تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

من خلفيات التاريخ إلى الدبلوماسية... ومن التجارة إلى الاستثمار

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
TT
20

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد الخريجي، وترأس الجانب الصيني نظيره نائب الوزير دنغ لي. وبحث الجانبان تطوير العلاقات الثنائية، مع مناقشة المستجدات التي تهم الرياض وبكين. يذكر أن العلاقات السعودية الصينية شهدت تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، إذ تعززت الشراكة بين البلدين على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وتعود العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية إلى عام 1990، عندما افتتحت سفارتا البلدين رسمياً في العاصمتين بكين والرياض. مع أن علاقات التعاون والتبادل التجاري بين البلدين بدأت قبل عقود. وعام 1979، وقّع أول اتفاق تجاري بينهما، واضعاً الأساس لعلاقات قوية مستمرة حتى يومنا هذا.

 

تُعدّ الصين اليوم الشريك التجاري الأكبر للمملكة العربية السعودية، وانعكست العلاقات المتنامية بين البلدين بشكل كبير على التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما؛ إذ أسهمت في وصول حجم التبادل التجاري إلى أكثر من 100 مليار دولار أميركي في عام 2023. تستورد الصين النفط الخام من السعودية بشكل رئيسي، وتعدّ المملكة أكبر مورد للنفط إلى الصين، إذ تصدر ما يقرب من 1.7 مليون برميل يومياً. ولقد تجاوزت الاستثمارات الصينية في المملكة حاجز الـ55 مليار دولار. وبحسب تقرير لـ«edgemiddleeast»، ضخّت الصين 16.8 مليار دولار في المملكة في 2023 مقابل 1.5 مليار دولار ضختها خلال عام 2022، استناداً إلى بيانات بنك الإمارات دبي الوطني، وهي تغطي مشاريع في البنية التحتية والطاقة والصناعات البتروكيماوية. وفي المقابل، استثمرت المملكة في عدد من المشاريع داخل الصين، منها الاستثمارات في قطاعات التكنولوجيا والنقل. واستضافت الرياض أيضاً في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام «مؤتمر الأعمال العربي الصيني» الذي استقطب أكثر من 3600 مشارك. وبعد أسبوعين فقط، أرسلت السعودية وفداً كبيراً بقيادة وزير الاقتصاد السعودي إلى مؤتمر «دافوس الصيفي» في الصين. وبالإضافة إلى هذا الزخم الحاصل، دعت الصين المملكة العربية السعودية كضيف شرف إلى «معرض لانتشو الصيني للاستثمار والتجارة» الذي أقيم من 7 إلى 10 يوليو (تموز) من هذا العام. وكانت وزارة الاستثمار السعودية حثّت الشركات على المشاركة بفاعلية في المعرض، والجناح السعودي المعنون «استثمر في السعودية». كذلك وقّعت السعودية والصين اتفاقيات متعددة لتعزيز التعاون في قطاع الطاقة، بما في ذلك مشاريع الطاقة المتجددة. وتسعى المملكة لتحقيق «رؤية 2030» التي تهدف إلى تقليص الاعتماد على النفط وتعزيز استخدام الطاقة المتجددة، في حين تسعى الصين إلى تأمين إمدادات الطاقة اللازمة لتنميتها الاقتصادية. وبالفعل، جرى أخيراً توقيع اتفاقية بين شركة «تي سي إل تشونغ هوان» لتكنولوجيا الطاقة المتجددة الصينية، وشركة توطين للطاقة المتجددة، وشركة «رؤية للصناعة» السعوديتين، لتأسيس شركة باستثمار مشترك، من شأنها دفع توطين إنتاج الرقائق الكهروضوئية في المملكة العربية السعودية. ووفقاً للاتفاقية، يبلغ إجمالي حجم الاستثمار في المشروع المشترك نحو 2.08 مليار دولار. التعاون السياسي والدبلوماسي تتعاون المملكة والصين على مستوى عالٍ في القضايا الدولية والإقليمية. وتستند العلاقات السياسية بين البلدين إلى احترام السيادة الوطنية والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية. كذلك تتبادل الدولتان الدعم في المحافل الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، ولقد لعبت الصين دوراً محوَرياً في الوساطة بين السعودية وإيران، ما أدى إلى تحقيق نوع من التوافق بين البلدين، أسهم في توطيد الاستقرار، وقلّل من حدة التوترات، وعزّز من الأمن الإقليمي. الزيارات الرسمية والقمم المعروف أنه في مارس (آذار) 2017، قام الملك سلمان بن عبد العزيز بزيارة رسمية للصين حيث التقى الرئيس الصيني شي جينبينغ. وخلال الزيارة، وُقّعت 14 اتفاقية ومذكرة تفاهم، تضمنت التعاون في مجالات الطاقة والاستثمارات والعلوم والتكنولوجيا. وفي وقت سابق، كان خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز قد زار الصين رسمياً عام 2006، كانت تلك الزيارة بمثابة نقطة تحوّل في تعزيز العلاقات الثنائية، وشملت مباحثات مع القيادة الصينية وشهدت توقيع اتفاقيات عدة في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار. كما زار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الصين في فبراير (شباط) 2019 كجزء من جولته الآسيوية. خلال هذه الزيارة، وقّعت 35 اتفاقية تعاون بين البلدين بقيمة تجاوزت 28 مليار دولار، وشملت مجالات النفط والطاقة المتجددة والبتروكيماويات والنقل. بعدها، في ديسمبر (كانون الأول) 2022، قام الرئيس الصيني شي جينبينغ بزيارة تاريخية إلى الرياض، حيث شارك في «قمة الرياض»، التي جمعت قادة دول مجلس التعاون الخليجي والصين. وتركّزت هذه القمة على تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية بين الجانبين، وخلالها وقّع العديد من الاتفاقيات في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا. من الزيارات البارزة الأخرى، زيارة وزير الخارجية الصيني إلى السعودية في مارس (آذار) 2021، حيث نوقش التعاون في مكافحة جائحة «كوفيد 19» وتعزيز العلاقات الاقتصادية،


مقالات ذات صلة

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب

حصاد الأسبوع 
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب

في إطار الحرب التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، يمكن ملاحظة وجود تصعيد تدريجي ومتبادل في الرسوم الجمركية بين البلدين. هذا التصعيد يعكس اتجاهات السياسة الاقتصادية التي تعتمدها الدولتان، حيث تتمثل الولايات المتحدة في دور المبادر في فرض الرسوم الجمركية، بينما تتبع الصين استراتيجية الردّ المتدرج. في البداية، بدأت الولايات المتحدة بزيادة الرسوم الجمركية بشكل حاد وسريع من 10% في فبراير (شباط) الماضي إلى 145% في 10 أبريل (نيسان) الجاري، وهو ما يعكس رغبة الإدارة الأميركية الحالية في ممارسة ضغط اقتصادي كبير على الصين. في المقابل، قامت الصين، في البداية، بالرد بنسب أقل (10% و15% جزئياً) غير أنها رفعت النسبة بشكل تدريجي حتى وصلت إلى 125% بحلول 11 أبريل، ما يبرز توجهاً أكثر حذراً من جانبها في التعامل مع التصعيد.

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ منهياً جولته الآسيوية الأخيرة وبجواره ملك كمبوديا نورودم سيهاميني في مطار العاصمة الكمبودية بنوم بنه (أ.ب)

دعوة للتعقُّل تجنباً لحرب بلا منتصر

تُشكّل العلاقات الصينية ـ الأميركية اليوم أكبر اختبار لقدرة العالم على التعايش في ظل التحولات الجذرية في موازين القوى. ولا أحد ينكر أن التنافس موجود.

حصاد الأسبوع رياك مشار

رياك مشار... سياسي مخضرم لعب دوراً حيوياً في تاريخ جنوب السودان

مجدداً يبرز اسم رياك مشار، السياسي المخضرم والمثير للجدل، وسط مخاوف من أن تدخل دولة جنوب السودان نفق حرب أهلية أخرى، قبل أن تتعافى من تداعيات سابقتها، التي انتهت عام 2018. مشار، الذي يشغل منصب نائب الرئيس، وُضع أخيراً تحت الإقامة الجبرية، ما يمثل أحدث منعطف في علاقته المضطربة مع رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت. وما يجدر ذكره أن مشار لعب دوراً بارزاً في تاريخ السودان منذ منتصف الثمانينات، ولطالما كان نشاطه في حروب جنوب السودان من أجل الاستقلال عن السودان مثيراً للجدل، وحمل الرجل ألقاباً عدة، بدت متعارضة في بعض الأحيان، من «زعيم تمرد» إلى «أمير حرب» إلى «رجل سلام».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع زمّور (آ ف ب)

إبعاد لوبن... هل تتحوّل المتاعب القضائية منفعةً سياسية؟

أثارت إدانة مارين لوبن، زعيمة رئيسة حزب «التجمّع الوطني» اليميني المتطرف، في قضية الوظائف الوهمية، اضطراباً كبيراً في المشهد السياسي الفرنسي بين مؤيد لقرار العدالة الفرنسية ومعارض لها. وأيضاً فتحت باب النقاش حول مستقبل أقوى قوى اليمين المتطرف وزعيمته التاريخية التي ستمنع - ما لم تتمكن من إلغائه بقرار قضائي جديد - من تقديم ترشّحها لأي منصب سياسي لمدة خمس سنوات؛ وهو ما يعني القضاء على طموحها في خلافة الرئيس إيمانويل ماكرون في 2027. أضف إلى ذلك أن هذا الإبعاد قد يعني أيضاً إضعاف هيمنة «آل لوبن»، الذين سيطروا على المناصب الريادية في ثاني أهم تشكيل سياسي فرنسي منذ أسسه جان ماري لوبن (والد مارين) عام 1972، والاحتمال الآخر هو أن تتحول المتاعب القضائية حجّة مثالية للعب دور «الشهيد السياسي» وحشد التأييد والفوز بالانتخابات. وللعلم، بيّنت دراسة أخيرة لاستطلاع الرأي من معهد «إيلاب» أن لوبن تبقى الأوفر حظاً في الفوز بالجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المقبلة.

حصاد الأسبوع ترمب وقائمة التعرفة الجمركية المفروضة على دول العالم (غيتي)

فوضى الأسواق تمهد لنظام عالمي ينهي حقبة منظمة التجارة «المعادية»

لا يمكن رد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب «المفاجئ» تأجيل فرض الرسوم الجمركية على غالبية الدول لمدة 90 يوماً، إلى نجاح مناشداتها فقط. ثم إنه لا يمكن اعتبار

إيلي يوسف (واشنطن)

رياك مشار... سياسي مخضرم لعب دوراً حيوياً في تاريخ جنوب السودان

رياك مشار
رياك مشار
TT
20

رياك مشار... سياسي مخضرم لعب دوراً حيوياً في تاريخ جنوب السودان

رياك مشار
رياك مشار

مجدداً يبرز اسم رياك مشار، السياسي المخضرم والمثير للجدل، وسط مخاوف من أن تدخل دولة جنوب السودان نفق حرب أهلية أخرى، قبل أن تتعافى من تداعيات سابقتها، التي انتهت عام 2018. مشار، الذي يشغل منصب نائب الرئيس، وُضع أخيراً تحت الإقامة الجبرية، ما يمثل أحدث منعطف في علاقته المضطربة مع رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت. وما يجدر ذكره أن مشار لعب دوراً بارزاً في تاريخ السودان منذ منتصف الثمانينات، ولطالما كان نشاطه في حروب جنوب السودان من أجل الاستقلال عن السودان مثيراً للجدل، وحمل الرجل ألقاباً عدة، بدت متعارضة في بعض الأحيان، من «زعيم تمرد» إلى «أمير حرب» إلى «رجل سلام».

اشتهر رياك مشار بين أقرانه بالمكر السياسي، لا سيما، لقدرته الفائقة على تغيير ولاءاته والتنقّل بين معسكر وآخر، طوال عقود من الصراع بين شمال السودان وجنوبه، وذلك في إطار سعيه المحموم لتعزيز مكانته ومكانة «النوير»، قبيلته أو جماعته العرقية، في المياه السياسية العكرة في السودان أولاً، ثم في جنوب السودان في وقت لاحق.

كان مشار ومنافسه الأشهر الرئيس سلفا كير ميارديت، اللذان تجاوزا السبعين من عمرهما، قد أشعلا صراعاً قبلياً عام 2013 أسفر عن مقتل أكثر من 400 ألف شخص، وإجبار نحو ثلث السكان على النزوح. ومع أن الحرب انتهت باتفاق سلام عام 2018، يبدو أن تنافس كير، المنتمي إلى «الدينكا» كبرى قبائل جنوب السودان، ومشار، المنتمي إلى «النوير» - الثانية من حيث الحجم السكاني - لم ينتهِ، لتعود الخلافات إلى الظهور منذرة بتجدد الصراع القبلي العرقي.

المواجهة الأحدث

الخلاف الأخير اندلع عقب اشتباكات في ولاية أعالي النيل بين قوات جنوب السودان و«الجيش الأبيض»، الذي هو ميليشيا غالبية مقاتليها من قبيلة «النوير» قاتلت إلى جانب قوات مشار في الحرب الأهلية.

ولقد اتهمت حكومة سلفا كير، في مارس (آذار) الماضي، حزب «الحركة الشعبية لتحرير السودان» المعارض الذي يتزعمه مشار، بالتعاون مع «الجيش الأبيض»، وهو أمر نفاه الحزب، وادعى في بيان معلناً وضع زعيمه تحت الإقامة الجبرية، «إننا ندين بشدّة الإجراءات غير الدستورية التي اتّخذها اليوم وزير الدفاع ورئيس الأمن الوطني باقتحامهما، برفقة أكثر من 20 مركبة مدجّجة بالسلاح، مقرّ إقامة النائب الأول للرئيس. لقد جُرِّد حرّاسه الشخصيون من أسلحتهم، وصدرت بحقّه مذكرة توقيف بتهم غامضة». وفي المقابل، سارعت بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان «يونميس» إلى التحذير من أنّ هذه الخطوة تضع البلاد «على شفا حرب»، داعية كل الأطراف إلى «ضبط النفس».

المهندس ابن «النوير»

وُلد رياك مشار تيني دورغون عام 1953 في مدينة لير بولاية «الوحدة» الغنية بالنفط في جنوب السودان. وكما سبقت الإشارة، ينحدر مشار من قبيلة النوير، التي تعيش من الرعي وتربية الأبقار، وتعد ثاني أكبر قبيلة في جنوب السودان بعد «الدينكا»، التي ينحدر منها رئيس جنوب السودان سلفا كير، وعدد من أبرز الزعماء الجنوبيين... على رأسهم الزعيم التاريخي جون قرنق.

لم يحترف الطفل مشار كأقرانه مهنة الرعي، كما لم توسم جبهته بالندوب الـ6 التقليدية التي تميز جبهات رجال «النوير»، في طقس احتفالي يشير إلى الانتقال من مرحلة الطفولة إلى البلوغ. بل أرسلته أسرته إلى المدرسة، وواصل تعليمه ليحصل على بكالوريوس الهندسة من جامعة الخرطوم بالعاصمة السودانية، قبل أن يسافر إلى بريطانيا وينال درجة الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية من جامعة برادفورد عام 1984.

تزوّج مشار عام 1991 بعاملة الإغاثة البريطانية إيما ماكون، التي توفيت في حادث سير في العاصمة الكينية نيروبي عام 1993، وهي لم تتجاوز بعد الـ29 سنة. وصارت حياة إيما ومشار في غابات جنوب السودان موضوعاً لمقالات صحافية وكتاب حمل عنوان «حرب إيما». وبعد وفاة إيما تزوّج مشار من أنجلينا تيني، وهي سياسية شغلت سابقاً منصب وزير الدفاع في جنوب السودان، وعيّنت عام 2023 وزيرة للداخلية.

على الرغم من دراسته الجامعية، لم يستقر مشار في بريطانيا، مفضّلاً العودة إلى «الغاب»، وهذا تعبير يستخدم في جنوب السودان لوصف أولئك الذين يتجهون إلى القتال والعمل المسلح.

إذ إنه بعد اندلاع الحرب الأهلية بين السودان وجنوبه عام 1983، عاد مشار إلى بلاده ليلتحق بالعمل المسلح، وانضم عام 1984 إلى ميليشيا «الجيش الشعبي»، الجناح العسكري لـ«الحركة الشعبية لتحرير السودان»، التي قادت التمرد الانفصالي ضد سلطات الخرطوم.

دعم وانشقاق

في بداية الأمر نشط مشار وقاتل تحت قيادة مؤسس «الحركة الشعبية» جون قرنق. وفي حوار سابق مع «الشرق الأوسط» قبل أكثر من عقد من الزمان، قال مشار إن «أول مهمة كلفه بها قرنق كانت السفر إلى ليبيا للقاء رئيسها الراحل معمر القذافي عام 1984». وأوضح أن المهمة، يومذاك، كانت تتعلق بجلب السلاح للثوار الجدد، نظراً لأن القذافي كان يخوض نزاعاً ضد الرئيس السوداني (في حينه) جعفر نميري.

في تلك المرحلة بدأت رحلة مشار مع التمرّد المسلح. وفي هذه الرحلة نال تدريباً عسكرياً ومُنح رتبة رائد، وعمل في منطقة غرب أعالي النيل للمساعدة في تجنيد أبناء قبيلته وإلحاقهم بـ«الثورة».

في الواقع، تسببت رؤية قرنق الوحدوية للسودان في انشقاقات داخل ميليشيا «الجيش الشعبي»، لا سيما بين قياداته من قبيلة «النوير»، عام 1984، غير أن مشار آثر البقاء في صفوف الحركة مستكملاً عمله في دعم العمل العسكري. وهو ما فسّره عدد من قيادات الحركة آنذاك بـ«انحناءة في مواجهة العاصفة»، لافتين إلى أن مشار «المتعلم في أرقى الجامعات لم يرغب في الانشقاق والعمل تحت قيادة صمويل قاي توت غير المتعلم».

وبالفعل، لم تطل فترة سكون مشار، إذ بعد نحو 7 سنوات - تحديداً عام 1991 - برزت ميوله الانفصالية القوية، وقاد تمرّداً ضد قيادة قرنق وقادة آخرين من بينهم سلفا كير ميارديت (وكل من قرنق وسلفا كير من «الدينكا»).تمرّد مشار على قرنق

قاد مشار في حينه ما عُرف بـ«انقلاب الناصر». ومع انقسام جيش المتمردين على أسس قبلية، اتُّهم مشار بارتكاب «مذبحة وحشية» في بلدة بور، التي تضم غالبية من «الدينكا» عام 1991، فيما وُصفت بأنها من أسوأ فظائع الحرب، وهكذا اشتعلت دوامة من الانتقام والعنف بين «الدينكا» و«النوير».

بل لقد قيل يومذاك إن الذين قُتلوا في ذلك النزاع القبلي فاق عدد الذين قُتلوا في الحرب بين المتمردين الجنوبيين والحكومة المركزية في الخرطوم.

بعدها، شكّل مشار جماعة منشقة عرفت باسم «حركة تحرير جنوب السودان»، انضم إليها أفراد من قبيلة «الشِّلُك» (ثالث كبرى القبائل الجنوبية)، وعدد من مؤسسي «الحركة الشعبية» من بينهم سلفا كير. ومن ثم، تزعّم فصيله الدعوة «إلى تقرير المصير» في جنوب السودان بهدف تقويض شعبية قرنق بين الجنوبيين، ما دفع قرنق لوضع حق «تقرير المصير» على أجندة حركته. وقال قرنق عن مشار، آنذاك، «إن التاريخ سيظل يذكر رياك مشار على أنه الشخص الذي طعن الحركة في ظهرها حينما كنا على وشك الانتصار».

تنقل... وتهم خيانة

نعم، أجاد مشار التنقّل بين معسكرات مختلفة، وإن اتهمه بعض رفاقه بالخيانة. وفي عام 1997، أبرم مشار معاهدة مع حكومة السودان، وجرى تنصيبه مساعداً للرئيس السوداني عمر البشير ومسؤولاً عن إقليم جنوب السودان، على أن يجري الاستفتاء بعد 4 سنوات من تنفيذ الاتفاقية. وتركّزت مهمة مشار - بالنسبة للخرطوم - في حماية آبار النفط بولاية «الوحدة» ومناطق غرب النيل.

بعد ذلك، أصبح رئيساً لـ«قوات دفاع جنوب السودان» المدعومة من الحكومة، لكنه سرعان ما تركها في عام 2000 مشكِّلاً ميليشيا جديدة باسم «قوات دفاع شعب السودان/الجبهة الديمقراطية».

بيد أن التحالف مع الخرطوم لم يدم طويلاً. وحقاً، عام 2002 عاد مشار مرة أخرى إلى صفوف المتمردين والتحق بـ«الجيش الشعبي» بوصفه قائداً بارزاً، بعد مفاوضات النائب الأول لقرنق في «الحركة الشعبية» سلفا كير، وبالتالي، حصل مشار على منصب النائب الثاني لرئيس «الحركة الشعبية».

هذه الوساطة تكرّرت ولكن بشكل معاكس، عقب خلاف بين قرنق وسلفا كير استطاع مشار أن ينهيه، ويعقد مصالحة بين الرجلين في نهاية عام 2004. وبعد مقتل جون قرنق بحادث تحطم هليكوبتر أوغندية عام 2005، بعد 21 يوماً من تنصيبه نائباً أول للبشير، أصبح مشار وسلفا كير حاكمين للجنوب. وقادا معاً الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام بين الخرطوم وجوبا من 2005 حتى استقلال جنوب السودان يوم 9 يوليو (تموز) 2011، حين تولى سلفا كير الرئاسة، واحتفظ مشار بمنصب نائب الرئيس.

طموح الرئاسة

ولكن مرة أخرى، تظهر نزعات مشار الانشقاقية وطموحه للزعامة والسلطة، عقب إعلانه عام 2013 عن رغبته في الترشح لانتخابات الرئاسة عام 2015، الأمر الذي دفع سلفا كير لإقالته من منصبه (نائب الرئيس) في يوليو 2013. غير أن احتفاظ مشار بمنصب النائب الأول لرئيس الحزب، أفسح المجال أمامه للتحرك. وهكذا، عقد تحالفاً مع أرملة قرنق، ريبيكا قرنق، لتصبح ضمن المجموعة المناوئة لسلفا كير في التنافس على قيادة الحزب والدولة.

لقد كانت إقالة مشار من العوامل الرئيسية التي فجّرت الحرب الأهلية مجدداً في ديسمبر (كانون الأول) 2013؛ إذ تحدّى مشار سلفا كير علناً، واصفاً إياه بـ«الديكتاتور»، ليرد الأخير بخطاب مطول ذكر فيه فترة الأحداث الدموية في التسعينات، وهدد من يُظهرون «انعدام انضباط».

ولم تمضِ أيام قليلة حتى اندلع إطلاق نار في جوبا، وتحدثت الحكومة عن محاولة انقلاب لجنود من قبيلة «النوير»، وهو ما أنكره مشار مدعياً أن «الدينكا كانوا يسعون لمذبحة ضد النوير». وبينما لم تجد لجنة تحقيق تابعة للاتحاد الأفريقي أي أساس لادعاء الانقلاب، اندلعت حرب أهلية تعيد للأذهان مشاهد التسعينات. وفشلت محاولات عدة لعقد اتفاقيات سلام من بينها اتفاق عام 2015، الذي أوقف الأعمال العدائية لفترة وجيزة، لكنه انهار بعد عودة مشار إلى جوبا في العام التالي.

عام 2016، عاد مشار إلى «حكومة الوحدة الوطنية» نائباً للرئيس بموجب اتفاق سلام انهار بعد ثلاثة أشهر من أدائه اليمين الدستورية. وتفاقمت الحرب إلى أن نجح اتفاق سلام عُقد عام 2018 في وقفها. وعقب انتهاء الحرب تبنى مشار نبرة تصالحية. لكن تلك النبرة لم تُنهِ التوتر والعداء الشخصي. بدليل ما حدث أخيراً، ووضع مشار تحت الإقامة الجبرية. أجاد مشار عبر حياته السياسية والعسكرية التنقّل

بين معسكرات مختلفة وإن اتهمه بعض رفاقه بالخيانة