سوزي وايلز... رئيسة موظفي البيت الأبيض و«مفتاح» الوصول إلى الرئيس ومنفذة أجندته

«الزعيمة الجديدة في عالم ترمب»

قالت عن الحرب الروسية ـ الأوكرانية: «لا أعرف إن كان سيحدث إحراز بعض التقدم خلال الأسبوعين المقبلين أم لا. لكن لا أحد كان ليُحاول ذلك سوى دونالد ترمب»
قالت عن الحرب الروسية ـ الأوكرانية: «لا أعرف إن كان سيحدث إحراز بعض التقدم خلال الأسبوعين المقبلين أم لا. لكن لا أحد كان ليُحاول ذلك سوى دونالد ترمب»
TT

سوزي وايلز... رئيسة موظفي البيت الأبيض و«مفتاح» الوصول إلى الرئيس ومنفذة أجندته

قالت عن الحرب الروسية ـ الأوكرانية: «لا أعرف إن كان سيحدث إحراز بعض التقدم خلال الأسبوعين المقبلين أم لا. لكن لا أحد كان ليُحاول ذلك سوى دونالد ترمب»
قالت عن الحرب الروسية ـ الأوكرانية: «لا أعرف إن كان سيحدث إحراز بعض التقدم خلال الأسبوعين المقبلين أم لا. لكن لا أحد كان ليُحاول ذلك سوى دونالد ترمب»

صفات عدة أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترمب على سوزي وايلز، التي دخلت التاريخ بعدما عيّنها أول امرأة تتولى منصب رئيس موظفي البيت الأبيض. منها تلقيبها بـ«طفلة الجليد» بعدما قال عنها إنها «صارمة وذكية وخلاّقة وتحظى بإعجاب الجميع واحترامهم». كيف لا وهي التي يُنسب إليها الفضل في إدارة حملة انتخابية «منضبطة» و«احترافية» ساعدت ترمب على تحقيق فوز ساحق في المجمع الانتخابي، وربما فوزه بالتصويت الشعبي أيضاً عام 2024. لذا لم يأت اختياره لوايلز مفاجئاً بعدما اكتسبت احترام الرئيس واهتمامه، وأثبتت قدرة على المساعدة في التحكم في انفعالات ترمب، إلى حد ما، بطريقة قلّما تمكّن غيرها من تحقيقه.

ولدت سوزان وايلز (سوزان سمرال، قبل الزواج) يوم 14 مايو (أيار) 1957 في ولاية نيوجيرسي، ونشأت في سادل ريفر، وهي واحدة من ثلاثة أبناء لكاثي سمرال وبات سمرال، لاعب كرة القدم الأميركية الشهير والمذيع الرياضي الناجح.

تخرجت وايلز في أكاديمية «الملائكة المقدسة» عام 1975، ثم في جامعة ماريلاند - كوليدج بارك بالضواحي الشمالية للعاصمة الأميركية واشنطن، ببكالوريوس آداب في اللغة الإنجليزية. وكانت لفترة غير قصيرة متزوّجة من لاني وايلز، وهو مستشار ومسؤول حملات جمهوري، وانتقلت معه إلى بونتي فيدرا بيتش، إحدى ضواحي جاكسونفيل بولاية فلوريدا عام 1985، إلا أنهما انفصلا عام 2017، ولديها ابنتان.

وايلز مُقلّة في ظهورها الإعلامي، وكادت حتى في يوم تنصيبه في 20 يناير (كانون الثاني) أن تتراجع عن إلقاء كلمتها عندما طلب منها ترمب ذلك، واكتفت ببضع كلمات مفضلة ظهوراً بسيطاً خلف الكواليس يمكن أن يكون فعالاً أكثر، في وظيفة تعد واحدةً من أكثر الوظائف الحكومية تطلّباً وحساسية وتعقيداً على الإطلاق.

تقييم أول 100 يوم من عهد ترمب

مع هذا، بعد أول 100 يوم من عهده الثاني، تولّت وايلز تقديم تقييم شامل لإنجازاته في مقابلة صحافية نادرة، واصفة إياها بأنها كانت «نجاحاً باهراً... ولكن لا يزال هناك المزيد مما يجب القيام به».

وفي حين أن معظم الرؤساء المعاصرين حدّدوا حاجز الـ100 يوم معياراً للنجاح المبكر، رأت وايلز أن المقياس الأفضل هو أداء الإدارة في الأشهر الستة المقبلة. واستشهدت بـ142 أمراً تنفيذياً وقّعها ترمب منذ أدائه اليمين، و«حملته الناجحة» على الهجرة غير الشرعية، و«عمله على تأمين الاستثمار الأجنبي» في الولايات المتحدة و«الصفقات التجارية» مع أكبر الشركاء الاقتصاديين لأميركا.

يزعم البعض أن وايلز، بصفتها «مفتاح» الوصول إلى ترمب وعقله وأجندته، هي التي لعبت دوراً كبيراً في إنجاح زيارته إلى المملكة العربية السعودية، بما فيها الترتيبات «الهادئة» و«الصامتة» التي أدت إلى «الاختراقات» الاقتصادية والسياسية التي شهدتها زيارته.

أيضاً، ناقشت وايلز في مقابلتها الصحافية في 29 أبريل (نيسان) الماضي الاقتصاد، والحرب بين روسيا وأوكرانيا، وفي غزة، والميزانية، والضرائب والرسوم التجارية. وقالت: «أرى مسؤوليتي هي التأكد من حصوله على معلومات نزيهة وحقيقة كاملة. ومهما كان عدد الأشخاص اللازمين للوصول إلى ذلك، وأياً كانوا - طبعاً في حدود المعقول - فإننا نشجع ذلك بالفعل». وأردفت أن ترمب سيركز على جذب الاستثمارات المتبادلة للولايات المتحدة خلال زيارته الخليجية، متحدثة عن علاقات ترمب الراسخة مع قادة دولها، وقالت «العلاقات راسخة للغاية».

وعن الحرب الروسية في أوكرانيا، قالت وايلز إنه بينما يأمل ترمب في تسوية سريعة، قد لا يكون ذلك قابلاً للتحقيق. مُضيفةً: «لا أعرف إن كان ذلك سيحدث أم لا. أعني، قد نتمكن من إحراز بعض التقدم خلال الأسبوعين المقبلين، لكن لا أحد كان ليُحاول ذلك سوى دونالد ترمب. لا أحد كان ليُقنع هؤلاء الناس بالجلوس على طاولة المفاوضات سواه. وإذا أرادوا مواصلة قتل الناس، وهو أمرٌ مُشين، كما تعلمون، فهو لا يستطيع إيقافه».

وعن غزة، قالت إنها لم تُفاجأ إطلاقاً عندما أعلن ترمب أن الولايات المتحدة ستسيطر على قطاع غزة المُمزق بالحرب. وأضافت: «قال لي أحدهم إنني بدَوت مُتفاجئة. لكن لا، لقد كان يتحدث عن ذلك... لم أُفاجأ إطلاقاً، وهو يعتقد أنها يجب أن تكون منطقة حرية، منطقة سلام، ونحن الوحيدون القادرون على تحقيق ذلك. ولذا كان يعني ذلك، ولا يزال يعنيه».

«الدولة العميقة» الجديدة

وفيما أكدت على أن ترمب سيركز جهوده من الآن فصاعداً على حث الكونغرس على إقرار سلسلة واسعة من وعود حملته الانتخابية - بما في ذلك إنهاء الضرائب على الإكراميات والعمل الإضافي ومزايا الضمان الاجتماعي، والحفاظ على الوحدة بين الأغلبية الجمهورية الضئيلة في مجلسي النواب والشيوخ، توقعت أن يحتفظ ترمب بجميع وزراء حكومته خلال السنة الأولى من ولايته، الأمر الذي عدّه البعض إشارة إلى «الدولة العميقة» الجديدة التي يقوم ترمب ببنائها، وقد تكون وايلز على رأس الطاقم الذي سيقود جهوده، مستفيداً من دروس ولايته الأولى والتغييرات التي أجراها على بنية الحزب الجمهوري.

عندما انضمت وايلز إلى حملة ترمب للبيت الأبيض عام 2016 رئيسة مشاركة في حملته بولاية فلوريدا، واجهت تشككاً من بعض الجمهوريين. لكنها أوضحت لصحيفة «تامبا باي تايمز» آنذاك أنها شعرت أن أياً من الجمهوريين الآخرين المترشحين للبيت الأبيض لا يمثل التغيير الذي تحتاجه واشنطن. وقالت وايلز: «لا أريد أن يستمر هذا الوضع. أعتقد أنه سيضرّ جمهوريتنا بشكل خطير، ومَن مِن بين هذه المجموعة غير ترمب يملك الشجاعة لتغيير ما رأيته يحدث على مر السنين؟».

وفي أبريل 2021، وصفت بأنها «الزعيمة الجديدة في عالم ترمب»، وبأنها ستمارس سلطة على مدير حملة 2020 السابق بيل ستيبين ومساعده الرئيسي جاستن كلارك. وبعدما تولت رئاسة لجنة العمل السياسي «أنقذوا أميركا»، غطت الرسوم القانونية للعديد من موظفي ترمب الحاليين والسابقين المتورطين في إجراءات قانونية ضد الرئيس السابق.

أبعدت والتز وانتقدت ماسك

حتى الآن، لا تزال تركيبة إدارة ترمب صامدة، على الرغم من «الانتكاسة» التي تعرّض لها مستشاره للأمن القومي، مايك والتز، الذي يعتقد على نطاق واسع أن وايلز لعبت دوراً رئيساً في إقصائه من منصبه، وإن بقي في الإدارة. والسبب ليس فقط قضية تسريبات ما يعرف بـ«سيغنال غيت» عن الحملة الجوية ضد الحوثيين في اليمن، بل بسبب تصادم «أجندته» مع الرئيس ومحاولته عقد «ترتيبات» سياسية، في إشارة إلى اتصالاته برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول إيران، من دون أن تمر عبر وايلز ولا تحظى بموافقتها.

أيضاً ذكرت وسائل إعلام أميركية أن وايلز كانت على خلاف مع إيلون ماسك الذي يتولى الإشراف على دائرة الكفاءة الحكومية (دوج). وإنها، وفقاً لمصادر مقربة من البيت الأبيض، استاءت من إهمال استشارتها، عندما أرسل بريداً إلكترونياً إلى الموظفين الفيدراليين، طالباً منهم سرد خمسة أشياء أنجزوها في أسبوع واحد وإلا سيُطردون.

وعندما سُئلت عن علاقة الإدارة بالصحافة، قالت وايلز إنها لا تعتقد أن صحافيي البيت الأبيض يخشون مخالفة الرئيس أو احتمال إلغاء اعتمادهم. وأوضحت: «لم يُستبعد من القائمة سوى شخص واحد من أصل 400 صحافي معتمد. لذا، إذا كان هناك عامل خوف، فأرى أنه لا أساس له من الصحة». وتابعت: «أعتقد، على مستوى ما، بينما ثمة العديد من الآراء حول أجندة الرئيس وما نفعله وما استند إليه في حملته الانتخابية، وربما لا يتفق الجميع على ذلك، فإنني أعتقد أنهم يُقدّرون الشفافية والحضور، لا سيما بعد إدارة بايدن».

شخصية جمهورية ثابتة

حقاً، بدت شخصية وايلز لافتةً في دفاعها عن ترمب، بعدما قالت في مقابلة سابقة إنها «لا ترحب بالذين يريدون العمل منفردين أو أن يكونوا نجوماً... وأنا وفريقي لن نتسامح مع الغيبة، أو التكهنات غير اللائقة، أو الدراما»، ما جعل الجمهوريين أكثر تحمساً واطمئناناً لها من تجاربه السابقة مع الذين تولّوا منصبها.

أيضاً كانت وايلز شخصيةً ثابتةً على المسرح السياسي في فلوريدا لعقود قبل أن تُساعد كلاً من ترمب ورون دي سانتيس في الفوز بحملات انتخابية. ويُنسب إليها الفضل في إنقاذ حملة دي سانتيس عندما كان نائباً مغموراً في الكونغرس بطلب من ترمب، لمنصب الحاكم عام 2018. لكن انفصالها عنه لاحقاً، دفع دي سانتيس إلى إقناع فريق ترمب بطردها قبل حملته لعام 2020.

وايلز لم تدع «الإهانة» تمر مرور الكرام، واستغلت معرفتها الوثيقة بدي سانتيس لإضعاف حملته عندما ترشح ضد ترمب في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري عام 2024. وبعدما وصفت تجربتها معه بأنها «أكبر غلطة سياسية» اقترفتها، نشرت تغريدة نادرة لها على «إكس» في اليوم الذي أنهى فيه حملته الرئاسية، شامتةً «مع السلامة!».

من جهة ثانية، قبل التحاقها بحملة ترمب، عملت وايلز لعقود في حملات محلية ووطنية، منها لمجموعات الضغط في القطاع الخاص، مع شركات كـ«جنرال موتورز» و«بالارد بارتنرز» و«ميركوري» العملاقة التي تضم قائمة عملائها «سبيس إكس»، و«إيه تي آند تي». وكشف تقرير لمنظمة «المواطن العام» التي أسسها الناشط رالف نادر، أن وايلز كانت تعمل كجماعة ضغط مسجلة لـ42 عميلاً مختلفاً بين نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 وأبريل 2024.

عملت مع كل الجمهوريين

بالإضافة إلى عمل وايلز مع النائب والمرشح الجمهوري لمنصب نائب الرئيس جاك كيمب في نيويورك، كانت مسؤولة عن «جدوَلة» اجتماعات الرئيس السابق رونالد ريغان، وعملت في وزارة العمل في عهده. ومنذ ذلك الحين، عملت مع جمهوريين من مختلف التوجّهات الآيديولوجية. وشغلت منصب نائب مدير العمليات في حملة جورج بوش «الأب» عام 1988، وكانت رئيسة مشاركة للمجلس الاستشاري للسيناتور ميت رومني في فلوريدا إبّان حملته الرئاسية عام 2012.

وبعدما عينها ترمب رئيسة موظفي البيت الأبيض، وصفها حاكم فلوريدا السابق جيب بوش - الذي نافس ترمب على ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة عام 2016 - بأنها «خيار رائع» لهذا المنصب.

يرى كثيرون أن القاسم المشترك في حملة ترمب عام 2016، ووصوله إلى البيت الأبيض، وحملته الخاسرة عام 2020، كان الفوضى التي اتسمت بالصراعات الداخلية المُفرطة، والطعن في الظهر، والتسريبات، والشخصيات المثيرة للجدل التي تصدرت عناوين الصحف لأسباب عدة.

ولكن عام 2021 مع وصول ترمب إلى الحضيض السياسي، بعد خسارته إعادة انتخابه، ودعم بعض الجمهوريين بعد اقتحام مبنى الكابيتول في 6 يناير (كانون الثاني)، دخلت وايلز المشهد. وحقاً قلبت الأمور وأشرفت على عودته إلى البيت الأبيض.

كبحت جماح ترمب

مُحترفو الحملات الانتخابية من كلا الحزبين وصفوا حملة ترمب 2024 بـ«الاحترافية للغاية» على الرغم من ميوله إلى تبنّي الفوضى. لكن وايلز نجحت في كبح جماحه، مُتدخلة أحياناً لإعادته إلى مساره الصحيح، وتخفيف حدة خطابه حول خسارة انتخابات 2020، وحثّت مؤيديه على التصويت عبر البريد. ولقد وصفها كريس لاسيفيتا، الذي كان مديراً مشاركاً للحملة مع ويلز: «تتمتع وايلز بقدرة فائقة على إدارة عدة أمور مهمة في آنٍ واحد، ما يجعلها، من وجهة نظر إدارية، الخيار الأمثل». وأضاف: «التنظيم مهم جداً... فإذا لم ننتبه للأمور الصغيرة، ستغفل الأمور الكبيرة».


مقالات ذات صلة

الكرملين... منتصف الطريق بين طهران وتل أبيب

حصاد الأسبوع قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)

الكرملين... منتصف الطريق بين طهران وتل أبيب

لم تنعكس اللهجة القوية التي أطلقها الكرملين ضد إسرائيل مباشرة بعد اندلاع الحرب الحالية، عملياً على التحركات الروسية. ولم يحمل التنديد الروسي بالهجوم الإسرائيلي

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع مايك هاكابي

مايك هاكابي... سفير أميركا لدى إسرائيل «توراتي» ينكر وجود الشعب الفلسطيني

كان من الممكن لسفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل، مايك هاكابي، أن يكون دبلوماسياً عادياً، بالكاد تحدث تصريحاته السياسية أثراً مهماً أو تلعب دوراً في كشف سياسات

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع الرئيس دونالد ترمب يقود حملة الجمهوريين ضد "قنون الرعاية الصحية"  - أوباما كير - (تلفزيون "آيه بي سي"

مواقف هاكابي نموذج لأميركا المحافظة الحالية

يؤمن مايك هاكابي بـ«التصميم الذكي» للوجود، ويرفض نظرية التطور الداروينية، كما ينكر خطر الاحتباس الحراري. عام 2004، نُقل عنه في برنامجه «أركنسو أسك»، وهو…

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
حصاد الأسبوع من جلسات القمة العربية في بغداد (رويترز)

متغيرات إقليمية تهدد أوزان الأحزاب في موسم الانتخابات العراقية

أدت مجموعة من القضايا في العراق إلى تسخين الأجواء باكراً مع تحضير القوى السياسية لخوض الانتخابات المقبلة. وهذه الانتخابات تبدو مصيرية على كل الصعد،

حمزة مصطفى (بغداد)
حصاد الأسبوع لي جاي ميونغ

لي جاي ميونغ... الرئيس الكوري الجنوبي أمام تحدي إنقاذ الديمقراطية ومعركة الفساد

بعد ثلاث سنوات من التعرّض للهزيمة، نجح لي جاي ميونغ، مرشح «الحزب الديمقراطي» لمنصب الرئاسة في كوريا الجنوبية، في الفوز بأرفع منصب في البلاد. ويأتي انتخاب لي،…

براكريتي غوبتا ( نيودلهي)

الكرملين... منتصف الطريق بين طهران وتل أبيب

قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)
قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)
TT

الكرملين... منتصف الطريق بين طهران وتل أبيب

قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)
قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)

لم تنعكس اللهجة القوية التي أطلقها الكرملين ضد إسرائيل مباشرة بعد اندلاع الحرب الحالية، عملياً على التحركات الروسية. ولم يحمل التنديد الروسي بالهجوم الإسرائيلي على إيران، وعدّه انتهاكاً فظاً للقانون الدولي و«مرفوضاً بشكل قاطع»، انحيازاً لـ«الشريك الإيراني» في المواجهة القائمة، قد تكون له تبعات ملموسة، بقدر ما جاء تأكيداً لمواقف موسكو السابقة الرافضة لـ«السيناريو العسكري» لتسوية الخلاف حول البرنامج النووي الإيراني. لكن بدا أن الكرملين كان يتوقع هذا التطور، وأعد له العدة، على الرغم من تحذيراته المتكررة من «عواقب وخيمة» للحل العسكري، للتعامل مع الواقع الجديد في الشرق الأوسط.

الرئيس فلاديمير بوتين كان الزعيم الوحيد الذي سارع فور اندلاع الحرب، إلى إجراء اتصالين مع كل من بنيامين نتنياهو ومسعود بزشكيان، ما أوضح أن موسكو فضّلت الوقوف في منتصف الطريق بين الطرفين. وبرز هذا تماماً عبر تأكيد بوتين أن تسوية الصراع القائم لا بد أن يقوم على إيجاد «توازن» واضح بين ضمان حق إيران في استخدامات الطاقة النووية للأغراض السلمية من جانب، وضمان مصالح إسرائيل وحقها في ألا تتعرّض لتهديد. وهذه اللهجة لم تكن مستخدمة كثيراً لدى الكرملين خلال السنوات الاخيرة.

لقد راوحت ردود الفعل الروسية على الضربات الإسرائيلية ضد إيران، بين «القلق» من تداعيات الحدث بعد «انهيار الجهود السلمية لتسوية الملف النووي»، وتحميل إسرائيل المسؤولية عن تداعيات «رفع مستوى المخاطر» وجرّ المنطقة إلى صراع مفتوح. وسارعت أوساط في موسكو لوضع «سيناريوهات» محتملة بينها انزلاق الوضع في المنطقة نحو «مواجهة شاملة» ترمي بآثارها على بلدان الشرق الأوسط.

بيان موسكو

أصدرت الخارجية الروسية بياناً شديد اللهجة أدان التحرك العسكري الإسرائيلي، وعدّه مخالفة «وانتهاكاً فظاً لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي». واتهمت موسكو إسرائيل بأنها «اتخذت قراراً واعياً لزيادة تصعيد التوترات ورفع مستوى المخاطر. ولقد تكرّرت التحذيرات من خطورة المغامرات العسكرية التي تهدد الاستقرار والأمن في المنطقة. وتقع مسؤولية جميع عواقب هذا الاستفزاز على عاتق القيادة الإسرائيلية».

لكن هذه اللهجة الانتقادية القوية من موسكو، التي تعزّزت بعد يومين بإدانة ما وصفه الكرملين بـ«إحجام إسرائيل عن العودة إلى المسار السياسي» ترافقت مع اتهام موسكو الدول الغربية بأنها «تتحمل جزءاً من المسؤولية عن التصعيد»، لكونها أثارت «الهستيريا المعادية لإيران في مجلس محافظي الوكالة» الذي كان قد تبنى قراراً يدين طهران قبل يومين فقط من وقوع الهجوم الإسرائيلي. وبدا جلياً أن موسكو تعمل بسرعة على بلورة موقفٍ تبني على أساسه خطواتها اللاحقة.

لا مساعدة عسكرية لطهران

السؤال الأول الذي تردد بشأن موقف الكرملين، ركّز على مدى جدية احتمال أن تتدخل موسكو عسكرياً لصالح إيران، وبخاصة في إطار «التعامل بالمثل» مع المساعدات المهمة التي قدمتها طهران لموسكو في الحرب الأوكرانية.

لكن بدا منذ اللحظة الأولى أن هذا الأمر ليس مطروحاً أصلاً ضمن حسابات الكرملين، كما أنه لا يوجد أساس قانوني لهذا التدخل. فاتفاق «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» المُبرم مع إيران في بداية العام، لا ينص على بند حول الدفاع المشترك، خلافاً لاتفاقية مماثلة وقعتها موسكو مع كوريا الشمالية العام الماضي وانعكست نتائجها عملياً في أوكرانيا.

صحيح أن الاتفاقية تؤكد «تعزيز التعاون في كل المجالات بما في ذلك العسكرية منها»، لكنها لا تلزم الطرفين بالتدخل في حال وقع اعتداء على أحدهما، مكتفية بإشارة إلى أنه «في حال تعرض أي طرف لعدوان خارجي فإن الطرف الآخر يلتزم بعدم مساعدة الأطراف المعتدية».

هذا لا يقلل بطبيعة الحال من أهمية الشريك الإيراني لموسكو في عدد من الملفات الكبرى التي تربط الطرفين، لكن الكرملين بدا أنه تحسّب لهذا «السيناريو» مُسبقاً، وخلافاً لتوقعات كثيرة تردّدت في أثناء صياغة النسخة النهائية من الاتفاقية، تجنّب أي إشارة فيها إلى موضوع الدفاع المشترك.

الاتصالات مع واشنطن

النقطة الثانية المهمة هنا، أن الحرب المشتعلة سببت حقاً نوعاً من الحرج للكرملين، وأظهرته عاجزاً عن الدفاع عن حلفائه، لكنها في المقابل فتحت فرصاً جديدة لموسكو لتعزيز موقفها مع الولايات المتحدة ومحاولة جني مكاسب من التطورات. فقبل أسبوع واحد من اندلاع الحرب أجرى الرئيسان الروسي والأميركي مكالمة هاتفية مطوّلة ركزت على الوضع حول إيران، إلى جانب تطورات الملف الأوكراني. واتضح بعد ذلك مباشرةً أن موسكو وواشنطن توصلتا إلى رأي متفق عليه: لا ينبغي لطهران امتلاك أسلحة نووية!

طبعاً، هنا ظهر إغراء كبير لإطلاق تكهنات مثيرة، تصب في إطار صفقة محتملة: «ترمب أعطى أوكرانيا لبوتين مقابل إيران».

لكن الأمر ليس بهذه البساطة. ليس فقط لأن سيطرة واشنطن على الوضع حول أوكرانيا محدودة بعض الشئ، بل كما أظهرت مفاوضات واشنطن وكييف حول المعادن النادرة، فإن أوكرانيا تدافع عن مصالحها الأساسية في كل الأحوال.

ثانياً، هناك أيضاً دول أوروبية لها موقفها الخاص ويمكنها التأثير في الصراع، وخاصة على الموقف الأميركي.

وهناك أمر ثالث أهم بكثير. فمن تابع الوضع بدقة يتذكر جيداً أن موسكو، قبل ترمب وقبل بدء الحرب الأوكرانية، كانت تعارض امتلاك إيران الأسلحة النووية. لذا لم تحدث أي تحولات جوهرية في موقف الكرملين من هذه القضية، ما يدحض الكلام عن صفقة «أوكرانيا مقابل إيران».

مع هذا ـ مجرد مناقشة الموضوع الإيراني خلال مفاوضات بوتين - ترمب أمر جدير بالاهتمام. إذ أوحى أن واشنطن ربما كانت أقرب إلى التعامل مع وساطة روسية في هذا الملف، انطلاقاً - كما يقول خبراء روس - من أن ترمب «يفضل التوصل إلى خيارات على شن عمل عسكري واسع قد لا يمكن التكهن بنتائجه»، مع أنه يبدي حزماً لفظياً تجاه طهران.

ولكن لم يمر وقت طويل بعد ذلك حتى اتضح أن ترمب شارك، وفق تعليقات خبراء روس وغربيين، في عملية تضليل استراتيجي لطهران. وأن الاتصالات التي أجراها وإبداءه قدراً من التعاطف مع فكرة الوساطة الروسية كانت جزءاً من ذلك التضليل.

أولويات الكرملين

صحيح أن روسيا أعلنت أكثر من مرة في السابق رفض امتلاك إيران أسلحة نووية، لكنها دافعت طوال سنوات عن حق طهران في تطوير استخدام الطاقة الذرية للأغراض الذرية من دون إظهار حساسية - خلافاً للغرب - تجاه مخاطر تحوّل البرنامج السلمي الإيراني إلى برنامج عسكري في وقت قصير نسبياً.

الموقف الروسي هذا بدا مستنداً ليس إلى مخاوف من جانب إيران نفسها بل إلى استراتيجية تقوم على رفض توسيع «النادي النووي» قبل وضع ضوابط وآليات للرقابة وتفاهمات جديدة مع الدول النووية الكبرى حول الانتشار وضبط التسلح. بعبارة أخرى تعارض موسكو فكرة إطلاق «فوضى نووية» أكثر من أن تكون معارضة لحق إيران بامتلاك السلاح النووي.

واللافت وجود تيارين أو رأيين لدى الأوساط المقربة من الكرملين في هذا الشأن: الأول يرى علناً إيران شريكاً استراتيجياً لموسكو، وهذه الشراكة أظهرت مستوى جديتها في المواجهة الراهنة بين موسكو والغرب، وعليه، فتعزيز قدرات إيران لا يخيف موسكو. والثاني يحذّر من ظهور جار نووي جديد لروسيا، متقلب الأهواء نوعاً ما، قد تتغير معالم سياسته الخارجية بناء على صفقات مع الغرب.

وعليه، فاحتمال إبرام اتفاق نووي جديد بين طهران وواشنطن لم يكن السيناريو الأمثل للكرملين. ومع ذلك، فإن الفشل التام للمفاوضات أمرٌ خطير أيضاً، لأن السيناريو العسكري سيؤدي حتماً إلى زعزعة استقرار إيران، وربما الوضع في عموم جوار روسيا. ومن ثمّ، تمثّل السيناريو الأمثل لموسكو في تجنب الحل العسكري وترك طهران تخوض مفاوضات طويلة الأمد من دون أي نتائج حقيقية، أو الانخراط بشكل مباشر في المفاوضات للحصول على مكاسب مهمة في حال أمكن التوصل إلى صفقة.

اتفاق «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» بين روسيا وإيران لا ينص على الدفاع المشترك

فرص الوساطة الروسية

قبل اندلاع الحرب، كان المزاج السائد في موسكو أن الإيرانيين والأميركيين بحاجة حالياً لمشاركة روسيا. تحتاج طهران إلى وسطاء لزيادة فرص تنفيذ الاتفاق واستبعاد احتمال انسحاب ترمب، أو الرئيس الأميركي المقبل منه مجدداً خلال بضع سنوات. لذا، من مصلحة إيران إشراك أكبر عدد ممكن من الأطراف في الاتفاق: الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والصين، وروسيا، بالإضافة إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.

طهران تحتاج أيضاً إلى وسطاء كمصادر للمراقبين. وإذا اقتصر الاتفاق على الأميركيين فقط، فسيتعين منحهم حق الوصول لمراقبة المنشآت النووية الإيرانية. وواشنطن تحتاج إلى مشاركة روسيا لحل المسائل الفنية. وكانت روسيا، في الاتفاق السابق، من وافق على تسلّم الوقود النووي المستهلك من إيران، وهو ما لم يكن المشاركون الآخرون مستعدين للقيام به.

موسكو رأت أنه في إطار أي اتفاق سيتوجّب على إيران التخلص من فائض اليورانيوم. وبدا أن روسيا الطرف الوحيد المؤهل لتولّي هذه المهمة: أولاً، لامتلاكها القدرات التقنية اللازمة لقبوله ومعالجته. ثانياً، لأنها الخيار الذي تُصرّ عليه طهران. وفي النهاية، سيكون أسهل بكثير لإيران استعادة اليورانيوم المخصب من روسيا إذا انسحبت واشنطن من الاتفاق مجدداً.

موسكو لم تغير أولوياتها تجاه هذا الموضوع مع اندلاع الحرب، بل عادت لطرح وساطتها بشكل ملحّ وأكثر من مرة عبر اتصالات أجراها بوتين مع عدد من قادة العالم. لكن المشكلة في عرض الوساطة الروسي افتقاره إلى آليات عملية، وإلى رغبة إسرائيل - والغرب عموماً - بالتعامل مع جهود موسكو. والأهم من هذين السببين، أن العرض يتناقض جوهرياً مع أهداف تل أبيب وواشنطن من هذه الحرب.

أيضاً، فضلاً عن اعتراض عدد من الدول الأوروبية على فكرة الوساطة الروسية، فإن الرئيس ترمب أيضاً نصح بوتين في مكالمة هاتفية «بأن يولي اهتماماً أكبر لتسوية الصراع في أوكرانيا بدلاً من عرض جهوده للتوسط بين إيران وإسرائيل». وللعلم، الأخيرة تجاهلت أصلا كل دعوات بوتين لبذل جهود للوساطة.

نقطة أخرى مهمة تضعف عرض الوساطة الروسية، هي أنه يقوم على فكرة العودة إلى التفاوض لتسوية الملف النووي، بينما الأحداث على الأرض تشير إلى انتقال واشنطن وتل أبيب إلى الحسم العسكري وتقويض البرنامج الإيراني كله.

سياسياً، يسعى الكرملين، إلى تجنيب إيران مصير التفكك أو تحضير الوضع الداخلي لتغيير جذري، بعد إضعاف السلطات الإيرانية واستهداف القيادات الأساسية أمنياً وعسكرياً، وهذا أيضاً أمر لا يحظى بقبول من جانب تل أبيب وواشنطن.

بوتين يحصد مكاسب

إن ضعف فرص الكرملين في التوسّط لإنهاء القتال لا يمنع الرئيس الروسي من تسريع وتيرة جني مكاسب بسبب اندلاع هذه الحرب. وهنا يقول خبراء إن احتمالات التفاوض على اتفاق ينهي الحرب وتقبل بموجبه إيران قيوداً أكثر صرامة على برنامجها النووي، تبدو ضئيلة للغاية بعد الهجمات الإسرائيلية. ولكن إذا استؤنفت المحادثات، قد يبرز عرض روسيا كعنصر محوري في أي اتفاق.

مع هذا، المكاسب الأهم لموسكو تتحقّق بالفعل في أوكرانيا حالياً. إذ تواصل القوات الروسية تقدمها على عدد من الجبهات، وتنفذ عملياً خطتها لإنشاء منطقة عازلة على طول الشريط الحدودي وداخل العمق الأوكراني من سومي إلى خاركيف. وعملياً، تكرّس موسكو - التي تتأهب حالياً لاستكمال جولات التفاوض المباشر مع أوكرانيا - واقعاً ميدانياً جديداً يعزز موقفها ويضعف مجالات المناورة الأوكرانية ويضع كييف أمام شرط القبول بتنازلات إقليمية مؤلمة لتحقيق السلام.

وبالفعل، استغلت موسكو انصراف الاهتمام الدولي إلى جبهات القتال الإسرائيلية الإيرانية لتوسيع هجماتها العسكرية بشكل نشط. ويُجادل بعض المعلقين في موسكو بأن المواجهة في الشرق الأوسط أسفرت عن تشتيت انتباه الغرب وموارده على الأرجح عن الحرب في أوكرانيا، وتُسهّل على روسيا تحقيق أهدافها الميدانية.

أيضاً، استفادت موسكو من المزاج السياسي الأميركي الحالي، في تكريس عزلة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن واشنطن، وحسم موضوع المساعدات العسكرية الأميركية المحتملة لكييف. وتبين ذلك عبر إلغاء لقاء يجمع زيلينسكي بترمب على هامش «قمة السبعة الكبار» في كندا أخيراً. ورأت موسكو ان إلغاء اللقاء يعكس تحولاً مهماً لدى واشنطن.

في أي حال، يرى دبلوماسيون بارزون أن التطوّرات الجارية ستدفع الرئيس ترمب إلى تعزيز تقاربه مع موسكو. كذلك، يرجّح مراقبون أن تؤدي الهجمات الإسرائيلية إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية، وستُساهم في إثراء روسيا وسط أزمتها الاقتصادية.

وعلى صعيد متصل، يتوقع مراقبون أنه مهما كانت نتائج هذه الحرب، في حال لم تسفر عن تقويض النظام الإيراني، سيتكرس واقع في إيران يخدم مصالح موسكو، لجهة بقاء «الحليف» مقرباً من موسكو وتقليص فرص الانفتاح على الغرب.

وللعلم، عملت موسكو بقوة على توظيف الحرب القائمة لخدمة سرديتها عن المواجهة مع الغرب. وبرزت تعليقات لمحللين مقرّبين من الكرملين حول أن الحرب الإيرانية الإسرائيلية أظهرت أن امتلاك قدرات الردع النووي أفضل ضمان ضد محاولات «تحفيز» العمليات الداخلية بالقوة العسكرية الخارجية.