فترة مادورو الثالثة في فنزويلا مهدّدة برياح واشنطن

مع توقّع فترة عصيبة لليسار في أميركا اللاتينية

من حفل تنصيب مادورو (أ.ب)
من حفل تنصيب مادورو (أ.ب)
TT
20

فترة مادورو الثالثة في فنزويلا مهدّدة برياح واشنطن

من حفل تنصيب مادورو (أ.ب)
من حفل تنصيب مادورو (أ.ب)

الاتهامات التي وجهتها المعارضة للنظام الفنزويلي بتزوير نتائج الانتخابات أكّدها المراقبون الدوليون المستقلون، مثل «مركز جيمي كارتر» الأميركي الذي يتمتع بسمعة حيادية عالية، وكان النظام دعاه لمتابعة العملية الانتخابية ومراقبتها، منوهاً بما له من مصداقية. لكن عندما أعلن المركز المذكور أنه لا يمكن اعتبار الانتخابات ديمقراطية، وأن النتائج الرسمية المعلنة ليست نزيهة، شنّ النظام عليه حملة واتهمه بالكذب، ولم تنفع جميع الاحتجاجات الإقليمية والدولية في منع الاحتفال بتنصيب مادورو التي قاطعتها معظم الدول الديمقراطية.

مضاعفة العقوبات

يذكر أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي قرّرت مضاعفة العقوبات المفروضة على قيادات النظام الفنزويلي الذي بدت عزلته الدولية والإقليمية واضحة في احتفال التنصيب الذي لم يحضره سوى الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل والنيكاراغوي دانيال أورتيغا. وبعد عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، ومعه فريق من «صقور» اليمين، يتوقع أن تواجه القوى اليسارية في أميركا اللاتينية فترة عصيبة.

وحقاً، حتى بعض الأنظمة اليسارية أدانت ما وصفته بانتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها النظام في فنزويلا. إذ صرّح الرئيس التشيلي غابريال بوريتش قائلاً: «من موقع اليسار أقول لكم إن حكومة مادورو ديكتاتورية»، وأعقبت تصريحاته مواقف مماثلة صدرت عن مسؤولين في الحكومتين البرازيلية والمكسيكية.

في أي حال، شهدت بداية الولاية الثالثة لمادورو تصعيداً ملحوظاً في «الخطاب الحربي» للنظام، سبقته حملة واسعة من القمع السياسي ومحاصرة الاحتجاجات الشعبية التي كانت تنظمها المعارضة اليمينية، وإطلاق التهديدات ضد قياداتها. وبلغ التوتر منسوباً عالياً عشية التنصيب عندما ألقت الأجهزة الأمنية القبض على زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، قبل إطلاقها سراحها بعد ساعات، في ظروف ما زال الغموض يكتنفها حتى الآن.

كل هذه التطورات حالت دون تنفيذ مرشح المعارضة إدموندو غونزاليس أورّوتيا - الذي اعتبرته دول عدة فائزاً في الانتخابات وأخرى رئيساً منتخباً - وعده بالرجوع إلى كاراكاس لتسلم مهامه رئيساً جديداً في الموعد المحدد. وكان غونزاليس قد اتهم الرئيس نيكولاس مادورو بتنفيذ «انقلاب»، وأكّد أنه سيعود إلى فنزويلا لمواصلة النضال من أجل عملية انتقال سلمي للسلطة «متى توافرت الضمانات الكافية لأمنه والظروف المناسبة».

إحباط الداخل... ودور الخارج

لكن، بينما تسود أجواء الإحباط بين القواعد الشعبية المعارضة التي اعتادت على مثل هذه الظروف، دعت قيادات معارضة المجتمع الدولي إلى مضاعفة الضغوط على النظام؛ لمنعه من المضي في حملة القمع والاعتقالات، التي أطلقها منذ أسابيع وكبح سلسلة التجاوزات التي تمارسها الأجهزة الأمنية والقضائية.

من جهة ثانية، لم تسلم المعارضة نفسها هذه المرة من انتقادات قواعدها الشعبية التي اتهمتها برفع منسوب التفاؤل بسقوط النظام إلى مستويات غير واقعية، وأيضاً الرهان على تحرك إقليمي ودولي فاعل لم تظهر له أي بوادر. وللعلم، اكتفى البيان المشترك الذي صدر عن وزراء خارجية «مجموعة الدول الصناعية السبع» بالقول: «إن تسلّم نيكولاس مادورو مقاليد السلطة رئيساً لفنزويلا لا شرعية له»، بينما طالب رئيس كولومبيا الأسبق اليميني ألفارو أوريبي بتدخل عسكري دولي «يجتثّ زمرة الطغاة من السلطة ويعيدها إلى أصحابها الشرعيين». لكن هذه المطالبة أدت إلى حملة اعتقالات واسعة في أوساط القيادات المعارضة الفنزويلية بتهمة «التواطؤ مع جهات خارجية لقلب النظام بالقوة»، بينما كانت القوات المسلحة الفنزويلية ترفع حالة التأهب وتقرر إقفال الحدود مع كولومبيا المجاورة.

في سياق متصل، على صعيد ضيق حكومات يسارية في القارة من الوضع في فنزويلا، أعلن الرئيس الكولومبي غوستافو بترو أن الحكومة الفنزويلية تُمعن في تجاوزاتها وقمعها ضد رموز المعارضة السياسية، لكنه دافع عن امتناعه عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع كاراكاس، قائلاً: «الإبقاء على علاقاتنا الدبلوماسية مع فنزويلا لا يعني الاعتراف بشرعية الانتخابات، التي لم تكن حرّة منذ بداياتها عندما قرّر النظام حرمان زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو من الترشح».

الحكومة البرازيلية التي يقودها لويس إيناسيو لولا - وهي النظام اليساري الوازن حالياً في أميركا اللاتينية - قرّرت بدورها ألا تعترف برئاسة مادورو، لكنها رفضت أيضاً الاعتراف برئاسة مرشح المعارضة. ومن ثم، دعت القوى السياسية الفنزويلية إلى استئناف الحوار لتسوية الخلافات، معربة عن استعدادها - إلى جانب فرنسا - لتسهيل هذا الحوار تمهيداً لمصالحة نهائية. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد بحث مع نظيره البرازيلي لولا في مكالمة هاتفية طويلة الوضع في فنزويلا، واتفقا على مضاعفة جهود الوساطة لتيسير عودة الاتصالات بين مادورو والمعارضة من أجل العودة إلى الديمقراطية وتحقيق الاستقرار، وطالبا النظام بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين.

تصعيد واشنطن

في موازاة ذلك، قبل تولي ترمب، أعلنت الإدارة الأميركية السابقة بعد ساعات من تنصيب مادورو، رفعها مكافأة المساعدة على اعتقال كل من الرئيس الفنزويلي ووزير الداخلية ديوسادو كابيو إلى 25 مليون دولار، كما رفعت أيضاً قيمة المكافأة للقبض على وزير الدفاع فلاديمير بادرينو إلى 15 مليون دولار.

ويذكر أن وزير الخارجية الأميركي (السابق) أنطوني بلينكن قال إن تنصيب مادورو رئيساً «ليس شرعياً»، وطالب بتنصيب مرشح المعارضة إدموندو غونزاليس وإطلاق عملية انتقال سلمية وديمقراطية للسلطة. كذلك، فرضت الحكومة الكندية عقوبات على 14 من كبار موظفي الحكومة الفنزويلية بسبب «مشاركتهم او دعمهم انتهاكات لحقوق الإنسان».

«عُزلتا» مادورو تعزّزان مكانة صعب

الأوساط الدبلوماسية المراقبة من كثب الوضع الداخلي الفنزويلي ترى أن العزلة الإقليمية والدولية المتزايدة التي يتعرّض لها النظام، توازيها عزلة أكبر على الصعيد الداخلي يعاني منها مادورو الذي لم يعد يثق سوى بحفنة ضئيلة من الأوفياء لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة. وتعتقد هذه الأوساط أن النظام لن يسقط إلا من الداخل، بفعل التصدّع الذي يتنامى بين قياداته وشخصياته البارزة التي تسعى للحصول على ضمانات بعد انهياره.

من الأوفياء الذين يتمتعون بثقة مادورو التامة، المدّعي العام طارق صعب، الذي قرر الرئيس أخيراً تكليفه ترؤس عملية الإصلاح الدستوري الذي كان أعلن عنه قبل الانتخابات الرئاسية ويريد الآن تسريع وتيرته من غير أن يكشف عن تفاصيل مضمونه أو أهدافه. ووفق كلام مادورو: «طلبت إلى طارق وليام صعب تولي رئاسة اللجنة الوطنية للإصلاح الدستوري استناداً إلى خبرته القانونية الطويلة، ودفاعه عن حقوق الإنسان، وبصفته أصغر أعضاء اللجنة الرئاسية التي شكَّلها القائد هوغو تشافيز لوضع الدستور عام 1998. وهو مؤهل أخلاقياً ومهنياً لأداء هذه المهمة على أكمل وجه».

روبيو مع دونالد ترمب (أ ف ب)
روبيو مع دونالد ترمب (أ ف ب)

التعليق الأول الذي صدر عن المعارضة على هذه الخطوة كان القول إن طارق صعب هو المسؤول عن آلاف الاعتقالات السياسية، وعن «فبركة» عشرات ملفات الاتهام ضد الزعماء المناهضين للنظام. وبحسب زعيمة المعارضة ماريا ماتشادو «دخل مادورو مرحلة الهروب إلى الأمام، وأصبح التغيير حتمياً... وهو آتٍ عاجلاً أو آجلاً».

ختاماً، يذكر أن الزعيم السابق هوغو تشافيز كان قد لجأ في عام 2007 إلى تعديل الدستور لاحتواء الاحتجاجات الطلابية التي اشتعلت في معظم أنحاء فنزويلا، لكنه خسر رهان الاستفتاء الذي كان أولى الهزائم التي مُني بها، حين كان يحاول إرساء نظام شعبي لا يضع حداً لعدد الولايات الرئاسية.


مقالات ذات صلة

هل يكون انحدار «تسلا» مدفوعاً بانحيازات إيلون ماسك السياسية؟

خاص الرئيس دونالد ترمب يستمع إلى إيلون ماسك وهو يتحدث في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض (أ.ب)

هل يكون انحدار «تسلا» مدفوعاً بانحيازات إيلون ماسك السياسية؟

كان لتحالف إيلون ماسك مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وانغماسه عميقاً في السياسات الداخلية والخارجية، نتائج قد تكون مقلقة اقتصادياً بالنسبة للشركة ولماسك.

إيلي يوسف (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث بينما يستمع لاعب الغولف تايغر وودز خلال حفل استقبال بمناسبة شهر تاريخ السود في الغرفة الشرقية بالبيت الأبيض... الخميس 20 فبراير 2025 في واشنطن (أ.ب)

ترمب يثير فكرة الترشح لولاية ثالثة «غير دستورية» مجدداً... وأنصاره: نعم لأربع سنوات أخرى

قالت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أثار، الخميس، مجددا فكرة ترشحه لولاية ثالثة، وذلك على الرغم من أنها فكرة تتعارض مع الدستور

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد صور افتراضية للعملات المشفرة في هذا الرسم التوضيحي (رويترز)

صناعة العملات المشفرة تسعى لفرض نفوذها في واشنطن

منذ تولي ترمب منصبه حقّقت صناعة العملات المشفرة بعض المكاسب المبكرة؛ مثل إلغاء هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية قاعدة محاسبية مثيرة للجدل.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب على باب الطائرة الرئاسية «غير فورس ون» (أ.ب) play-circle

مؤلف كتاب «الانتقام»: تهديد إيران باغتيال ترمب كان أكثر خطورة مما كشف عنه

ذكر موقع «أكسيوس» الأميركي أن تهديد إيران باغتيال دونالد ترمب خلال حملته الانتخابية في عام 2024 كان أكثر خطورة بكثير مما نشر.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ دونالد ترمب رئيس الولايات المتحدة يوقع أمراً تنفيذياً (أ.ب)

معارضة تعاني الإرهاق والخيبة في مواجهة ترمب

منذ انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني)، خصوصاً منذ تنصيبه الاثنين، يكافح معارضوه لإسماع صوتهم في خضم خيبة أمل.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

توقّعات وتخمينات... حول من سيأتي بعد فرنسيس؟


ساحة القديس بطرس في الفاتيكان
ساحة القديس بطرس في الفاتيكان
TT
20

توقّعات وتخمينات... حول من سيأتي بعد فرنسيس؟


ساحة القديس بطرس في الفاتيكان
ساحة القديس بطرس في الفاتيكان

السـؤال الكبير الذي يرتسم، اليوم، في أفق الكنيسة الكاثوليكية لم يعد حول صحة البابا فرنسيس، بقدر ما هو حول ماذا بعد رحيله. ماذا سيبقى من إرث هذا الحبر الأعظم الذي كسر عشرات التقاليد التي كانت راسخة في السدة البابوية منذ قرون، وتحوّل بسرعة إلى قشعريرة سَرَت في جسد الكنيسة المترهلة تحت وطأة الجمود والفضائح والدسائس؟ ماذا سيكون موقف الكنيسة بعده من المهاجرين الذين يشكلون أبرز ظواهر هذا العصر، هو الذي غسل أرجلهم، أفارقة ومسلمين ومعتقلين؟

أحد الكرادلة المقرّبين من برغوليو يقول: «ماذا بعد فرنسيس؟ ثمة تغييرات عميقة حصلت منذ وصوله، ورياح جديدة تهبّ على الكنيسة وانفتاح غير مسبوق في أوساط الكوريا، لكن ليس واضحاً ما يمكن أن يحصل مع البابا الجديد». ويضيف: «الإجابة عند الناس وفي الذهنيات. لقد شهدنا مناقشات صارخة وخيبات متتالية، وعلينا أن ننتظر ونفكّر في الأمد البعيد».

في غضون ذلك، يستمر ماراثون المصلّين أمام مستشفى «جيميلّي» في العاصمة الإيطالية روما على وقْع البيانات الطبية المقتضبة التي تفيد عن وضع البابا الصحي. وتُواصل الدوائر الفاتيكانية أنشطتها كالمعتاد تحت العين الساهرة لوزير خارجية الكرسي الرسولي الكاردينال بارولين، الذي يتواصل يومياً مع فرنسيس. لكن ثمة مهامّ محددة لا يمارسها سوى البابا، مثل تعيين الأساقفة والكرادلة، والموافقة على إجراءات التطويب والتقديس وتوجيه المواعظ إلى المؤمنين مرتين في الأسبوع. وعندما يتعذّر على البابا أن يمارس مهامه حضورياً، تنتقل إدارة الكنيسة إلى كوريا روما، تحت إشراف وزير الخارجية الذي يدير الشؤون الدبلوماسية والإدارية، ويقوم مقام «رئيس حكومة الفاتيكان».

وفي أروقة الفاتيكان المُسربلة بالأسرار، بدأت تُسمَع التكهنات والترجيحات حول هوية البابا المقبل الذي يعتقد البعض أنه يجب أن «يعود» إيطالياً بعد ثلاثة باباوات «أجانب»، في حين يرى آخرون أن ثمة حظوظاً كبيرة في أن يكون أميركياً أو ناطقاً بالإسبانية يمثل ما لا يقل عن 40 في المائة من الكاثوليك في العالم.

كلمة أخيرة... لا بد منها في تقييم تجربة البابا فرنسيس، هي أن البعض يأخذون عليه أنه في بعض الملفات الشائكة، مثل التحرّش الجنسي، لم يذهب بعيداً في التدابير التطهيرية وإجراءات التحقيق والملاحقة وكشف الحقائق. وهذا، ربما لمعرفته بجسامة هذا الملف وتداعياته الضخمة المحتملة على صعيد السُّمعة والتعويضات المالية. ولكن، يقول المنتقدون أيضاً إن «الخطوات الخجولة»، والتعيينات التي قام بها، لم تمسّ البنية الأساسية. وبالتالي، كلها قد تذهب هباءً بعد رحيله إذا قرّر خلفُه ألا يتابعها والسير على خطاه.