خطط ترمب التوسعية «استفزاز» يهدد «الناتو»... ويمنح بوتين أوراقاً إضافية

الكرملين منفتح إزاء أوكرانيا... والتعامل مع إعادة «ترتيب أوروبا»

كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
TT

خطط ترمب التوسعية «استفزاز» يهدد «الناتو»... ويمنح بوتين أوراقاً إضافية

كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)
كيف ستتعامل موسكو مع موضوع ضم ترمب لجزيرة غرينلاند (ناسا)

تراقب موسكو خطوات الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب بمزيج من الترقّب لردّات الفعل في مناطق مختلفة من العالم، وحساب معدلات الربح والخسارة، لا سيما في إطار انعكاسات تصرفات الرئيس الأميركي على تماسك المواقف الأوروبية ووحدة حلف شمال الأطلسي «ناتو» وسياساتها تجاه روسيا... ولكن بالدرجة الأولى، بطبيعة الحال، على التوقعات المتعلقة بآليات تسوية الصراع حول أوكرانيا.

تحريك قنوات الاتصال

مع تكرار الإعلان في موسكو عن استعداد مباشر للجلوس إلى طاولة مفاوضات شاملة مع فريق ترمب، تبحث كل الملفات المتراكمة بين الطرفين، وتتوّج تفاهمات على القضايا الرئيسية، فضّل الكرملين تجنب التعليق مباشرة على كثير من التحركات الصارخة للرئيس الأميركي، في مسعى لتقدير آفاق تطورها أولاً، وأيضاً معرفة مستوى وآليات ردات الفعل عليها.

لكن في الشأن الأوكراني بدا أن الأسابيع الأخيرة شهدت تحريك قنوات الاتصال بشكل قوي ومتسارع بين موسكو وواشنطن. وبعد مرور ساعات فقط على إعلان ترمب أن الاتصالات مع الكرملين «تجري بنشاط»، ووصفها بأنها «مفاوضات بناءة»، أكّد الناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف استئناف عمل قنوات حوار على مستويات عدة، لتشكل هذه الخطوة الأولى العملية التي يجري تنفيذها على أرض الواقع، وكانت متوقعة منذ فوز ترمب في الانتخابات.

بيسكوف قال إن «الاتصالات بين روسيا والولايات المتحدة عبر الوزارات المختلفة قد تكثفت». ومن دون أن يعطي تقييمه لسير المفاوضات، قال الناطق إن الحوارات تجري على مستويات عدة. ومع التأكيد على أن الحوار الجاري مع واشنطن لا ينعكس حتى الآن على استعداد موسكو لفتح قنوات للتفاوض مباشرة مع أوكرانيا، فأكد أن «ديناميكيات العملية (العسكرية) الخاصة تظهر أن الاهتمام بالحوار السلمي يجب أن يأتي من جانب كييف».

الاشتراطات الروسية

هنا بدا أن أول الاشتراطات الروسية لإحراز تقدُّم يفضي إلى إحياء العملية السلمية حول أوكرانيا ينطلق من حسم الوضع حول «شرعية» الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإدارة المفاوضات. ومعلوم هنا أن موسكو تصرّ على أن زيلينسكي «لم يعد رئيساً شرعياً، وأنه وقّع في وقت سابق مرسوماً بحظر التفاوض مع موسكو. وهو ما يعني أنه يجب حل هذا الموضوع بظهور إدارة أوكرانية جديدة تتمتع بالشرعية، وتلغي المرسوم السابق قبل إطلاق عملية التفاوض. يكتسب هذا الجدل أهمية إضافية على ضوء تلميحات بعض أركان الإدارة الأميركية بضرورة إجراء انتخابات جديدة في أوكرانيا قبل نهاية العام الحالي، ومثل تلك التصريحات صدرت عن قيادة حلف «ناتو» أيضاً.

ويبدو على هذه الخلفية أن الاتصالات الأولى بين الإدارة الأميركية وموسكو لا تتناول قضايا مثل ترتيب قمة قريباً، وأجندتها المحتملة، بل تتطرق أيضاً إلى بعض الجوانب التفصيلية المتعلقة بمساعي إعادة إطلاق مسار سلمي ينهي الحرب في أوكرانيا.

مستقبل أوكرانيا على الطاولة

العنصر الثاني المتعلق بأوكرانيا، الذي يبدو أنه يشكل مادة للنقاش في المرحلة التي تسبق لقاء ترمب الأول منذ عودته إلى البيت الأبيض مع الرئيس فلاديمير بوتين، يتبلور - كما يبدو - من خلال السعي إلى تحديد سقف مصالح واشنطن في الصراع المستمر منذ نحو 3 سنوات.

اللافت هنا أن التصريحات الأولى الصادرة عن البيت الأبيض لم تتكلّم عن الأراضي الأوكرانية «المحتلة»، ومعلوم أن موسكو تسيطر راهناً على نحو خُمس أراضي أوكرانيا. ويشترط الكرملين لأي تسوية أن يحصل على إقرار أوكراني وغربي بقرارات ضم مقاطعات أوكرانيا إلى روسيا. واستمرار الصمت الأميركي حيال هذا الملف يوجّه رسالة مريحة لموسكو حالياً.

غير أن إشارات ترمب الأولى اتجهت نحو ملف مختلف تماماً؛ ذلك أنه تطرّق إلى امتلاك أوكرانيا ثروات مهمة من المعادن النادرة، ورأى أن بوسع واشنطن مواصلة حماية أوكرانيا إذا حصلت على حقوق استثمار هذه الثروات الضخمة.

في هذا الملف ركّزت التعليقات الروسية على فكرة تحوّل الإدارة الأميركية من الكلام عن قضايا تتعلق بالأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة ولأوروبا، وعن فكرة «العدوان الروسي» لتغدو منحصرة أكثر في «المصالح التجارية المباشرة» للانخراط في هذا الصراع. وكانت ماريا زاخاروفا، الناطقة باسم «الخارجية الروسية»، قد أعربت عن أنها «غير مندهشة» من طلب مجلس الأمن القومي الأميركي الحصول على المعادن من أوكرانيا تعويضاً عن الدعم المالي الذي قدمته واشنطن لكييف.

زاخاروفا رأت أن هذا المسار «طبيعي»، وأنه «يجب أن يتحقق المرء من سعر الوجبة قبل أن يأكلها». بينما رأى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن مثل هذا الاقتراح سيعني أن كييف مستعدة لتسليم جميع الموارد الطبيعية الأوكرانية إلى «ملكية أسيادها الغربيين». أما بيسكوف فرأى أن خطط ترمب بشأن المعادن الأرضية النادرة تمثل عرضاً تجارياً «لشراء المساعدة»... وأن «أفضل شيء بالنسبة لواشنطن سيكون عدم مساعدة كييف على الإطلاق، ومن ثم المساهمة في إنهاء النزاع». والملاحَظ في التعليقات الروسية أنها لا تنتقد ترمب، بل وجهت سهامها إلى زيلينسكي «المستعد لبيع ثروات بلاده للغرب».

بنما وكندا ... بعيدتان جداً

في المستوى نفسه من تعمّد تحاشي توجيه انتقادات إلى الإدارة الأميركية في خطواتها المتسارعة التي شكلت استفزازاً لعدد من الأطراف في العالم، تجاهل الكرملين عمداً إعلانات ترمب الصارخة تجاه كندا وقناة بنما.

بل حتى وسائل الإعلام الحكومية الروسية تعاملت مع الموضوع من زاويته الخبرية من دون إبداء رأي في تأثيراته المحتملة. ونشرت بكثافة الخرائط التي وضعها ترمب على منصات التواصل الاجتماعي، وتظهر فيها كندا ملونة بألوان العلم الأميركي وتحتها عبارة الرئيس: «أوه كندا». ولقد قال خبراء روس إن كندا وبنما «بعيدتان جداً»، ومن المهم لموسكو أن تراقب فقط ما يجري.

أما موضوع قناة بنما فيبدو بالنسبة إلى موسكو «خلافاً تجارياً» تكلم عنه ترمب من خلال استنكاره «التعريفات الجمركية المُبالغ فيها» التي تفرضها بنما على عبور القناة. وللعلم، هذا أمر يخص الولايات المتحدة التي توفر أكثر من 72 في المائة من عائدات الممرّات عبر القناة.

وتقريباً التعاطي نفسه ملحوظ إزاء التهديدات تجاه المكسيك، وبملف العلاقة مع كندا. واللافت أن وسائل الإعلام الروسية شاركت الملياردير إيلون ماسك تهكّمه على رئيس وزراء كندا جاستن ترودو، الذي أعلن استقالته، الشهر الماضي ثم غرّد معارضاً خطط ترمب. ولكن من دون صدور أي تعليق رسمي، بدا أن موسكو تراقب بارتياح المشكلات الداخلية في الغرب. ولا تخفي أوساط روسية «شماتةً» بالسلطات في كندا التي كانت بين أوائل الداعمين لأوكرانيا في الحرب.

غرينلاند... التهديد الروسي

الأمر مختلف قليلاً مع التلويح الأميركي بضم غرينلاند... فهنا يظهر مباشرة نوع من التهديد المستقبلي على الأمن الروسي.

وعموماً، فإن ما وُصف بأنه التهديد المحتمل من جانب روسيا والصين هو على وجه التحديد ما أشار إليه ترمب أكثر من مرة عندما ناقش فكرته للاستيلاء على غرينلاند، وفي إطار تكراره الحديث عن رغبته في جعل أميركا «عظيمة مرة أخرى».

ذلك أنه منذ عام 2019، قال ترمب بضرورة ضم غرينلاند إلى الولايات المتحدة، لكن الدنمارك التي تمتلك الأراضي حالياً عارضت بيع الجزيرة. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2024، أثار ترمب المسألة مرة أخرى، وقال: «نحن بحاجة إلى غرينلاند لأغراض الأمن القومي. لقد قيل لي ذلك قبل فترة طويلة من ترشّحي». وهنا يعتقد الرئيس الأميركي الجمهوري أن غرينلاند كجزء من الولايات المتحدة يمكن أن تساعد في تجنب «التهديد الذي تشكله روسيا على العالم أجمع». وبحسب قوله فإن «روسيا والصين تزيدان من وجودهما في منطقة القطب الشمالي»، وهو يخشى من ذلك. وأضاف أن ابنه دونالد ترمب «الابن» سيزور غرينلاند شخصياً.

هنا أيضا لم تعلّق موسكو رسمياً على الحدث مع أنه يتعلق مباشرة بما وُصف بـ«التهديد الروسي»، إلا أن تعليقات برلمانيين روس أظهرت وجود نوع من القلق لدى أوساط روسية. وقال أندريه كارتابولوف، رئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما (النواب) إن «ضم غرينلاند للولايات المتحدة يشكل تهديداً عسكرياً لروسيا، لأن لدى الجزيرة إمكانية أن تصبح قاعدة استراتيجية لواشنطن في حالة نشوب صراع عابر للقارات».

ورأى البرلماني الروسي أيضاً أن السيطرة على الجزيرة التي تحتل مساحة كبيرة جداً في منطقة القطب الشمالي، «ليست الخيار الأفضل بالنسبة إلى روسيا... وبما أنه لا يوجد شيء مستحيل في العالم، وفي أي صدام قاري افتراضي مستقبلي، فإن هذا يشكل نقطة انطلاق جيدة لأميركا».

مع هذا، اللافت أن تعليقات المحللين ذهبت ليس باتجاه فحص الانعكاسات على روسيا وأمنها في حال فرض ترمب فعلاً السيطرة الأميركية على الجزيرة القطبية، بل باتجاه تأثيرات تحركات ترمب على مصير «ناتو» ككتلة متماسكة.

ورأى محللون أن استيلاء ترمب على المنطقة إذا كُتب له النجاح، سيكون «بمثابة نهاية للحلف» ليس فقط لكون الدنمارك، التي تعارض خطط ترمب بشدة عضواً فيه، بل أيضاً لأن أعضاء التكتل الآخرين سيدركون على الفور أنهم «جميعاً تحت التهديد». وهنا استعاد البعض مقولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما دعا أوروبا إلى «الاستيقاظ وتعزيز أمنها بشكل أكثر نشاطاً».

اتفاق على عالم متعدد

في المقابل، بدا أن بعض الأفكار التي تطرحها الإدارة الأميركية الجديدة تحظى بقبول عند الكرملين. ولقد امتدح الناطق الرئاسي بيسكوف تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بشأن التعددية القطبية، قائلاً إن تلك العبارة «تتوافق مع رؤية موسكو، وروسيا ترحب بذلك بالطبع». كما وصف حديث روبيو بشأن الاعتراف بالتعددية القطبية في العالم بأنه «مثير للاهتمام». وأيضاً في هذا السياق نفسه، لم تُخْف موسكو ارتياحها لقرار إدارة ترمب تقليص نشاط «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، التي تتهمها موسكو بدعم «الثورات الملونة» وبمحاولة التأثير أكثر من مرة على الحياة السياسية والاجتماعية داخل روسياً. وللعلم، هذه الوكالة حالياً من المنظمات الأجنبية المحظورة في روسيا.

ورأى مسؤولون روس أن خطوات ترمب لتفكيك الوكالة تحظى بترحيب في مناطق عدة في العالم، كون الوكالة، بحسب الناطقة باسم «الخارجية» ماريا زاخاروفا «تروّج للثورات، وتتحدى القيم المجتمعية، وتعمل على نشر الشذوذ الجنسي، والدفاع عن حقوق المثليين».

وهذا الموضوع يفسر أيضاَ «الارتياح» الروسي للتخلص من وكالة أنفقت ملايين الدولارات في روسيا التي تنتهج خطاً محافظاً اجتماعياً لنشر أفكار وُصفت بأنها «معادية للمجتمع الروسي». ركّزت التعليقات الروسية على تحوّل الإدارة الأميركية من الكلام عن قضايا الأمن إلى «المصالح التجارية»


مقالات ذات صلة

خلال لقاء تلفزيوني... ترمب يضغط زر «نهاية العالم النووي» الأحمر لطلب «الكوكاكولا»

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب (أ.ب) play-circle 02:06

خلال لقاء تلفزيوني... ترمب يضغط زر «نهاية العالم النووي» الأحمر لطلب «الكوكاكولا»

ضغط الرئيس الأميركي دونالد ترمب، خلال مقابلة أجراها مع شبكة «فوكس نيوز» الأميركية، على زر أحمر اللون على مكتبه في البيت الأبيض

شؤون إقليمية المرشد الإيراني علي خامنئي خلال إلقائه خطاباً بمناسبة رأس السنة الفارسية (النوروز) في طهران... 20 مارس 2025 (إ.ب.أ)

خامنئي: التهديدات الأميركية لإيران «لن تجدي نفعاً»

أكد المرشد الإيراني علي خامنئي، (الجمعة)، أن التهديدات الأميركية لبلاده «لن تجدي نفعاً»، بعدما حذَّر الرئيس الأميركي دونالد ترمب من تحرّك عسكري محتمل ضد إيران.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب (يسار) يستقبل جو بايدن لدى وصوله لحضور مراسم التنصيب في مبنى الكابيتول (أ.ف.ب)

ترمب يتحدث ساخراً عن «الشيء الوحيد الذي يعجبه» في بايدن

تحدث الرئيس الأميركي دونالد ترمب هذا الأسبوع عن الرئيس السابق جو بايدن، مشيدًا بقدرة سلفه الفريدة على النوم بسرعة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث إلى الملياردير إيلون ماسك في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

هل سيطّلع ماسك حقاً على خطط بشأن حرب محتملة مع الصين؟ ترمب يجيب

نفى الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، تقريراً بأنه سوف يتم إطلاع الملياردير إيلون ماسك، اليوم، على الخطط التي أعدّها الجيش الأميركي لمواجهة أي حرب مع الصين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ مبنى المحكمة العليا الأميركية في العاصمة واشنطن (أ.ف.ب)

ترمب يطالب المحكمة العليا بتقييد إصدار الأوامر القضائية التي تعرقل قراراته

قال ترمب في حسابه على موقع (تروث سوشيال) إن «أوامر وقف التنفيذ القضائية غير القانونية الصادرة عن قضاة اليسار الراديكالي قد تؤدي إلى دمار بلدنا».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الأزمة الاقتصادية في تونس... سيناريوهات متباينة

الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)
الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)
TT

الأزمة الاقتصادية في تونس... سيناريوهات متباينة

الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)
الرئيس قيس سعيّد (أ.ف.ب)

كشف عبد الجليل البدوي، الخبير الاقتصادي والمسؤول السابق في اتحاد نقابات العمال التونسية، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، عن أن «الأزمة الاقتصادية والمالية ومضاعفاتها الاجتماعية والأمنية أمر واقع»، داعياً السلطات إلى فتح مفاوضات مع النقابات والأطراف الاجتماعية والاقتصادية الوطنية لاحتوائها وتجنّب «الخطوط الحمراء».

مصالح رؤوس الأموال

وفي المقابل، البدوي عدّ أن بعض الأوساط في صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والاتحاد الأوروبي تتعمّد «تضخيم» أزمات تونس المالية والاقتصادية والاجتماعية، بهدف «ابتزاز» السلطات وفرض شروط جديدة عليها خدمة لمصالح العواصم الغربية، وبينها تلك التي لديها علاقة بملفات الهجرة وحرية تنقل المسافرين والسلع ورؤوس الأموال بين بلدان الشمال والجنوب.

البدوي رأى أيضاً أن الأزمات المالية الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها تونس، وعدة دول عربية وأفريقية اليوم، استفحلت منذ عدة سنوات بسبب «انصياع الحكومات المتعاقبة لـ(توصيات) صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، وبينها اتباع سياسات رأسمالية لا تتلاءم واقتصادات دول في طريق النمو». وبالتالي، وفق البدوي، كانت النتيجة سياسات «منحازة إلى مصالح أقليات من رؤوس الأموال، وفشلاً في تحقيق التوازن بين الجهات والفئات والقطاعات التنموية».

خطر «الانهيار الشامل»

غير أن خبراء ماليين واقتصاديين تونسيين آخرين، منهم عز الدين سعيدان، المشرف سابقاً على بنوك ومراكز دراسات اقتصادية ومالية عربية، حذّروا من «تجاوز الخطوط الحمراء» بسبب اختلال التوازنات المالية للدولة والبنوك التونسية العمومية وارتفاع أعباء نِسَب التداين.

وحذّر سعيدان، بالذات، من تراجع فرص «خلق الثروة» وترفيع الاستثمار الداخلي والدولي، مع ما يعنيه ذلك من استفحال «الأزمة الاقتصادية الهيكلية» الموروثة، وبروز «أزمة ظرفية» من مظاهرها التضخم المالي وتراجع فرص التشغيل ونقص مداخيل الدولة من الصادرات ومن الضرائب.

وفي سياق متصل، توقّف الكثير من وسائل الإعلام والملتقيات العلمية والاقتصادية أخيراً عند تحذيرات وجّهتها أطراف تونسية وأجنبية من سيناريوهات «استفحال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بشكل غير مسبوق» في تونس. واستدلّت هذه الجهات بالإحصائيات الرسمية التي تقدّمها تقارير البنك المركزي والمعهد الوطني عن الإحصاء، والتي تكشف «مزيداً من العجز المالي والتجاري والفوارق بين الطبقات...».

مقر البنك المركزي التونسي (غيتي)

وأعاد هؤلاء إلى الأذهان ما أورده تقرير صدر قبل نحو سنتين في صحيفة «نيويورك تايمز» عن «اتجاه الاقتصاد التونسي نحو الانهيار». حقاً، كان ذلك التقرير قد أورد أن تونس «تعاني فشلاً اقتصادياً» بسبب سوء التسيير وتداعيات جائحة «كوفيد-19» والحرب الدائرة في أوكرانيا، التي ضاعفت حجم نفقات الدولة تحت عنوان تمويل وارداتها من المحروقات والحبوب، وحرمتها من مداخيل نحو مليون سائح روسي وأوكراني كانوا يزورون البلاد سنوياً.

ديون المؤسسات العمومية المفلسة

ويستدل الخبراء التونسيون والأجانب الذين يحذّرون من استفحال الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الحالية بتقارير أصدرها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وحذّرت بدورها من «تضخّم نسبة أجور العاملين في القطاع العمومي التي تبتلع نحو 18 في المائة من الناتج المحلي، وهي من أعلى النسب في العالم».

بل تزداد التحديات بالنسبة إلى السلطات بسبب بروز مثل هذه الإحصائيات في وقت تزايدت فيه احتجاجات النقابات على بعض القرارات «الموجعة» التي اتخذتها الحكومة، وبينها تجميد المفاوضات الاجتماعية حول زيادات الأجور ومنح التقاعد والتوظيف.

ولقد نبّهت المصادر نفسها أيضاً من تداعيات إخفاق الحكومات المتعاقبة في البلاد خلال السنوات الـ15 الماضية في تسوية معضلة ديون الشركات العمومية المفلسة التي تكلف الدولة نحو 40 في المائة من الناتج المحلي، في حين تمثّل أعباء دعم المواد الغذائية والمحروقات ما بين 8 و10 في المائة منه. ويُضاف إلى ما سبق، أن الأوضاع تغدو «أكثر خطورة» -وفق المصادر ذاتها- بسبب معضلة عجز الميزان التجاري وتراجع قدرة الصادرات على تغطية الواردات، على الرغم من الضغط الكبير الذي تمارسه مؤسسات الحكومة والبنك المركزي على حركة التوريد، بما في ذلك بالنسبة إلى الأدوية وقطع الغيار والمواد الخام التي يستحقها المصنّعون والمستثمرون.

مخاطر وتحذيرات

في خضم ذلك، أعد الخبيران الاقتصاديان التونسيان حمزة المؤدّب وهاشمي علية، والخبير اللبناني إسحاق ديوان، تقريرَيْن لفائدة مؤسسة دولية عن «المخاطر الاقتصادية والسياسية الاجتماعية التي تهدّد تونس». واستخلص الخبراء الثلاثة أن «تونس تعيش منذ عام 2011 بما يتجاوز إمكاناتها».

إذ سجل هؤلاء الخبراء أن القروض والمساعدات الخارجية تدفّقت إلى البلاد بعد الانتفاضة الشبابية والشعبية عام 2011، «لدعم عملية الانتقال السياسي الديمقراطي»، وقدّرت تلك «المساعدات» بنحو 20 مليار دولار خلال العقد الماضي. إلا أن عوامل عديدة أدت إلى تسبّب المليارات التي حصلت عليها الدولة بإحداث «طفرة استهلاكية غير مستدامة»، مقابل تراجع القدرة الإنتاجية للبلاد بسبب غياب الاستقرار السياسي وانعدام توازن الاقتصاد الكلّي، فكانت الحصيلة ازدياد إمكانية حدوث «انهيار مالي خطير».

ومن ثم، طالب الخبير الهاشمي علية ورفيقاه بـ«إصلاحات للنظام السياسي التونسي، كي يغدو قادراً على تفادي النتائج الكارثية لأزمة موروثة ازدادت تعقيداً وتفاقماً».

«الإصلاحات الموجعة»

في المقابل، يحذّر الخبير رمضان بن عمر، الناطق الرسمي باسم «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» من المخاطر التي تحفّ بـ«تطبيق تدابير إصلاحية قاسية وموجعة قد تؤدّي إلى اندلاع أزمة اجتماعية سياسية»، على الرغم من تحذيرات الخبراء الماليين التي تورد أن «التلكؤ في تنفيذ الإصلاحات سيفضي على الأرجح إلى حدوث انهيار اقتصادي ومالي واضطرابات اجتماعية وأمنية في المستقبل القريب».

وفي السياق ذاته، يدعو الأمين العام لـ«الاتحاد العام التونسي للشغل»، نور الدين الطبوبي، ورفاقه في القيادة النقابية العمالية إلى القطع مع سياسات «المماطلة وكسب الوقت»، وإلى تنظيم حوار وطني اجتماعي-اقتصادي-سياسي يسفر عن تعزيز «الثقة في مشروع وطني يُعدّ مقبولاً سياسياً، ويستطيع النهوض بالبلاد نحو مستقبلٍ واعد».

نور الدين الطبوبي (رويترز)

وضع صعب... ولكن

في هذه الأثناء، حذّر وزير التجارة التونسي السابق والخبير الاقتصادي، محسن حسن، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» من «الإفراط في تضخيم مؤشرات الأزمة الاقتصادية والمالية في البلاد»، غير أنه حثّ على الإقرار بوجود أزمة اقتصادية ومالية، وطنياً وقطاعياً، تحتاج إلى إجراءات فورية للإصلاح والتدارك، بما في ذلك في قطاعات الزراعة والتجارة والخدمات. ومن جهته، لفت الخبير الاقتصادي والأكاديمي، رضا الشكندالي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الكلام عن «انهيار» اقتصاد تونس «مبالغ فيه». ورأى أن تونس «ليست في مرحلة انهيار اقتصادي اجتماعي شامل، وإن كانت تعيش أزمة مالية تعمّقت مع تراجع الموارد المالية الخارجية، وتعثّر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية التي تقرض بنسب فائض منخفضة نسبياً». ومع إقرار الشكندالي بأن «الوضع الاقتصادي متأزم وخطير»، فإنه نبه إلى ضرورة تجنّب «المبالغات» والبعد عن «التقييمات المتشائمة جداً التي تُوحي بقرب الوصول إلى حالة انهيار شامل».

تسديد الديونوسط هذه المناخات، نوّه الرئيس التونسي قيس سعيّد، خلال جلسة عمل جديدة مع محافظ البنك المركزي فتحي زهير النوري، بـ«نجاح الدولة في الإيفاء بالتزاماتها الدولية وتسديد معظم ديونها»، واعترض على «تضخيم» مشكلات البلاد والصعوبات الاقتصادية والمالية التي تواجهها.

وأورد بلاغ رسمي لرئاسة الجمهورية بأنّ «تونس تمكّنت خلال يناير (كانون الثاني) الماضي من تسديد خدمة الدين العمومي بنسبة 40 في المائة من مجموع خدمة الدين العمومي المتوقعة لكامل عام 2025. ونجحت أيضاً في السيطرة على نسبة التضخم في حدود 6 في المائة بعدما كانت في العام السابق 7.8 في المائة. وتمكّنت من تحقيق استقرار ملحوظ لسعر صرف الدينار مقابل أبرز العملات الأجنبية في نهاية سنة 2024».

ومجدّداً، انتقد الرئيس سعيّد الخبراء الذين يطالبون بـ«الرضوخ لشروط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والأطراف المانحة الدولية». وذكّر بأن تلك الشروط تسبّبت مراراً في اضطرابات اجتماعية وأمنية وسياسية وصدامات عنيفة مع النقابات والعاطلين عن العمل منذ سبعينات القرن الماضي.

كذلك، أصدر الرئيس التونسي أوامر إلى الحكومة والبنك المركزي بالمضي قدماً في سياسة «الاعتماد على الذات» و«الموارد الذاتية للتمويل»، والتحرر من «إملاءات» الصناديق الدولية ومؤسسات التصنيف الائتماني العالمية.

معضلة «التصنيفات» والقطيعة وهنا أثار الخبراء تقييمات متباينة لسياسة «القطيعة» مع صندوق النقد الدولية والمانحين، وأيضاً مع مؤسسات «التصنيف الائتماني» العالمية، وبينها وكالة «موديز» التي خفّضت تصنيف تونس خلال السنوات الماضية، مما أدّى إلى امتناع المانحين الدوليين التقليديين عن منح قروض للحكومة بنسب فائدة منخفضة بحجة غياب «ضمانات مالية وسياسية كافية».

ومع أن «موديز» حسّنت يوم 28 فبراير (شباط) الماضي نسبياً التصنيف الائتماني لتونس من «Caa2» إلى «Caa1»، فإنها أبقت على ملاحظاتها «السلبية». وحول هذه النقطة، رحّب الخبير بسام النيفر بالخطوة، وأورد أن عام 2024 كان عاماً قياسياً في سداد الديون الخارجية للدولة. وتوقع أن يكون عام 2027 عام «الانفراج الشامل».

إلا أن رضا الشكندالي يرى أنه على الرغم من هذا التحسّن في التصنيف فلا تزال تونس مصنّفة «دولة ذات مخاطر ائتمانية عالية جداً مع عجزها عن سداد الديون الخارجية قصيرة الأجل».

وأوضح أنه يلزمها التقدّم 6 درجات كاملة في تصنيف «موديز»، كي تخرج من المنطقة الحمراء، وهي «درجة المضاربة»، وحتى تحظى بثقة المستثمرين في السوق المالية الدولية. الحكومة والبنك المركزي يؤكدان أن الوضع تحت السيطرة