بداية متعثرة لحكومة بايرو... ومطالبات باستقالة ماكرون

رئيس الوزراء الفرنسي يراهن على اليمين المتطرف لإنقاذه من السقوط

حكومة بايرو (رويترز)
حكومة بايرو (رويترز)
TT

بداية متعثرة لحكومة بايرو... ومطالبات باستقالة ماكرون

حكومة بايرو (رويترز)
حكومة بايرو (رويترز)

دخلت فرنسا منذ قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان) يوم 9 يونيو (حزيران) 2024 في أزمة سياسية غير مسبوقة، حيث أفضى غياب الغالبية البرلمانية وهشاشة التحالفات إلى سقوط حكومة ميشال بارنييه بعد اقتراع لحجب الثقة بعد 3 أشهر فقط من تشكيلها. على أن الوضع لا يبدو أحسن حالاً بعد الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة فرنسوا بايرو، فعلى الرغم من تقديم الإعلام الفرنسي لشخصية رئيس الوزراء على أنه «رجل المصالحة» و«الوحيد القادر على تحقيق الوفاق الوطني والسياسي المحنّك الذي يتكلّم إلى جميع الفصائل السياسية»، فإن خطواته الأولى بدت متعثرة. وبعد سلسلة مشاورات مع المعارضة، فشل بايرو في توسيع القاعدة السياسية التي يستطيع الارتكاز عليها لدعم أداء حكومته، وبالأخص في اتجاه اليسار، كذلك أثار موجة كبيرة من الانتقادات بسبب هفوات سياسية ارتكبها منذ اللحظات الأولى لتعيينه، ففي أول مساءلة له أمام البرلمان واجه رئيس الحكومة الجديد غضب نواب المعارضة الذين هاجموه بشّدة بسبب قراره الالتحاق جواً باجتماع المجلس البلدي لمدينة بو - التي يشغل فيها منصب العمدة - بدل الانضمام إلى خلية الأزمة لمتابعة تطور الأوضاع في جزيرة مايوت بعد الإعصار المدمر الذي ضرب الجزيرة الواقعة بجنوب غربي المحيط الهندي.

على الرغم من وعود الانفتاح التي لوّح بها رئيس الوزراء الفرنسي الجديد فرنسوا بايرو، حين أعلن أنه سيعمل على تشكيل فريق حكومي متماسك ومنفتح - قدر الإمكان - يتكوّن من شخصيات قادرة على تجنُّب الرقابة، فإن واقع الحسابات السياسية جعل رئيس الوزراء يتجنّب المفاجآت، ويشكل حكومة يمينية من شخصيات سياسية معروفة لدى الفرنسيين... واضعاً نصب عينيه نهجاً واحداً هو إرضاء اليمين المتطرّف لتفادي السقوط.

لقد أعاد بايرو تعيين ما يقرب من 19 وزيراً ووزير منتدب من الحكومة السابقة من أصل 35، بينهم وزير الداخلية برونو ريتايو المعروف بمواقفه اليمينية الصارمة. وهو صاحب مشروع قانون جديد للهجرة يهدف إلى تقليص عدد المهاجرين، وتنفيذ أوامر مغادرة الأراضي الفرنسية، وقطع المساعدات الطبية على المهاجرين غير الشرعيين.

كذلك أبقى بايرو على وزير الخارجية جان نويل بارو في حقيبة الخارجية، وسباستيان لوكورنو في وزارة الجيوش (الدفاع)، ورشيدة داتي في الثقافة. وهذا، إضافة لأنياس بانيه روناشيه وزيرة التحول البيئي والصيد البحري، التي كانت قد شغلت مهام وزارية سابقة في حكومة إليزابيث بورن، ثم إن الحكومة ضمت أيضاً اليمينية كاترين فوتران على رأس حقيبة العمل والشؤون الاجتماعية... وكانت التحقت بفريق ماكرون في 2022.

ومن جهة ثانية، أعاد رئيس الوزراء الجديد إلى الواجهة أسماءً معروفة من المقرّبين للرئيس ماكرون، كوزير الداخلية السابق جيرالد دارمانان الذي كُلِّف بحقيبة العدالة، وهو شخصية جدلية بسبب تعرّضه لملاحقات قضائية بتهم التحرش والاغتصاب، ومواقفه المعادية للمهاجرين.

وأيضاً أعاد رئيسة الوزراء السابقة إليزابيث بورن، التي أوكل إليها حقيبة التربية والتعليم العالي. وبورن شخصية سياسية لاقت معارضة واسعة بعدما لجأت إلى إقرار قوانينها من خلال المادة 49.3 من الدستور، وبالأخص قانون المعاشات الذي يعارضه الغالبية الساحقة من الفرنسيين، كما أنها فور تسلُّمها المهام الوزارية أثارت بورن الاستياء من جديد حين أقّرت بأنها قبلت المنصب، لكنها ليست خبيرة في قطاع التربية.

وأخيراً، لمنصب وزير أقاليم ما وراء البحار، عّين بايرو رئيس الوزراء الأسبق إيمانويل فالس، الذي كان ترأس الحكومة في عهد الرئيس السابق الاشتراكي فرنسوا هولاند عام 2016، إلا أنه ترك عائلته السياسية، والتحق بحزب ماكرون عام 2017 أملاً في منصب وزاري.

استقبال بارد للحكومة الجديدة

الواقع أن المعارضة السياسية ووسائل الإعلام استقبلت تركيبة الحكومة الجديدة بكثير من الانتقاد وردود الأفعال السلبية؛ إذ وصفها موقع «ميديا بارت» المستّقل بـ«حكومة الموتى الأحياء (الزومبي)»، مضيفًا أن رئيس الوزراء الجديد «عاد إلينا بعد 10 أيام من تعيينه بحكومة مكوَّنة من شخصيات ماضيها غير مشرق» سبق أن تقلّدت مسؤوليات سياسية من دون أن تترك أثراً إيجابياً. ولفت المنتقدون إلى أن بايرو احتفظ بنصف أعضاء حكومة ميشال بارنييه رغم تعرُّضها لحجب الثقة، أما النصف الآخر فهو مكوَّن من شخصيات سياسية قديمة عادت إلى الواجهة بإيعاز ومباركة من اليمين المتطرف أمثال بروتو ريتايو. وتحت عنوان «حكومة بايرو: التكرار والبُعد عن وعود الانفتاح»، علّقت صحيفة «لوموند» على تركيبة الحكومة الجديدة بالقول: «لقد اختار رئيس الوزراء فرنسوا بايرو اللّجوء إلى شخصيات سياسية من الغالبية السابقة، وهي القاعدة المحدودة نفسها التي اعتمدها سابقاً ميشال بارنييه، وهذا لن يحمي الحكومة من السقوط». ومن جانبها، رأت صحيفة «لو فيغارو» أن حكومة بايرو «تعبّر عن فشل المصالحة الوطنية، فأداء بايرو لن يكون أحسن من أداء بارنييه؛ لأنه اكتفى بإتلاف الوسط واليمين، مستعيناً بشخصيات سياسية من الماضي».

المعارضة السياسية ووسائل

الإعلام استقبلت تركيبة الحكومة

الجديدة بالكثير من الانتقاد

حجب الثقة وارد

في هذا الإطار، يبدو أن رئيس الحكومة الجديد كان متفائلاً أكثر مما ينبغي حين أعلن عشية تسلُّم مهامه في قصر ماتينيون (قصر الحكومة) يوم 23 ديسمبر (كانون الأول) أنه «على يقين» بأن حكومته لن تتعرض لاقتراع حجب الثقة؛ لأن ما يلاحظه مراقبو الشأن الفرنسي يشير إلى العكس، ولا أحد أصبح يسأل هل سيكون حجباً للثقة، بل متى سيكون؟

وأول من عاد للتلويح بهذا السلاح هو الحزب الاشتراكي الذي كان قد وجّه إشارات إيجابية إلى رئيس الوزراء بإمكانية «منح الثقة» مقابل تقديم بعض التنازلات فيما يخص ملف المعاشات، لكن المباحثات لم تسفر عن شيء بعدما رفض بايرو مطالب الاشتراكيين، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين عيَّن في حكومته الجديدة غالبية من الشخصيات ذات التوجه اليميني. وعلى الرغم من وجود أسماء محسوبة «تاريخياً» على اليسار فهي حقاً لا تمثله في شيء، بما أنها شخصيات منشّقة كإيمانويل فالس، الذي تخلى عن الحزب الاشتراكي للالتحاق بالتيار الماكروني، أو فرنسوا رابسين الذي ترك الحزب منذ سنوات.

أوليفييه فور، الناطق الرسمي باسم الحزب الاشتراكي، أعرب عن استيائه، وهدّد بإسقاط الحكومة معلقاً «السيد بايرو لم يحترم ولا شرطاً من شروط اتفاقية عدم الحجب إنها حكومة من اليمين، بل من اليمين المتّشدد... وبعد اليوم لا يوجد لدينا سبب يمنعنا من إسقاطها». أما رئيس كتلة النواب الاشتراكيين، بوريس فالو، فكتب على منصة «إكس» ما يلي: «إنها ليست حكومة... إنها تحريض...». وكان لحزب الخضر الموقف نفسه، حين أعلنت زعيمته مارين توندولييه: «المفروض حين تتعرض حكومة للفشل، فإن العقل يملي علينا ألا نعيد الكرّة، لكن السيد بايرو أخذ الشخصيات نفسها، وأعاد تدويرها، ولهذا فهو يقترب يوماً بعد يوم من حجب الثقة».

في قبضة أنياب اليمين المتطرف

من جانب آخر، إذا كان فرنسوا بايرو قد اتخذ منعطف اليمين غير آبهٍ بتهديدات ائتلاف اليسار من الاشتراكين والخضر و«فرنسا الأبية»، فلأنه يُعمل على مساندة حزب اليمين المتطرف «التجمع الوطني» لإنقاذه من السقوط المرتقب؛ ذلك أنه أضافة إلى المؤشرات الإيجابية التي وُجهت له عبر إعلان رئيس «التجمع» جوردان بارديلا أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، تَبَيَّنَ أن تعيين أعضاء الحكومة الجديدة جرى باستشارة وموافقة من اليمين المتطرف.

ففي بيان نشره على «إكس» كشف كزافييه برتران، أحد كوادر حزب اليمين الجمهوري ووزير العمل السابق في حكومة نيكولا ساركوزي، أن بايرو عرض عليه منصب وزير للعدالة قبل أن يتراجع عن قراره بسبب معارضة مارين لوبان التي بينها وبين برتران خصومة قديمة. برتران أيضاً كشف عما دار بينه وبين رئيس الوزراء، مضيفاً أنه عرض عليه منصباً آخر هو وزير الزراعة، لكنه رفض لأنه لا يتشرف بالمشاركة في حكومة تعمل تحت سيطرة اليمين المتطرف. وبالتالي، إذا كانت هذه الحادثة تكشف عن مدى سيطرة اليمين المتطرف على توجهات الحكومة، فان البعض يتكلّم الآن عن «الفخ» الذي أوقع فيه بايرو نفسه؛ لأن الحسابات السياسية غير مضمونة العواقب، والسبب أن مارين لوبان شاركت مع ائتلاف اليسار في اقتراع حجب الثقة عن الحكومة السابقة رغم الضمانات التي قدمتها لبارنييه، وقد تعيد الكرّة مع بايرو. والدليل تصريحاتها الأخيرة على «إكس» بمناسبة احتفالات نهاية السنة، حيث توقعت أن يختار الشعب الفرنسي «في غضون أشهر قليلة طريقاً جديداً هو طريق الطفرة والانتعاش».

هذا الكلام فُسِّر على أنه توقع من زعيمة اليمين المتطرف سقوط الحكومة الجديدة، وإمكانية مشاركتها في السباق الرئاسي الذي تحلُم به منذ سنوات. وفعلاً، هذا ما صرّحت به لصحيفة «لو باريزيان» في حوار نُشر أخيراً قالت فيه إنها تستعد «لانتخابات رئاسية مبكرة، كإجراء احترازي، نظراً لهشاشة إيمانويل ماكرون». وعلى هذا رد المحلّل السياسي لويس دو غاكنال في مداخلة لقناة «سي نيوز» الإخبارية شارحاً أنه «من مصلحة لوبان إضعاف المؤسسات، لأن ذلك قد يعني استقالة الرئيس (ماكرون) وتنظيم انتخابات مبكرة مع إمكانية ترشحها الآن قبل أن تمنعها الأجندة القضائية. وفي حالة الفوز، فإنها ستتخلص من الملاحقات القضائية ومن تهم الاختلاس».


مقالات ذات صلة

عون رئيساً... يوقظ حلم الدولة والإصلاح

المشرق العربي جوزيف عون يؤدي القسم رئيساً للجمهورية اللبنانية أمام رئيس مجلس النواب نبيه بري في بيروت أمس (إ.ب.أ)

عون رئيساً... يوقظ حلم الدولة والإصلاح

انتخب البرلمان اللبناني قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي، ليوقظ توليه الرئاسة الأولى حلم

كارولين عاكوم (بيروت) علي بردى (واشنطن)
المشرق العربي السوري ـ الألماني أنس معضماني يلتقط صورة مع المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل قبل 12 عاماً (غيتي)

جيل اللجوء السوري في ألمانيا مشتت تجاه العودة

لم تتوقف فاتورة حكم نظام بشار الأسد في سوريا يوم رحيله عن السلطة؛ إذ لا تزال تداعياتها المُربكة ممتدة حتى خارج البلاد. فالسوريون من أبناء جيل اللجوء الذين

راغدة بهنام (برلين)
المشرق العربي فلسطينيون يشيعون قتلى سقطوا بغارة إسرائيلية على دير البلح بوسط قطاع غزة الخميس (إ.ب.أ)

حديث عن تقدم في مفاوضات «هدنة غزة»

أفادت مصادر فلسطينية قريبة من محادثات وقف إطلاق النار في غزة، أمس، بأن الوسطاء الأميركيين والعرب أحرزوا بعض التقدم في جهودهم الرامية للتوصل إلى اتفاق

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الولايات المتحدة​ جانب من مراسم جنازة كارتر بحضور الرؤساء الخمسة في واشنطن أمس (أ.ف.ب)

أميركا تودّع كارتر في جنازة حضرها 5 رؤساء

شارك أربعة رؤساء أميركيين سابقين إلى جانب الرئيس جو بايدن في جنازة وطنية للرئيس السابق جيمي كارتر، التي توجّت تكريماً استمر ستة أيام للحائز جائزة نوبل للسلام

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا الرئيس الأوكراني مع وزير الدفاع الأميركي (أ.ب)

زيلينسكي يدعو لإجبار روسيا على السلام

دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أمس، الحلفاء الغربيين لبلاده، إلى إرسال قوات إلى أوكرانيا بغية «إجبار روسيا على السلام»، وذلك وسط مخاوف من تضاؤل

«الشرق الأوسط» (رامشتاين (ألمانيا))

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.