقة لصنع القرار في الإدارات الأميركية. من بين هؤلاء، ستيفن ميلر، الذي بات يعد واحداً من أكثر الشخصيات السياسية إثارة للجدل في الولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين. فقد تدرج من مساعد رئاسي سابق ومساعد حالي في إدارة دونالد ترمب، إلى مهندس سياسات هجرة صارمة ومتطرف في الخطاب الداخلي، وعرّاب رؤية «أميركا أولاً» التي بلورت جزءاً كبيراً من هوية جناح «ماغا» (لنجعل أميركا عظيمة) داخل الحزب الجمهوري. بيد أنه، منذ عودة ترمب إلى السلطة في 2025، لم تعد أهمية ميلر محصورة في رسم السياسات فقط، بل امتدت إلى بناء هياكل تنفيذية وإدارية تؤسس لبرامج سياسية تُنفّذ سريعاً وتُحدث تأثيراً ملموساً.
حين صعد دونالد ترمب في انتخابات 2016، كان ستيفن ميلر من أوائل الذين انضموا إلى حملته. وسرعان ما أصبح كاتب خطاباته الأبرز، والمستشار الذي يضبط اللغة لتكون أكثر حدة ووضوحاً.
في خطاب ترمب الأول عن «أميركا أولاً»، كانت بصمات ميلر واضحة في صياغة تعابير تصوّر الهجرة بوصفها تهديداً ثقافياً وأمنياً، وليست مجرد مسألة اقتصادية أو إنسانية. ومع دخول ترمب البيت الأبيض، تحوّل ميلر من مجرد كاتب خطابات إلى مهندس سياسات، وغدا من أبرز العقول التي صاغت قرار حظر السفر على مواطني عدد من الدول ذات الغالبية المسلمة، وواحداً من العقول التي صاغت سياسة فصل الأطفال عن ذويهم على الحدود، إضافة إلى سياسات أكثر صرامة في ضبط اللجوء والهجرة.
من سانتا مونيكا إلى البيت الأبيض
وُلد ستيفن ميلر يوم 23 أغسطس (آب) عام 1985 في مدينة سانتا مونيكا بولاية كاليفورنيا، في قلب بيئة اجتماعية ميسورة، وهو ما وفّر له منذ الصغر أجواء مختلفة عن تلك التي يتحدر منها كثير من المحافظين الذين يرفعون شعارات الشعبوية لاحقاً. أما عائلته فهي يهودية من أصول شرقية أوروبية؛ إذ إن جده وجدته من جهة والدته هاجرا من بيلاروسيا هرباً من موجات الاضطهاد ضد اليهود في الإمبراطورية الروسية مطلع القرن العشرين. أما والده مايكل فمحامٍ ورجل أعمال عقاري تخرج في جامعة ستانفورد المرموقة، بينما انخرطت والدته ميريام غلوسر في أعمال اجتماعية قبل أن تلتحق أيضاً بأعمال العائلة العقارية. هذه الخلفية العائلية التي تجمع بين الاندماج في الطبقة الوسطى العليا والذاكرة العائلية المرتبطة بالمنفى والتهجير جعلتا من ستيفن شخصية مركّبة. فهو ينتمي إلى بيئة تُعلي من شأن الثراء الفردي، لكنه في الوقت نفسه يحمل إرثاً عائلياً يتحدث عن الهوية والاضطهاد والانتماء.
في سنوات المراهقة الأولى بمدرسة سانتا مونيكا الثانوية، بدأ ميلر يعبّر علناً عن مواقف سياسية محافظة مثيرة للجدل وسط محيط يغلب عليه الطابع الليبرالي؛ إذ كتب في صحيفة المدرسة مقالات يهاجم فيها ما يسميه «التعددية المفرطة» و«الانصياع للسياسة الصحيحة»، وكان من أوائل من يعترضون على استخدام اللغة الإسبانية في الإعلانات المدرسية، بل طالب بإعادة ترديد قسم الولاء الأميركي بشكل يومي. وبحسب زملاء له، كان شديد الجرأة في مواجهة أساتذته وزملائه، وغالباً ما دخل في نقاشات حادة لا تهدف إلى المسايرة بقدر ما تؤكد انحيازه إلى «هوية أميركية صارمة» لا تحتمل المساومات.
أيضاً يشير مقربون منه إلى أن قراءته المبكرة لكتاب «البنادق والجريمة والحرية» لوين لابيير، رئيس الجمعية الوطنية للبنادق، شكّلت نقطة تحوّل رسخت لديه إيماناً عميقاً بحق حمل السلاح الفردي، وبما اعتبره حرية شخصية مهددة دوماً من نخبة ليبرالية متغطرسة.
دراسة جامعية في الجنوب المحافظ
انتقل ميلر لمتابعة دراسته الجامعية إلى جامعة ديوك العريقة بولاية نورث كارولينا - إحدى كبريات ولايات الجنوب المحافظ - وتخرج فيها عام 2007 بدرجة البكالوريوس في العلوم السياسية. وهناك رسّخ مكانته بوصفه صوتاً محافظاً راديكالياً، وقاد اتحاد الطلاب المحافظين وشارك في تنظيم مناظرات حول قضايا الحرية الأكاديمية والتعددية الثقافية، كما كتب في صحيفة الجامعة مقالات مثيرة للجدل كان يهاجم فيها التوسّع في سياسات الهوية. وخلال سنوات الدراسة الجامعية كوّن علاقات مع شخصيات محافظة بارزة، وأصبح معروفاً في الأوساط الجمهورية الشابة بأنه صوت قادر على صياغة خطاب حاد وواضح في مواجهة ما يعدّه «أوهام الليبرالية».
ومن ثم، بعد تخرجه، عمل ميلر مع بعض أعضاء الكونغرس الجمهوريين، قبل أن يصبح مدير الاتصالات للسيناتور الجمهوري جيف سيشنز من ولاية ألاباما، ما مثّل له منصة سياسية حقيقية. وعبر عمله مع سيشنز شارك في معارك تشريعية ضد محاولات تمرير قوانين إصلاح شامل للهجرة، وأتقن أسلوب صياغة خطاب يدمج بين البعد القومي والآليات القانونية والإدارية.
هذه التجربة مع سيشنز كانت حاسمة؛ إذ عرّفته على المعركة السياسية الكبرى التي ستحدد مساره المحافظ لاحقاً... بالذات إزاء قضية الهجرة والهوية القومية.
«عقل» ترمب التنفيذي
على هذه الخلفية، تحوّل ستيفن ميلر إلى ما يشبه «رجل الظل» في البيت الأبيض. فبالنسبة لمؤيدي ترمب، أصبح هو الشخص القادر على ترجمة وعود الرئيس إلى سياسات ملموسة، في حين نظر إليه خصومه بوصفه الوجه الأوضح لـ«قومية بيضاء مقنّعة» تستغل الدولة لتنفيذ أجندة آيديولوجية.
الاتهامات التي وُجهت له من قبل منظمات حقوق الإنسان وصحف أميركية كبرى ركّزت على دوره في سياسات عُدّت «قاسية» و«لا إنسانية»، لكن ذلك لم يزده إلا حضوراً لدى أنصار ترمب الذين رأوا فيه مثالاً للمستشار الذي لا يساوم ولا يتراجع أمام الضغط.
بعدها، في ولاية ترمب الثانية، وإثر توليه مناصب تنفيذية عليا، بينها «مساعد الرئيس لشؤون السياسات» و«مستشار الأمن الداخلي»، صار يُنظر إلى ميلر من قبل مؤيديه على أنه الشخص القادر على تفعيل برنامج «ماغا» بسرعة، من دون الاكتفاء بالوعود الانتخابية. وهو حقاً يُعدّ الآن على نطاق واسع واحداً من أكثر الشخصيات نفوذاً في الإدارة الجديدة، حتى وُصف في بعض التقارير بأنه «أقوى موظف غير منتخب في واشنطن».
للعلم، ميلر لا يكتفي بتقديم المشورة، بل يشرف أيضاً على فرق عمل تنفيذية داخل وزارة الأمن الداخلي والبيت الأبيض، ويعيد تشكيل البيروقراطية بحيث تعمل على نحو يترجم رؤيته السياسية بسرعة وفاعلية. وهو في رأي مؤيديه القيادي الذي يملأ الآن الفراغ الذي تركه الجمهوريون «التقليديون» الذين اكتفوا بالخطاب من دون قدرة على التنفيذ. أما معارضوه فيرون أنه يركّز سلطات غير مسبوقة في يد دائرة ضيقة من الموالين للرئيس، ما قد يقوّض الضوابط الدستورية ويضعف استقلالية مؤسسات الدولة.
والواقع أن لغة ميلر وخطابه السياسي يقومان على الجمع بين شحنة عاطفية تقوم على التخويف والتحذير من ضياع الهوية الأميركية، وتقديم مبررات قانونية وإدارية تجعل هذه السياسات تبدو وكأنها استحقاقات إجرائية طبيعية.
وهو حين يقول إن «أميركا للمواطنين فقط»، فهو يضع قاعدة عاطفية تتجاوب معها القاعدة الشعبية، لكنه في الوقت ذاته يدفع فرق عمل لإعادة صياغة القوانين بحيث تعطي الأولوية للمواطنين على نحو صارم في الإسكان والوظائف والمساعدات.
هذه القدرة على الجمع بين الخطاب العاطفي والتقنية البيروقراطية هي ما يجعل تأثيره ممتداً، وما يثير قلق خصومه الذين يعتبرون أن الأمر لم يعد مجرد خطاب شعبوي بل تحول إلى مؤسسات وسياسات.
انقسام حول دوره وتأثيره
على أي حال، فالتأييد لميلر داخل حركة «ماغا» واسع، ويُنظر إليه بوصفه أحد أخلص من جسّد وعود ترمب، وأكثرهم قدرة على فرضها على أرض الواقع. وعند القاعدة المحافظة، هو مَن صاغ رؤية أن الدولة يجب أن تخدم أولاً مصالح المواطن الأميركي الأصلي، وأن الهجرة غير النظامية تهديد اقتصادي وأمني. كذلك، تشيد بعض الأصوات المحافظة به لأنه لا يكتفي بالكلام، بل يقدّم نتائج، في حين يقول خصومه إن هذه النتائج تأتي على حساب القيم الإنسانية والقانونية التي أسست عليها الولايات المتحدة.
اليوم معارضو ميلر لا يقتصرون على الديمقراطيين والمنظمات الحقوقية. فحتى داخل الحزب الجمهوري، هناك من يرى أن تشدد ميلر قد يكلّف الحزب خسارة أصوات المعتدلين والمستقلين، خصوصاً في الولايات المتأرجحة. في المقابل، يرى جناح «ماغا» المتطرف أن هذه المخاطرة ضرورية؛ لأن القاعدة الشعبية المحافظة تحتاج إلى سياسات واضحة وحادة تحميها مما تعدّه «غزواً ثقافياً» يغيّر هوية البلاد. وبين هذا وذاك، يبدو الحزب الجمهوري مقبلاً على اختبار هويته: هل يظل حزباً محافظاً تقليدياً يجمع بين اليمين المعتدل واليمين المتشدد، أم يتحول إلى حزب «ماغا» بامتياز يقوده خطاب الهوية والصرامة التنفيذية؟
النقاش الدائر حول ميلر يعكس هذا الاختبار بدقة. فمن جهة، نراه يمثل التيار الذي يرى في مركزية السلطة التنفيذية وسيلة لتجاوز الشلل السياسي في الكونغرس. ومن جهة أخرى، يراه خصومه تهديداً لفصل السلطات ومقدمة لانزلاق النظام الأميركي نحو سلطوية تنفيذية تضعف الضوابط القضائية والتشريعية.
«ماغا»... ومستقبل الحزب الجمهوري
في هذا السياق، يصبح مستقبل الحزب الجمهوري مرهوناً بما إذا كان سيواصل السير وراء رؤية ميلر وترمب، أم سيحاول التوفيق بين هذا التيار الشعبوي المتشدد وأجنحة أخرى أكثر اعتدالاً. وإذا كان الماضي القريب يشير إلى أن لغة ميلر تجذب قاعدة مؤثرة وفاعلة في الحزب، فإن المستقبل يطرح أسئلة أصعب: هل ستستطيع هذه اللغة أن توسّع القاعدة الجمهورية بما يكفي للفوز في الانتخابات المقبلة، أم أنها ستعزل الحزب داخل شرنقة آيديولوجية ضيقة؟في كل الأحوال، ستيفن ميلر لم يعد مجرد مستشار سياسي يكتب خطابات رنانة، بل بات رمزاً لصراع أكبر حول معنى الهوية الأميركية ومستقبل الحكم في البلاد. وإذا كان الحزب الجمهوري سيبقى متمسكاً بمبادئه التقليدية في الاقتصاد والسياسة الخارجية، أو سيعيد تعريف نفسه وفق رؤية «ماغا»، فإن ميلر هو بلا شك من بين أبرز من يرسمون ملامح هذا التحول. نجاحه في تحويل خطاب الهوية إلى سياسات ملموسة يعني أن «ماغا» قد تصبح هوية الحزب على المدى البعيد. لكن إذا تعثرت سياساته في المحاكم، أو أثارت رد فعل اجتماعي واقتصادي عكسي، فقد يضطر الحزب لمراجعة خياراته والبحث عن هوية جديدة أو العودة إلى توازنات الماضي.


