يوم قرّر رئيس مجلس القضاء الأعلى في لبنان القاضي سهيل عبود، تكليف رئيس محكمة التمييز الجزائية القاضي جمال الحجّار، مهام النائب العام التمييزي، لم يكن خياره مجرّد رغبة في ملء فراغٍ بموقع قضائي حسّاس، بل نتيجة عوامل متعددة ومهمّة اجتمعت برجلٍ واحد، وقدّمته على غيره من القضاة السنّة المؤهلين لهذا الموقع. صحيح أن الحجّار أعلى قاضٍ سنّي في الجمهورية اللبنانية، إلّا أن ذلك لم يكن في يوم من الأيام شرطاً مسبقاً لمن يتبوّأ هذا المنصب، فعلاوة عن أنه الأعلى درجة والأكثر مناقبية وكفاءة، يكاد يكون القاضي الوحيد الذي يشغل أربعة مراكز عليا وحسّاسة في الوقت نفسه. الأول: رئيس محكمة التمييز الجزائية. الثاني: عضو في هيئة المجلس العدلي (أعلى محكمة في لبنان)، الثالث: عضو في الهيئة العامة لمحكمة التمييز ورئيس المجلس التأديبي للقضاة. والرابع: أنه القاضي الأكثر تحرراً من التبعية السياسية ولم يزكِّه زعيم سياسي أو مرجع ديني أو جهة حزبية، بل وصل شغل هذه المناصب بعصاميته وتفانيه في خدمة العدالة ورسالتها.
مكانة النائب العام التمييزي في لبنان تغري أي قاضٍ مسلم سنّي؛ بالنظر لأهميته في الهرمية القضائية. وفي الوقت نفسه يُعدّ المنصب موقعاً متقدماً في الدولة وصاحب صلاحية واسعة كرئيس للنيابات العامة والضابطة العدلية، يسهر على عملهما وتوجيههما، ويتمتّع بصلاحيات واسعة في قرارات التوقيف وتصويب أداء المدّعين العامين وقضاة التحقيق والهيئات الاتهامية والأجهزة الأمنية عندما تقتضي الحاجة. لكنّ القاصي والداني يعترفان بأن القاضي جمال الحجّار تلقّف ما يشبه «كرة نار» بالنظر إلى دقّة الملفات التي ينظر فيها خلال أخطر مرحلة من تاريخ لبنان، على رأسها ملفّ انفجار مرفأ بيروت. إذ إن الرجل ورث صراعاً محتدماً وغير مسبوق بين القاضي طارق البيطار، المحقّق العدلي في هذا الملفّ، وبين النيابة العامة التمييزية برئاسة سَلفه ونَسيبه وابن بلدته القاضي غسان عويدات، الذي أحيل على التقاعد بعد سنوات صعبة أمضاها الأخير على رأس النيابة العامة.
مسيرة علميّة حافلة
قبل الغوص في مسيرة جمال الحجّار ونجاحاته، التي مكَّنته من شقّ طريقه لينال أرفع منصب قضائي بعد رئيس مجلس القضاء الأعلى، لا بدّ من الإضاءة على جانب من سيرته الذاتية وشخصيته الفريدة. فهو بدأ مسيرته شاباً ريفياً، ثمّ طالباً جامعياً لا يشبع من العلم، وتحوّل طبيب أسنان، وانتهى رجل قانون تشهد المحاكم على صولاته وجولاته.
وُلد جمال الحجار عام 1958 في بلدة شحيم، بمنطقة إقليم الخروب في قضاء الشوف بجبل لبنان. ونشأ في عائلة متوسطة؛ إذ كان والده موظفاً في الجمارك، ولديه أربعة أشقاء أحدهم طبيب والباقون مهندسون.
فئة قليلة حتى من الأصدقاء على دراية بأن الرجل الذي يشغل أرفع منصب قضائي في البلاد التحق بسلك القضاء متأخراً. ذلك أن تحصيله الجامعي بدأ من كليّة طب الأسنان في جامعة القديس يوسف (اليسوعية) في بيروت. وحقاً، مارس المهنة بنجاح لعشر سنوات، وللمفارقة لا تزال عيادته موجودة في منطقة كورنيش المزرعة حتى الآن، معلّقة على بابها اللوحة التي تحمل اسمه كطبيب أسنان مع مواعيد استقبال المرضى.
غير أن مسيرة الحجّار الطبية، رغم نجاحها، لم تلغِ شغفه لدراسة القانون ولم تقتل حلمه بدخول السلك القضائي. وهكذا، التحق بكلية الحقوق في الجامعة اللبنانية وثابر على دراسة القانون إلى جانب عمله طبيب أسنان إلى أن تخرج عام 1987 مع إجازة الحقوق بامتياز. وبعدها بأربع سنوات فاز في مباراة الدخول إلى معهد الدروس القضائية يوم 27 أغسطس (آب) 1991، وتخرّج قاضياً أصيلاً في 6 أكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام، لتبدأ حياته القضائية المستمرّة منذ 32 سنة.
سوسة الفساد
طموح الحجّار إلى أداء رسالته القضائية، لا يتوقّف عند قاعدة نصرة المظلوم والاقتصاص من الظالم فحسب. بل إنه كان دائماً يحرص على اجتثاث «سوسة» الفساد التي تنخر عظام الدولة بوزاراتها ومؤسساتها وإداراتها كافة، تماماً كحرص الطبيب على اجتثاث «السوسة» التي تنخر الأسنان وتؤدي إلى تآكلها وتساقطها. ولقد طبّق هذه القاعدة بكل تجرّد ومن دون إحراج، مستنداً بذلك إلى استقلالية قراره، وتحرّره من الضغوط السياسية وابتعاده عن الزعامات السياسية؛ ما منحه سمعة طيبة داخل السلك القضائي وخارجه.
وكما كلّ القضاة تقلّب جمال الحجّار في مراكز عدّة، بدءاً من قاضٍ منفرد في منطقة الدامور، إلى مستشار في محكمة الاستئناف في بعبدا، مروراً برئيس محكمة الاستئناف في الشمال وغيرها. لكنّ يسجّل له أنه كان الأسرع في الصعود نحو المناصب العليا، التي أوصلته إليها سمعته ومناقبيته واستقلاليته.
بين الليونة والثبات
بقدر موازاة الحجّار بين الليونة في التعاطي مع المتقاضين الذين لا عون قضائياً لهم، ولا قدرة على توكيل المحامين، وثباته عند إصدار الأحكام بما يرضي ضميره ومقتضيات القانون، تميّز بجرأته على اتخاذ قرارات تأديبية للحفاظ على هيبة القضاء. ويشهد على هذا إصداره قراره التاريخي الأشهر الذي أحدث ضجّة في الأوساط السياسية والقضائية، وتمثّل بصرف القاضية غادة عون إثر تجاوزاتها في العمل، وتمرّدها على قرارات مجلس القضاء الأعلى ورئيسها المباشر النائب العام التمييزي. وكانت قد دأبت على إطلاق تصريحات ومواقف عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، معظمها حمل هجوماً كاسحاً على مرجعية مجلس القضاء الأعلى وعدد من زملائها القضاة. ومثل هذا القرار لا يقتصر على غادة عون وحدها، بل انسحب على قضاة آخرين أُحيلوا على المجلس التأديبي بقرار من هيئة التفتيش القضائي.
قاضية العهد
أهمية قرار الصرف قد يكون عادياً عندما يشمل قضاةً عاديين، «لا ظهر سياسياً» يحميهم ويحصّنهم من المساءلة، لكن أن يطال التأديب القاضية غادة عون، التي اصطلح على تسميتها «قاضية العهد» (عهد رئيس الجمهورية ميشال عون) في ذروة سطوة الرئيس السابق ميشال عون ووجوده على رأس السلطة، فيُعدّ جرأة غير مسبوقة.
الحجار كان يدرك أهمية موقع غادة عون عند رئيس الجمهورية السابق الذي لم يتردد في تعطيل التشكيلات القضائية، لمجرّد أن مجلس القضاء نقلها من منصبها من رأس النيابة العامة في جبل لبنان إلى موقع آخر. والأهم أن الحجّار، بعد تكليفه مهام النائب العام التمييزي أصدر قراراً بكفّ يد هذه القاضية عن الملفات المالية، بعدما اتضح لديه أنها كانت تحرّك هذه الملفات حيناً وتجمّدها حيناً آخر بخلفية سياسية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت القاضية عون قد حرّكت عشرات الدعاوى ضدّ مصرف لبنان والمصارف التجارية الكبرى، وحجزت على ممتلكات هذه المصارف وأصحابها ومديريها، لمجرّد أن محامين مقربين منها رفعوا دعاوى ضدّهم، وأصدرت مذكرات إحضار وبلاغات بحثّ وتحرٍّ عنهم، في حين أهملت دعاوى طالت مؤسسة «القرض الحسن»، التابعة لـ«حزب الله»، ولم تفتح بشأنها أي تحقيق أو تحرّك أي ملاحقة.
قرارات جريئة
قد يختلف بعض رجال القانون في مقاربة أداء الحجّار على رأس النيابة العامة التمييزية، وكلّ منهم ينظر إليه وفق مصلحته. فمنهم، مثلاً، مَن يرى أنه كان الوحيد الذي تجرأ على المس بـ«محرّمات» ما كان مسموحاً في السابق الاقتراب منها. وفي المقابل، البعض الآخر يعتبر أنه ارتكب أخطاء أسلافه.
في أي حال، لا يخفي مصدر قضائي أن «ما حقّقه الحجّار خلال سنة ونصف السنة على رأس النيابة العامة لم ينجزه أسلافه على مدى عقود». ويؤكد المصدر لـ«الشرق الأوسط»، أن الحجّار «أجرى بنفسه تحقيقات مكثفة في ملفات بالغة الدقة والحساسية، أفضت إلى توقيف أشخاص نافذين»، مذكراً بـ«قرار توقيف (حاكم مصرف لبنان السابق) رياض سلامة، وأحد أبرز المصرفيين (رئيس مجلس إدارة بنك الاعتماد المصرفي طارق خليفه) ومساعده، ومن ثمّ فتح ملفات الفساد في وزارات وإدارات». ويشير المصدر أيضاً إلى أن المدعي العام التمييزي «لم يتردّد باتخاذ قرار بتوقيف وزير الاقتصاد السابق أمين سلام في قضية اختلاسات حصلت في وزارته رغم تدخلات سياسية لثنيه عن ذلك، وجرأته في الادعاء على وزير الصناعة السابق النائب الحالي جورج بوشكيان بجرائم الرشوة والإثراء غير المشروع واختلاس أموال عامة وتبييض الأموال»، بعدما طلب من المجلس النيابي رفع الحصانة النيابية عنه، وكان له ما أراد.
ترغيب وترهيب
ولكن، في تقييم للمآخذ على هذا الأداء، يرى مصدر حقوقي أن جمال الحجّار «لم يبل بلاء حسناً في بعض الملفات، سواءً خلال رئاسته محكمة التمييز أو على رأس النيابة العامة». ويوضح لـ«الشرق الأوسط»، أنه كان «أوّل من وجّه ضربة للتحقيق في انفجار مرفأ بيروت في بداياته، عندما قرّر تنحية المحقق العدلي السابق القاضي فادي صوّان». وذكّر بأنه «بعد تكليفه مهام النائب العام التمييزي مارس مع القاضي طارق البيطار سياسة الترغيب والترهيب لغاية واحدة، هي إخراج السياسيين والقضاة المُدَّعى عليهم من ملفّ المرفأ، وإبقاء الملاحقة على موظفين عاديين وعمّال في المرفأ».
وفي تصويب للرأي الحقوقي، يجزم المصدر القضائي بأن النائب العام التمييزي «لم يمارس أي شكل من أشكال الضغط على البيطار في ملفّ المرفأ، بل قدّم له نصيحة تفضي إلى إخراج السياسيين من الملفّ كي لا يصبح القرار الاتهامي الذي سيصدره المحقق العدلي عرضة للإبطال أمام المجلس العدلي». وشدد على أن الحجّار «التزم منذ اليوم الأول لتسلّمه مهامه كمدعٍ عام أن يطلق التحقيق بملفّ المرفأ، وهذا ما حصل، عبر إطلاق ورشة التعاون ما بين النيابة العامة التمييزية والمحقّق العدلي بعد انقطاع دام لسنتين تقريباً، مع أن ذلك استدعى حملة طالت الحجّار حتى من مقربين دائرته في النيابة التمييزية».


