تونس بين اضطرابات ليبيا وأزمات الجزائر

وسط مؤشرات على استفحال مشاكل الاقتصاد و«المهاجرين الأفارقة»

من تظاهرات ليبيا الأخيرة (روينرز)
من تظاهرات ليبيا الأخيرة (روينرز)
TT

تونس بين اضطرابات ليبيا وأزمات الجزائر

من تظاهرات ليبيا الأخيرة (روينرز)
من تظاهرات ليبيا الأخيرة (روينرز)

خرجت تونس عن تحفّظها المعهود عند اندلاع أزمات أمنية وسياسية في ليبيا وبلدان الجوار، وبادر وزير خارجيتها محمد علي النفطي إلى إصدار بلاغ رسمي وصف المستجدات الأمنية في العاصمة الليبية بـ«الخطيرة». وكشف البلاغ التونسي عن تخوّفات من مضاعفات التصعيد الأمني والسياسي في ليبيا على تونس والمنطقة، وأيضاً على عشرات آلاف العمال والتجار التونسيين وأكثر من مليون من المهاجرين الأفارقة المقيمين في ليبيا. ومن جانبه، عرض الرئيس التونسي قيس سعيّد، في كلمة ألقاها نيابة عنه النفطي في القمة العربية ببغداد، أن تستضيف تونس مجدّداً حواراً ليبياً - ليبياً بإشراف بعثة الأمم المتحدة لاحتواء الأزمة الجديدة، مع توقع توسع رقعة تأثيرها، وتسببها بإرباك أكبر للأوضاع في تونس والمنطقة... اقتصادياً وأمنياً وسياسياً.

بالتوازي مع التخوّف التونسي من التداعيات المقلقة للوضع في ليبيا، تتعاقب مؤشرات على «تعقيدات جديدة» في علاقات الجزائر مع الدول المجاورة. إذ صرح أحمد عطّاف، وزير خارجية الجزائر، عند زيارته تونس، بأن «الأوضاع في البلدان المحيطة بتونس والجزائر إقليمياً ودولياً لا تبشر بالخير»، وهذا في إشارة إلى تضخم أعداد المهاجرين من أفارقة جنوب الصحراء المتسللين إلى الجزائر وتونس، والتوترات الأمنية في علاقات الجزائر بعدد من الدول المجاورة لها وبقيادات مسلحة في ليبيا، بعضها مرتبط بروسيا من جهة، وبعضها الآخر بفرنسا وحلفائها الإقليميين.

تداعيات محتملة

من جهة ثانية، توقّعت تقارير اقتصادية وأمنية إقليمية وتونسية جديدة أن يؤثّر التصعيد الجديد داخل ليبيا، وأيضاً أزمات الجزائر مع جيرانها، سلباً على اقتصاد تونس الذي يعتمد منذ عقود على مداخيل تأتي من إنفاق بين 4 و 6 ملايين سائح ليبي وجزائري، يزيد سنوياً بأضعاف على إنفاق الـ6 ملايين سائح أوروبي.

وفي هذا السياق، رحّب خبراء تونسيون وليبيون، بينهم الخبير في الشؤون الاقتصادية الأفريقية عبد الرحمن الجامعي، بـ«الخطوة العملية الأولى» التي اتخذتها تونس بعد اندلاع الأحداث الدامية في طرابلس والمنطقة الغربية لليبيا، وهي إعادة فتح قنصليتها العامة في بنغازي والمنطقة الشرقية، التي أغلقتها عام 2014 بعدما هاجمها مسلحون مجهولون.

لاجئون أفارقة على شواطئ تونس يسعون للهجرة إلى اوروبا (آ ب)

انفتاح تونس على شرق ليبيا

وفسّر غازي معلّى، الخبير التونسي في الشؤون الليبية، هذه الخطوة بوجود «إرادة في تونس لتطوير علاقاتها مع المنطقة الشرقية في ليبيا» بعد أكثر من 10سنوات من تعاونها أساساً مع «حكومة الوحدة الوطنية» في طرابلس المعترف بها دولياً، في تناسق مع موقف الجزائر التي دخلت مراراً في خلافات سياسية وأمنية مع قوات «الجيش الوطني الليبي» بقيادة خليفة حفتر.

أيضاً، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، قال الدبلوماسي عبد الله العبيدي إن «إعادة فتح القنصلية التونسية في بنغازي في هذه الظروف رسالة تطمين لكل الأطراف الليبية، التي دعتها تونس لتنظيم حوار سياسي في تونس على غرار الحوارات السابقة التي أسفرت عن تشكيل حكومتي فايز السرّاج عام 2016 ثم عبد الحميد الدبيبة عام 2021».

ورحب وزير خارجية ليبيا السابق في حكومة الشرق الليبي محمد الدايري في تصريح لـ«الشرق الأوسط» بإعادة فتح تونس قنصليتها في المنطقة الشرقية «التي تربطها بتونس رحلات جوية دورية مكثفة، تمتد لساعة واحدة، ومصالح تجارية واقتصادية عديدة».

مخاوف... بالجملة

في المقابل، حذّر عدد من الخبراء والمراقبين في البلدين من السيناريوهات السلبية بالنسبة لتونس بعد اندلاع الأزمة الأمنية والسياسية الجديدة في المنطقة الغربية لليبيا، التي تتشارك مع جنوب شرقي تونس بحدود طولها 460 كلم، ومع الجزائر بحدود طولها 980 كلم، بينما يبلغ طول الحدود البرية التونسية الجزائرية نحو 965 كلم.

هذا الشق الجغرافي ضاعف مخاوف عدد من الساسة التونسيين، بينهم فاطمة المسدي، البرلمانية القريبة من السلطات، التي حذّرت مراراً من «زحف عشرات آلاف المهاجرين غير النظاميين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس عبر ليبيا والجزائر». كذلك طالب عدد من الساسة والإعلاميين بإغلاق الحدود مؤقتاً مع ليبيا تحسباً لزحف الآلاف إلى الجنوب التونسي هرباً من الاقتتال في ليبيا، بمن فيهم أعداد من المهاجرين الأفارقة الفارين من حروب السودان وتشاد ومالي وكوت ديفوار.

وبالمناسبة، أفاد تقرير «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، وهو منظمة غير حكومية، بأن أكثر من نصف المهاجرين واللاجئين من دول أفريقيا جنوب الصحراء يعيشون داخل تونس في «ظروف صعبة»، لا سيما في محافظة صفاقس الساحلية التي هي النقطة الأقرب للسواحل الإيطالية والأوروبية. وأكد التقرير أن «أكثر من 60 في المائة من المهاجرين وصلوا إلى تونس بطريقة غير نظامية عن طريق الحدود البرية مع الجزائر، وأكثر من 23 في المائة دخلوا برّاً عن طريق ليبيا».

هذا، وبعد شهر واحد من إعلان الناطق باسم الأمن التونسي، العميد عماد مماشة، عن بدء «رحلات إجلاء جوية طوعية» لمجموعات من المهاجرين الأفارقة من بلدان جنوب الصحراء نحو مواطنهم، أعرب برلمانيون تونسيون عن تخوفهم من أن يتسبب اندلاع الأزمة الحالية في ليبيا في مزيد تعقيد ملف الهجرة غير النظامية بأبعاده الأمنية والاجتماعية والاقتصادية.

«قنبلة موقوتة»

وسجّل هؤلاء أن هذا الملف غدا «قنبلة موقوتة» على الرغم من الوعود التي قدّمتها الحكومة الإيطالية وعواصم غربية لتونس، ومنها «تقديم دعم مالي واقتصادي» يفوق الملياري دولار أميركي سنوياً مقابل مشاركتها في منع عشرات الآلاف من التسلل إلى أوروبا بحراً عبر السواحل والمياه الإقليمية التونسية. وهنا عدّ الحقوقي رمضان بن عمر أن تضخم أعداد المهاجرين الأفارقة من بلدان جنوب الصحراء في تونس، بسبب الاضطرابات الأمنية في دول الإقليم، «قد يزيد في إرباك السلطات التونسية، وجرّها إلى أزمة هي في غنى عنها بدلاً من تركيز جهودها على معالجة الأزمة الاقتصادية الداخلية».

جدير بالذكر، أن تونس وقعت عام 2023 اتفاقاً مع مفوضية الاتحاد الأوروبي نصّ على منحها مساعدات مالية بقيمة 112 مليون دولار، وتعهدات بتشجيع استثمارات أوروبية ومشاريع تعاون في تونس قيمتها تفوق ألفي مليار دولار، مقابل منع السلطات الأمنية والعسكرية البرية والبحرية التونسية وصول المهاجرين غير النظاميين إلى السواحل الأوروبية. إلا أن الجانب الأوروبي لم ينفذ بعد معظم بنود هذا الاتفاق على الرغم من تكرار زيارات كبار المسؤولين الأوربيين إلى تونس. ومن ثمّ، توشك الأوضاع أن تزداد تعقيداً، في شكل فرار عشرات آلاف الليبيين والمهاجرين الأفارقة من بلدان جنوب الصحراء نحو تونس هرباً من الأزمة الجديدة في ليبيا وأزمات الجزائر مع «محيطها الإقليمي والدولي»، وفق تعبير وزير الخارجية الجزائري عطّاف، في تونس.

وزير الخارجية الجزائري أحمد عطّاف (وكالة أنباء الأناضول)

على صفيح ساخن!

في الاتجاه نفسه، أعرب بعض الخبراء في العلاقات التونسية الليبية والتونسية المغاربية، بينهم الجامعي والإعلامي، رافع الطبيب، عن أن «المنطقة كلها باتت مهدّدة بأخطار أمنية واقتصادية... والأزمات الأمنية السياسية في ليبيا وضعت تونس وكامل المنطقة على صفيح ساخن». وحذّر، من ثم، من استفحال ظواهر تهريب البشر والسلع والمخدرات والأسلحة في المنطقة «بسبب تحكم ميليشيات مسلحة» في المشهد السياسي الليبي وفي المعابر الليبية البرية والجوية منذ 2011.

هذه التصريحات تزكّي مخاوف الوزير عطّاف عندما قال: «الأوضاع المحيطة بتونس والجزائر إقليمياً ودولياً لا تبشّر بالخير»، وربطها بتوتر العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر ومالي وبوركينا فاسو والنيجر. وكانت هذه التحدّيات الأمنية والسياسية التي تواجهها المنطقة بشكل عام، والعلاقات بين تونس والجزائر بشكل خاص، وراء تنظيم نحو عشرين مقابلة بين وزيري خارجية تونس والجزائر خلال الأشهر القليلة الماضية، فضلاً عن تبادل الرسائل والمبعوثين بين وزيري داخلية البلدين والرئيسين قيس سعيّد وعبد المجيد تبّون.

وفي أعقاب هذه التحركات أعلنت العاصمتان أكثر من مرة أنهما مع «حوار ليبي - ليبي لتسوية الأزمة دون تدخل أجنبي». وأكدتا أن «الجزائر وتونس في خندق واحد»، وأن التنسيق بينهما مستمر ولم ينقطع يوماً في مواجهة «الأزمات الأمنية في جوارهما الإقليمي».

وزير خارجية الجزائر: الأوضاع في البلدان المحيطة بتونس والجزائر

لا تبشر بالخير

السياحة والأمن الاقتصادي

ولكن، على الرغم من التصريحات «المتفائلة»، تعدّدت المؤشرات على مواجهة كل من تونس وليبيا والجزائر ومحيطها الإقليمي صعوبات اقتصادية واجتماعية وسياسية إضافية. ولئن برّر الرئيس التونسي سعيّد والبلاغات الصادرة بعد اجتماعات قادة مجلس الأمن القومي «القرارات الاستثنائية» التي اتخذها منذ 25 يوليو (تموز) 2021 - بينها حلّ البرلمان والحكومة والمجلس الأعلى للقضاء - بـ«الخطر الداهم» الذي يواجه البلاد، فإن عدداً من المراقبين يربطون الأمر بالصراعات المعقدة داخل ليبيا من جهة، وبالاضطرابات داخل بلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان المغاربية، من جهة ثانية.

وبالفعل، تسبّبت الصراعات والاضطرابات بمضاعفة الإنفاق العسكري والأمني بالنسبة لتونس وبلدان الجوار. وحرمت تونس من ملايين السياح الجزائريين والليبيين الذين كانوا طوال العقود الثلاثة يتدفقون عليها سنوياً، ويساهمون في إدخال ديناميكية كبيرة على اقتصادها، وتحسين ظروف عيش ملايين الفقراء والمهمشين من سكان المحافظات الجنوبية والغربية المتاخمة لحدود ليبيا والجزائر.

أيضاً، يدعم هؤلاء السياح بصورة مباشرة وغير مباشرة جهود تخفيف العجز التجاري للدولة التونسية عبر مساهمتهم في تسويق كم هائل من المنتوجات التونسية في ليبيا والجزائر، وتوريد المحروقات ومواد مصنعة وأخرى استهلاكية مدعومة للسوق التونسية بأسعار منخفضة، مع مقايضة بعضها بسلع وطنية أو بيعها بالعملات المحلية. إلا أن هذه المبادلات في الاتجاهين ستكون في خطر وستتعثر حركة المسافرين والسلع ورؤوس الأموال إذا طالت مرحلة التوتر في ليبيا وتفاقمت أزمات الجزائر مع جيرانها.

وللتذكير، سبق للرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون القول في لقاء مع إعلاميين جزائريين إن حكومته تعدّ «أمن تونس من أمن الجزائر» وبمثابة «القضية الأمنية الداخلية للجزائر».

ولقد بيّنت تقارير السلطات ومؤسسات النفط والكهرباء التونسية والجزائرية والغاز أن الشراكة بين البلدين نجحت خلال الأشهر والسنوات الماضية في تأمين حاجيات الشعبين، مع «تسهيلات في الدفع».

وأعلن الجانبان أن سلطات الجزائر تدخّلت مطلع العام الحالي لحل أزمة الغاز المنزلي التي عانت منها تونس، وسط ارتفاع الطلب المحلي نتيجة تدني درجات الحرارة وقتها. وقامت بخطوة مماثلة إبّان الصيف الماضي عندما تزايد الطلب على الكهرباء في جنوب غربي تونس بسبب ارتفاع استخدام التكييف واستهلاك الطاقة.

وإضافة إلى ما سبق، منحت الجزائر ما بين عامي 2020 و 2022 قروضاً بشروط ميسّرة قيمتها 350 مليون دولار ومنحة قيمتها مائة مليون دولار ووديعة مالية بـ150 مليون دولار. لكن يبدو أن من بين نتائج اندلاع حروب ونزاعات إقليمية ودولية جديدة وارتفاع حدة التوتر بين الجزائر والرباط، تراجُع قيمة معاملاتها الاقتصادية والمالية مع تونس.

 

محطات في العلاقات التونسية ــ الليبية والتونسية ــ الجزائرية

مرّت العلاقات بين تونس وكل من ليبيا والجزائر بمراحل وجزر كثيرة، من بينها: - مطلع 1958: قصفت طائرات الاحتلال الفرنسية مناطق عند الحدود التونسية الجزائرية كانت تؤوي قيادة الثورة الجزائرية ومقاتليها بزعامة هواري بومدين. وكانت حصيلة قصف مدينة ساقية سيدي يوسف الحدودية مئات القتلى والجرحى، بينهم تلاميذ المدارس ونساء وعجائز في السوق الشعبية، إلى جانب وطنيين جزائريين. - في 12 يناير (كانون الثاني) 1974: وقع الرئيسان الحبيب بورقيبة ومعمر القذافي «اتفاقية وحدة» بين البلدين وتأسيس «الجمهورية العربية الإسلامية» بينهما، وطالبا الجزائر والمغرب بالانضمام إليها، غير أن المشروع أُجهِض في ظرف أيام بعد اعتراض غربي وإقليمي. - في 1978: ساند النظام الليبي انتفاضة النقابات التونسية يوم «الخميس الأسود» ضد حكم الحبيب بورقيبة ورئيس حكومته - حينذاك - الهادي نويرة. - في يناير 1980: هاجم كوماندوز تونسي مسلح، تدرّب في ليبيا والجزائر، جنوب تونس ودعا إلى التمرّد المسلح على نظام بورقيبة، إلا أنه فشل، خاصة بعد الدعم الذي لقيته تونس من الرباط وباريس وحلفائها الغربيين. - بين 1985 و1987 اندلعت أزمات أمنية وسياسية واقتصادية بين تونس وليبيا ساهمت في هزّ الوضع في تونس وتسهيل انهيار حكم بورقيبة ووصول زين العابدين بن علي إلى السلطة. - بين 1988 و2010: أسست السلطات التونسية علاقات متطوّرة مع النظامين الليبي والجزائري ساهمت في حفظ الأمن وتحسين الشراكات الاقتصادية. - بين 1991 و2000: دعمت تونس السياسات الأمنية للسلطات الجزائرية و«حربها على الإرهاب طوال العشرية السوداء». وفتحت تونس أبوابها لملايين المسافرين الجزائريين. - عام 2010 شهد توتر علاقات سلطات تونس بالنظام الليبي، ما ساهم في تعميق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وسقوط حكم بن علي. - منذ 2014 انحازت تونس إلى السلطات في طرابلس والمنطقة الغربية في ليبيا بعدّها الجهة الليبية «المعترف بها دولياً».


مقالات ذات صلة

الاتحاد الأوروبي أمام تحدي بناء استراتيجية دفاعية جديدة

حصاد الأسبوع مقر حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل (آ ب)

الاتحاد الأوروبي أمام تحدي بناء استراتيجية دفاعية جديدة

في خضم تصاعد غير مسبوق للتوترات الجيوسياسية وتزايد المخاوف الأمنية، تجد القارة الأوروبية نفسها أمام تحدٍ وجودي يفرض عليها إعادة تعريف أسس منظومتها الدفاعية.

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع سكوت كينيث هومر بيسينت، 63 سنة، غير انتماءه السياسي ككثيرين غيره من «الحزب الديمقراطي» إلى «الحزب الجمهوري» وتحول إلى واحد من أبرز حلفاء الرئيس ترمب

سكوت بيسينت... وزير الخزانة الأميركي ثري يميني مرشح لرئاسة الاحتياطي الفيدرالي

رغم أن وزير الخزانة الأميركي يعد الخامس على خط الخلافة الرئاسية في حالات الطوارئ، لكن نادراً ما كان من بين الشخصيات السياسية البارزة التي تحظى بالأضواء،

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مبنى الاحتياطي الفيدرالي في واشنطن (آ ب)

بيسينت... بين حسابات الاقتصاد وطموحات السياسة

من القواعد غير المكتوبة، أن يتجنّب وزراء الخزانة الأميركيون التدخل في عمل الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، الذي يُعتبَر مؤسسة مستقلة. ويؤمن معظم

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
حصاد الأسبوع 
لاجئون من الخرطوم وجدوا ملاذاً في كردفان (أ.ف.ب)

السودان... دولة بنظامين أم دولتان بلا نظام؟

أثار تطور الأوضاع السياسية في السودان مخاوف واسعة، أولاً من خطوة تحالف «تأسيس» المؤيد لـ«قوات الدعم السريع» بإعلان هيكله القيادي، وقرب تشكيله «حكومة» في مناطق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
حصاد الأسبوع جاء إلى السلطة معتمداً على إرث من محاربة الفقر والاستعمار والاستغلال ومعالجة المشاكل الاجتماعية والسياسية

يويري موسيفيني... طامح لولاية سابعة بعد أربعة عقود من الحكم

متعهداً بـ«تنمية اقتصاد بلاده»، أعلن رئيس أوغندا يويري موسيفيني، البالغ من العمر 81 سنة، اعتزامه الترشح لولاية رئاسية سابعة، مستكملاً مسيرة بلغت نحو أربعة عقود

فتحية الدخاخني ( القاهرة)

الاتحاد الأوروبي أمام تحدي بناء استراتيجية دفاعية جديدة

مقر حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل (آ ب)
مقر حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل (آ ب)
TT

الاتحاد الأوروبي أمام تحدي بناء استراتيجية دفاعية جديدة

مقر حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل (آ ب)
مقر حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل (آ ب)

في خضم تصاعد غير مسبوق للتوترات الجيوسياسية وتزايد المخاوف الأمنية، تجد القارة الأوروبية نفسها أمام تحدٍ وجودي يفرض عليها إعادة تعريف أسس منظومتها الدفاعية. فبعد سنوات من الاعتماد على مظلّة حلف شمال الأطلسي (ناتو) والدعم الأميركي، دفعت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب المتكررة حول إمكانية انسحاب الولايات المتحدة من الحلف، القادة الأوروبيين إلى استشعار الخطر الداهم. هذه التهديدات لم تعُد مجرد مناورات دبلوماسية، بل تحولت هاجساً استراتيجياً يدفع العواصم الأوروبية نحو سباق محموم لضمان أمنها القومي والجماعي، في مسعى حثيث نحو استقلالية دفاعية طال انتظارها.

منذ تأسيس حلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 1949، لعبت الولايات المتحدة دور القائد الفعلي للحلف، ليس فقط من خلال المساهمة المالية والعسكرية الضخمة، بل من خلال توفير المظلة النووية والقيادة الاستراتيجية.

على مدى عقود، تحمَّلت واشنطن نحو 70 في المائة من إجمالي الإنفاق الدفاعي للحلف؛ ما جعلها القوة المهيمنة في صنع القرارات الأمنية الأوروبية. وحقاً، إبان الحرب الباردة، كانت المساهمة الأميركية واضحة وحاسمة؛ إذ نشرت واشنطن مئات الآلاف من جنودها في أوروبا، وأنشأت قواعد عسكرية استراتيجية في كل من ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، ووفّرت أنظمة دفاع صاروخي متطورة.

هذا الحضور العسكري الكثيف ما كان مجرد التزام دفاعي، بل كان أداة لضمان النفوذ الأميركي في القارة الأوروبية. إذ تشير الإحصائيات إلى أن الولايات المتحدة تنفق سنوياً نحو 750 مليار دولار على الدفاع، أي ما يمثل 3.5 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي، مقارنة بمتوسط 1.6 في المائة للدول الأوروبية الأعضاء في «ناتو». وبالتالي، منح هذا التفاوت الصارخ في الإنفاق واشنطن نفوذاً هائلاً في تحديد أولويات الحلف واستراتيجياته. بيد أن الأمر لا يقتصر على الأرقام المطلقة. ذلك أن الولايات المتحدة تساهم بنحو 22 في المائة من الميزانية التشغيلية لـ«ناتو»، بينما تغطي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مجتمعة نحو 35 في المائة فقط؛ ما جعل هذا التوزيع غير المتكافئ للأعباء المالية محور انتقادات مستمرة من الإدارات الأميركية المتعاقبة.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع مارك روته أمين عام «ناتو» (آ ب)

من الحماية إلى المطالبة

منذ تولي دونالد ترمب سدّة الحكم في واشنطن فإنه لم يتأخر في توجيه سهام النقد لحلفائه الأوروبيين، متهماً إياهم بالتقاعس عن الوفاء بالتزاماتهم المالية تجاه «ناتو»، والاعتماد المفرط على الحماية الأميركية، بل والتطفل عليها، وفق تعبيره الصريح خلال حملته الانتخابية لعام 2024.

ثم مع عودته إلى البيت الأبيض، تصاعدت لهجته بشكل لافت، مطالباً الأوروبيين برفع إنفاقهم الدفاعي إلى 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو سقف غير مسبوق يتجاوز حتى الإنفاق الأميركي نفسه. ولعل أبرز ما قاله ترمب في هذا السياق كان خلال تجمّع انتخابي في ولاية أوهايو تساءل فيه: «لماذا ندافع عن بلدان لا تدفع ما عليها؟ إذا لم يدفعوا، فليحموا أنفسهم!». وبدت هذه العبارة إعلاناً غير مباشر «لانقلاب» في عقيدة الأمن الأطلسي.

مطالب ترمب، وإن بدت مبالَغاً فيها، أثارت قلقاً عميقاً في العواصم الأوروبية، خاصةً في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا وازدياد التهديدات الروسية؛ الأمر الذي أعاد إلى الواجهة السؤال القديم: هل تستطيع أوروبا أن تحمي نفسها بنفسها؟

لعل أبرز دليل على هذا التحوّل كان كلام كبار المسؤولين الأوروبيين الذي يدعم «الاستقلالية الاستراتيجية». وفي لقاءات ومؤتمرات صحافية، غدت هذه العبارة تتصدر الأجندات السياسية لتشكل محور النقاشات حول مستقبل الأمن الأوروبي. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال في حوار مع صحيفة الـ«فاينانشال تايمز»: «إن المبادرة التي اتخذها الرئيس ترمب وقراره بفصل أوروبا عن المظلة الأميركية، يمثلان صدمة كهربائية إيجابية تدفع الاتحاد الأوروبي إلى تسريع تحوله نحو مزيد من الاستقلالية الاستراتيجية... ما يقوله ترمب لأوروبا هو عليكم تحمل العبء بأنفسكم وأنا أقول فلنتحمل المسؤولية».

اللهجة نفسها اعتمدها المستشار الألماني أولاف شولتس بقوله خلال زيارته لباريس يوم 22 يناير (كانون الثاني) 2025: «واضح أن رئاسة ترمب ستكون تحدياً تجب مواجهته، أوروبا لن تتراجع ولن تختبئ، بل ستكون شريكاً بنّاءً واثقاً من نفسه».

وفي المؤتمر الصحافي الذي نظمته أورسولا فو دير لاين بمناسبة مرور 100 يوم على توليّها رئاسة المفوضية الأوروبية، أقّرت هذه الاخيرة بأن «على أوروبا أن تؤدي واجبها وتتحمل مسؤولية الدفاع عن نفسها من دون الاعتماد على واشنطن. ثمة مطلب متكرر من ترمب... أن نكون حلفاء لا يعني أن يكون هناك اختلال في المسؤوليات أو الأعباء المشتركة».

مبادرات وطنية ... لتعزيز القوة

أمام هذا الواقع الجديد، سارعت الدول الأوروبية، كلاً على حدة، إلى تعزيز قدراتها الدفاعية بشكل غير مسبوق، مع السعي المتزامن لتنسيق الجهود على المستوى القاري.

فرنسا، مثلاً، تواصل بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون، دفع خطتها الطموح للتحديث العسكري بقيمة 413 مليار يورو حتى عام 2030. وتركّز هذه الخطة على تطوير القدرات النووية، والدفاع السيبراني، والصناعات العسكرية المتقدمة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري. أيضاً، تقود باريس مشاريع كبرى مثل الطائرة القتالية الأوروبية المستقبلية «سكاف» (SCAF) والدبابة القتالية الرئيسة الجديدة «إم جي سي إس» (MGCS) بالتعاون مع ألمانيا. وفي خطوة لافتة، أعلنت فرنسا أخيراً خططاً لتعزيز وحدات الدفاع الجوي والصاروخي لديها، وذلك في ضوء الدروس المستفادة من الصراع في أوكرانيا.

أما ألمانيا، فقد خصصت مبلغ 100 مليار يورو لصندوق تحديث الجيش الألماني (البوندسفير)، مع استثمارات كبيرة في أنظمة الدفاع الجوي، بالإضافة إلى التسلح الحديث والمشاركة الفاعلة في المشاريع الأوروبية المشتركة. والملاحظ أن برلين باشرت بالفعل تسريع وتيرة الإنفاق الدفاعي بعد سنوات من التقشف.

من جهة أخرى، اتجهت بولندا ودول البلطيق، التي تشعر بتهديد مباشر من روسيا، إلى إعادة التسلح بشكل مكثف. إذ عقدت بولندا صفقات ضخمة لشراء أنظمة أميركية متطوّرة، بما في ذلك دبابات «أبرامز» وطائرات «إف - 35» وصواريخ «باتريوت»، بالإضافة إلى استثمارها في تعزيز الدفاعات الحدودية والبنية التحتية العسكرية؛ تحسباً لأي طارئ. وفي السياق عينه، تهتم كل من إيطاليا وإسبانيا والدول الإسكندينافية بتحديث قواتها البحرية والجوية، والمشاركة في برامج أوروبية متعددة كالطائرات من دون طيار (Eurodrone) وتطوير القدرات السيبرانية. وأخيراً لا آخراً، تحاول دول أخرى كفنلندا والسويد تسريع عملية اندماجهما في «ناتو» بعد تخلٍ تاريخي عن الحياد، وبالعكس، تبدي دول كالمجر والنمسا تحفظاً عن التضامن الأوروبي الكامل؛ ما يعكس تبايناً في الرؤى داخل الاتحاد.

شراكات أمنية جديدة

في خضم هذه التحوّلات وعلى ضوء توتر العلاقات الأميركية، ظهر تقارب واضح بين الاتحاد الأوروبي وكندا قائم على رؤية مشتركة لأمن متعدد الأطراف. وغدا من مصلحة أوروبا وكندا توحيد صفوفهما لمواجهة التأثير المستمر لسياسات الرئيس ترمب. وفي هذا الإطار، وقّع الطرفان في مايو (أيار) 2025 «خطة العمل الأوروبية - الكندية للتعاون الأمني والدفاعي»، وهي تنصّ على تعزيز التدريبات العسكرية المشتركة، وتطوير نظم مراقبة الساحل الأطلسي، وتنسيق الجهود في مكافحة التهديدات السيبرانية. وقال رئيس الوزراء الكندي الجديد مارك كارني خلال مؤتمر أمني مشترك في بروكسل: «نحن شركاء طبيعيون. كندا تؤمن بأن أمن أوروبا هو أيضاً من أمن شمال الأطلسي، ونرفض ترك حلفائنا أمام مصيرهم».

أما على صعيد العلاقة مع بريطانيا، التي غادرت الاتحاد الأوروبي لكنها لم تغادر جغرافيا القارة، بل شهدت العلاقات الدفاعية طفرة جديدة بعد التوتّرات الطويلة التي أعقبت «بريكست». ففي مارس (آذار) 2025، أعلنت كل من لندن وبروكسل عن تأسيس «مجلس أوروبي - بريطاني للأمن والدفاع» لتنسيق السياسات الأمنية بشكل منتظم. وأكد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر: «قد نكون غادرنا الاتحاد، لكننا لم نغادر أوروبا. التحديات الأمنية الراهنة تُحتّم علينا الوقوف معاً... بريطانيا ستظل قوة موازنة في القارة».