جان نويل بارو: اقتصادي من عائلة سياسية مرموقة... على رأس الدبلوماسية الفرنسية

وزير حديث العهد بالعلاقات الدولية في خضم التوتر العالمي

بارو
بارو
TT

جان نويل بارو: اقتصادي من عائلة سياسية مرموقة... على رأس الدبلوماسية الفرنسية

بارو
بارو

فور تولي بارو مهام منصبه، باشر وزير الخارجية الفرنسي تنظيم زيارة للشرق الأوسط تهدف إلى بحث النزاع مع مختلف الأطراف، ومحاولة حلحلة الوضع المتأزم، معلناً: «لقد حان وقت الدبلوماسية».

وُلد جان نويل بارو يوم 13 مايو (أيار) 1983 في العاصمة الفرنسية باريس، وهو يتحدّر من عائلة سياسية معروفة، إذ كان والده جاك بارو، الذي تُوفي عام 2014 سياسياً بارزاً من كتلة الوسط المسيحي، وكان قد شغل عدة حقائب وزارية، إضافة لمنصب نائب رئيس اللجنة الأوروبية وعضو «المجلس الدستوري»، وهو منصب مرموق لا يشغله سوى الساسة المحنَّكين في فرنسا.

ثم إن جدّه نويل بارو كان مناضلاً في الجيش السّري، ومقاوماً لـ«نظام فيشي» المتعاون مع النازية إبّان الحرب العالمية الثانية، وكان مكلفاً بتهريب الأدوية إلى أفراد المقاومة الشعبية بحكم عمله صيدلياً. وبعد انتهاء الحرب شغل منصب نائب في البرلمان، وعمدة لمدينة إيسنجو الصغيرة (بجنوب شرقي فرنسا).

جذور عائلية سياسية

الجذور السياسية لعائلة بارو ضاربة إذن بقوة في منطقة الأوت لوار، بجنوب شرقي فرنسا. والواقع أن التمثيل النيابي للمنطقة - القريبة من مدينة ليون - ظل داخل هذه العائلة من عام 1945 حتى عام 2004 دون انقطاع، منتقلاً من الجَد إلى الأب، قبل أن يلحق بهما الحفيد جان نويل (41 سنة). وهذا الحفيد، الذي بات، اليوم، وزيرخارجية فرنسا، فاز بأول مقعد نيابي له عام 2017. ثم إن جان نويل لم يرِث من والده وجَدّه المنصب فحسب، بل ورث منهما أيضاً القناعات السياسية والالتزام بتيار يمين الوسط. فعائلته محسوبة على خط يمين الوسط المعتدل أباً عن جَدّ، فالجدّ نويل كان رئيساً لحزب الوسط الديمقراطي لسنوات، والوالد جاك كان السكرتير العام لكتلة الوسط (أو دي إف)، أما ابنه جان نويل بارو فعضو في «الحركة الديمقراطية (مودام)»، التي تمثل، اليوم، تيار الوسط في فرنسا، وكان ناطقاً وطنياً باسمها (في 2018)، ثم أميناً عاماً (بين 2018 و2022)، قبل أن يغدو نائباً لرئيس هذه الكتلة السياسي البارز فرنسوا بايرو، وأحد أقرب المقرّبين منه (منذ يوليو/ تموز 2022).

خبير في الاقتصاد وإدارة الأعمال

تلقّى جان نويل بارو تعليمه العالي في مجال الاقتصاد وإدارة الأعمال، وهو حاصل على شهادة الدكتوراه من المعهد العالي للتجارة «آش أو سيه»، وعلى شهادة الماجستير من معهد باريس للعلوم السياسية «سيانس بو» المرموق. ولقد عمل زميلاً بحثياً في مدرسة سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «إم آي تي»، إحدى أرقى جامعات العالم والولايات المتحدة، بين 2013 و2017.

وفي 2018 عُيّن وزير الخارجية الجديد، في فرنسا، أستاذاً محاضراً بالمعهد العالي للتجارة «آش أو سيه». وتناولت أبحاثه مجال الشؤون المالية، وشبكات الإنتاج، وتقييم السياسات العامّة لدعم المنشآت وتمويل الشركات، وسياسات دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة. ونُشرت أعماله في مجلات دولية رائدة مثل المجلة الفصلية للاقتصاد، ومجلة الاقتصاد المالي، وعلوم الإدارة.

إنجازاته في الحكومة

أما سياسياً، فقد شغل بارو منصب الوزير المنتدب للشؤون الأوروبية بحكومة غبريال أتال بين فبراير (شباط) وسبتمبر (أيلول) 2024. وقبلها كان الوزير المنتدب للشؤون الرقمية في حكومة إليزابيث بورن من 2022 إلى 2024، وكانت له عدة إنجازات في هذا المجال أشادت بها وسائل الإعلام، إذ كتبت صحيفة «شالنج» الفرنسية، في موضوع تحت عنوان «الصعود الخارق لجان نويل بارو»، ما يلي: «في مجال الرقمنة، كانت حماية الطفولة في الشبكة العنكبوتية من أهم اهتمامات السيد بارو، حيث اقترح حجب المواقع الإباحية ومكافحة ظاهرة التنمّر الإلكتروني. كذلك بذل مجهوداً كبيراً للتنبيه إلى خطر التدخل الأجنبي بغرض التأثير، وبالأخص التدخل الروسي في مواقع التواصل إبّان الانتخابات الأوروبية الأخيرة».

وشرحت الصحيفة الفرنسية كيف أن الوزير كان في غاية الجرأة والشجاعة، واستطاع الوقوف في وجه عمالقة التواصل الاجتماعي حين هدّد بحظر منصّة «إكس (تويتر سابقاً)»، ما لم تحترم قواعد الاعتدال المعتمَدة في دول المجموعة الأوروبية. وعقب الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها فرنسا عام 2023 ضد غلاء المعيشة، أقدم بارو على إجراء استثنائي تمثَّل بحظر كل المحتويات التي تُحرّض على العنف في منصّتي «تيك توك» و«إكس».

المشاركة السياسية

على صعيد آخر، بدأت المشاركة الفعلية لجان نويل بارو في المجال السياسي عام 2015، حين انتُخب مستشاراً جهوياً (عضو المجلس المحلي) عن محافظة إيسنجو، وهو المنصب الذي شغله جدّه، ثم والده لسنوات قبل وفاته بسكتة قلبية عام 2014. وعلى الأثر، قرّر الانخراط في «الحركة الديمقراطية» إلى جانب إيمانويل ماكرون، وبالفعل انتُخب نائباً برلمانياً عن الدائرة الثانية في محافظة الإيفلين الباريسية (عاصمتها فرساي) من 2017 إلى 2022، حيث شغل فيها منصب نائب رئيس اللجنة المالية، وكان مسؤولاً عن تقديم تقارير الهجرة والميزانية واللجوء. وفي 4 يناير (كانون الثاني) 2021، كلّفه رئيس الوزراء السابق، جان كاستيكس، بمهمة لمدة 6 أشهر للعمل مع برونو لومير، وزير الاقتصاد والمالية حينذاك، لمساعدة المناطق على الخروج من الأزمة والتعافي الاقتصادي. وبعدها أعيد انتخاب بارو نائباً بنسبة 72.69 في المائة من الأصوات يوم 9 يوليو 2024، بعدما حلّ رئيس الجمهورية البرلمان، حيث ترأّس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان، ابتداءً من 20 يوليو 2024، قبل أن يُعيَّن أخيراً وزيراً للشؤون الخارجية.

حديث العهد بالدبلوماسية

يتولى بارو منصبه «رئيساً» للدبلوماسية الفرنسية، اليوم، في مناخ سياسي دولي متوتر... من أخطر ملامحه الحرب الأوكرانية الروسية، وانفجار الأوضاع في الشرق الأوسط. واللافت أنه فور الإعلان عن تعيين الوزير الشاب، قدّمته الصحافة الفرنسية على أنه «حديث العهد بالدبلوماسية»، بل، على الرغم من أن نشاطه وزيراً للشؤون الأوروبية وخبرته في مجال إدارة الاعمال والاقتصاد شكّلا «نقاط قوة» كبيرة له في منصبه الجديد، فإن قلّة التجربة الدبلوماسية لفتت الانتباه، وفتحت باب النقاش في مصير الدبلوماسية الفرنسية التي تراجعت فاعليتها خلال السنوات الأخيرة، بعدما قادتها شخصيات لم تترك بصمات قوية.

وفي حوار مع يومية «لوباريزيان»، شرح برتران بادي، الأستاذ في معهد «سيانس بو»، أنه «ما كان غريباً اتجاه الرئيس ماكرون إلى تعيين شخصية لا تتمتع بتجربة سياسية، فهو يريد أن يفرض رأيه ويسيطر على زمام السياسة الداخلية والخارجية، كما فعل مع كاترين كولونا، وستيفان سيجورنيه، اللذين لم يتركا أي بصّمة على الدبلوماسية الفرنسية».

وفي مقال بعنوان «أوروبي في الخارجية»، نقلت «لوباريزيان» شهادة أورليان تاشي، نائب كتلة «فرنسا الأبيّة» (اليسار)، الذي صرَّح بأن «وزير الخارجية الجديد شخصية سياسية معتدلة، فهو مستعد للحوار مع أي طرف»، وهو - كما يقول نائب اليسار - من أحسن الخصوم السياسيين احتراماً للمعارضة، «لكنني أشكّ بأن يكون لديه هامش من الحرية، بحيث يَسلم من تدخُّل ماكرون وسيطرته...».

وفي مقال آخر بعنوان «جان نويل بارو: مبتدئ على رأس الخارجية»، شرحت صحيفة «اللوموند» بأن وزير الخارجية الجديد «يفتقر إلى الخبرة لكنه مجتهد، أثبت كفاءته فيما يخّص الملفات الأوروبية التي يعرفها عن ظهر قلب». وتابعت أنه «أولاً، قبل كل شيء أوروبي عن اقتناع، ويؤمن بجوهرية العلاقات الفرنسية الألمانية لبناء أوروبا قوية، إذ كانت آخِر مباحثاته في باريس مع وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك. ولقد لقي خبر تعيين جان نويل بارو ترحيباً في إيطاليا، حيث تربطه علاقات جيدة مع رافاييلي فيتو وزير الشؤون الأوروبية في حكومة جورجيا ميلوني، وسبق لهما التعاون في ملفات الهجرة بنجاح (الذي عُيّن منذ فترة نائباً لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين)».

وتابعت «اللوموند» بأنه سيتوجب على الوزير الجديد العمل على كثير من الملفات في وقت قياسي، وعليه أيضاً أن يفرض نفسه لأنه «خفيف الوزن في غابة العلاقات الدولية».

قضايا ساخنة... ومناخ دولي متوتر

وحقاً، تنتظر وزير الخارجية الجديد قضايا دولية ساخنة جداً، فالحرب في أوكرانيا مستمرة منذ أكثر من سنتين ونصف السنة، دون الوصول إلى حلّ. ثم هناك بين القضايا الدولية الحسّاسة الأخرى الحرب في السودان، والقضية النووية الإيرانية، وقبل كل شيء انفجار الأوضاع في الشرق الأوسط، مع استعار الحرب في قطاع غزة والعدوان الإسرائيلي على لبنان.

وهنا نشير إلى أنه فور تولي بارو مهام منصبه، باشر وزير الخارجية الفرنسي تنظيم زيارة للشرق الأوسط تهدف إلى بحث النزاع مع مختلف الأطراف، ومحاولة حلحلة الوضع المتأزم، معلناً: «لقد حان وقت الدبلوماسية». وبالفعل، ندّد بارو بموجة التفجيرات القاتلة التي وقعت في لبنان، خلال الفترة القصيرة الماضية، عبر أجهزة اللاسلكي، قائلاً، لإحدى وسائل الإعلام: «حتى وإن كنا نعترف بحق إسرائيل في ضمان أمنها، فهناك هجمات أصابت المدنيين بشكل عشوائي، وتسببت في إصابة الآلاف من الجرحى وقتل الأطفال». وفي المقابل، أدلى بتصريحات داعمة لإسرائيل، بعد اجتماع مع نظيره يسرائيل كاتس، قال فيها إن «حزب الله» اللبناني «يتحمل مسؤولية كبيرة على صعيد اتساع نطاق الحرب في لبنان، بعدما جرَّ لبنان إلى حربٍ لم يخترها». وأردف أن فرنسا «ملتزمة التزاماً لا يتزعزع بأمن إسرائيل...»، علماً بأن التصريحات الأخيرة للرئيس ماكرون جاءت متعارضة مع كلام وزير خارجيته حين قال إن «الأولوية، اليوم، هي العودة إلى حلّ سياسي، والكفّ عن تسليم الأسلحة لخوض المعارك في غزة». وذكر أن فرنسا «لا تُسلّم أسلحة»، ما أغضب الأطراف الإسرائيلية، وأكد التوقعات بأن ماكرون سيفسد مساعي بارو بتدخلاته وتصريحاته المتعارضة.


مقالات ذات صلة

قمة «بريكس» تكسر «عزلة بوتين»... وتتحدّى ضغوط الغرب

حصاد الأسبوع جانب من مدينة قازان (أيستوك فوتو)

قمة «بريكس» تكسر «عزلة بوتين»... وتتحدّى ضغوط الغرب

استكملت موسكو تحضيراتها لاستقبال «الحدث الأكبر على صعيد السياسة الخارجية»، وفقاً لوصف الكرملين. إنها قمة مجموعة «بريكس» التي أعدت لها موسكو طويلاً، ورتّبت بدقة تفاصيلها وفعالياتها، بصفتها رئيساً للمجموعة هذا العام. وستستضيف القمة مدينة قازان (عاصمة تتارستان) الواقعة على نهر الفولغا، وسيشارك فيها عشرات الزعماء والمسؤولين. المشهد أراد منه الكرملين أن يُظهر للعالم فشل سياسة عزل الرئيس فلاديمير بوتين الذي سيكون أمامه يومان طويلان جداً في الفترة بين 22 و24 أكتوبر (تشرين الأول)؛ إذ يحفل جدول أعماله بلقاءات على أعلى مستوى مع عشرين زعيماً مشاركاً في أعمال القمة.

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وخلفه أعلام الدول الأعضاء في مجموعو "بريكس" (آ فب/غيتي)

«بريكس»... عملاق اقتصادي يواجه تحدّيات كبرى

> مما لا شك فيه أن مجموعة «بريكس»، التي تعقد قمتها هذا العام للمرة السادسة عشرة بصيغتها الموسّعة، تحوّلت إلى كتلة اقتصادية عملاقة، وبالأخص مع انضمام خمسة بلدان.

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع سيباستيان ليكورنو

حكومة بارنييه: تشكيلة وزارية ذات توجه يميني

بعد أكثر من أسبوعين من المباحثات المُضنية، التي قادها رئيس الوزراء ميشال بارنييه، تشكلّت الحكومة الفرنسية الجديدة، المكوّنة من 41 وزيراً، بعضهم لا يتمتع بخبرة.

«الشرق الأوسط» (باريس)
حصاد الأسبوع هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)

النمسا تسعى للتعايش مع يمين متطرف حاضر... بأقل قدر ممكن من الاستفزاز

انضمت النمسا إلى قافلة دول أوروبية سبقتها بالتصويت لحزب يميني متطرف حقق فوزاً معنوياً مهماً في الانتخابات العامة.

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع الزعيمة الإيطالية جورجيا ميلوني (رويترز)

تقدّم المتطرفين في أوروبا... ظاهرة متكرّرة ومؤشر خطر

يأتي تصدّر حزب الحرية اليميني المتطرف نتائج الانتخابات في النمسا متناغماً مع صعود الأحزاب المتطرفة بشكل عام في أوروبا في السنوات الماضية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

جدعون ساعر... غريم نتنياهو الذي ناصره في «حكومة الحرب»

جدعون ساعر
جدعون ساعر
TT

جدعون ساعر... غريم نتنياهو الذي ناصره في «حكومة الحرب»

جدعون ساعر
جدعون ساعر

عادّاً قرار عودته إلى الحكومة الإسرائيلية «عملاً وطنياً صحيحاً» يأتي في «أوقات صعبة مليئة بالتحديات»، تحالف النائب الليكودي جدعون ساعر من جديد مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وانضم لنصرته في «مجلس الحرب» وزيراً بلا حقيبة، وسط تكهّنات بأن المعارض اليميني «المتشدد» الذي يلقبه زملاؤه بـ«جيدي» قد يخلف وزير الدفاع يوآف غالانت، حال استقالته من منصبه. ساعر، الذي كان قد استقال من حكومة نتنياهو قبل بضعة أشهر اعتراضاً على استبعاده من «مجلس الحرب»، قال يومذاك جملته الشهيرة «لم نأت لتدفئة الكراسي». إلا أنه تراجع عن موقفه وعاد اليوم إلى الحكومة، مبرراً ذلك خلال مؤتمر صحافي لإعلان المصالحة مع حليفه وغريمه نتنياهو، بأنه «ليس من المفيد البقاء في المعارضة، بل واجبي في الوقت الحالي أن أحاول المساهمة على الطاولة حيث تُتخذ القرارات».

أثارت عودة جدعون ساعر إلى الحكومة الإسرائيلية جدلاً واسعاً، وشكلت تناقضاً سافراً لمواقف سبق أن أعلنها في خضم خلافه المحتدم مع نتنياهو ضمن كتلة «الليكود» النيابية. وهو الأمر الذي لم ينكره ساعر، إذ قال: «أمضينا أنا وبيبي (نتنياهو) سنوات من الشراكة الجيدة والوثيقة جداً، وكانت هناك أيضاً سنوات من الخلافات الشخصية والسياسية، لكن منذ صباح 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لم يعد لهذا الخلاف أهمية»، وهذا ما أقرّ به أيضاً نتنياهو عندما ردّ: «وضعنا ضغائن الماضي خلفنا».

نشأة في «كيبوتز»

ولد جدعون ساعر في تل أبيب يوم 9 ديسمبر (كانون الأول) 1966. وهو الابن الأكبر لأم من يهود بُخارى (في أوزبكستان) تعمل في التدريس، وأب طبيب جاء إلى إسرائيل من الأرجنتين. ولقد نشأ جدعون في مستوطنة تعاونية (كيبوتز)، واعتاد أن يرافق والده في زيارات إلى بيت ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، إذ كان أبوه الطبيب الخاص لبن غوريون.

بدأت ميول جدعون ساعر السياسية في وقت مبكر، وإبان مرحلة تعليمه الثانوي انضم إلى حركة «هتحيا»، وترأس فرع الشباب فيها، وهي الحركة التي تحوّلت فيما بعد إلى حزب سياسي يميني متطرّف بين عامي 1979 و1992، أسّسه إسرائيليون يمينيون معارضون لاتفاقية «كامب ديفيد»، وظل قيادياً ناشطاً في ذلك الحزب إلى أن التحق فيما بعد بصفوف حزب «الليكود» (التكتل) اليميني. أما في مرحلة الدراسة الجامعية، فقد حاز ساعر درجة بكالوريوس في العلوم السياسية وبكالوريوس في الحقوق من جامعة تل أبيب. وبما يتصل بخدمته العسكرية، فإنه خدم في الجيش الإسرائيلي جندي مشاة في وحدة «غولاني»، وبعد إصابته أكمل خدمته ضابط استخبارات.

محام وصحافي

عمل ساعر في مهن عدة، وتدرّج في عدة مناصب. ولقد بدأ حياته العملية في المجال الحقوقي مساعد نائب عام، ثم عمل محامياً في النيابة العامة لمنطقة تل أبيب. وفي عام 1999، عندما كان في الثانية والثلاثين من عمره عيّن أميناً لمجلس الوزراء في حكومة نتنياهو الأولى، وهو المنصب الذي شغله أيضاً في حكومة أريئيل شارون الأولى. أيضاً سبق لساعر أن عمل صحافياً في وسيلتين إعلاميتين يساريتين. وإبان «الانتفاضة الفلسطينية الثانية»، شغل أيضاً منصب سكرتير مجلس الوزراء، وترأس وفد إسرائيل إلى الأمم المتحدة مركزاً على منع تشكيل لجنة تحقيق دولية في معركة جنين ضمن «عملية الدرع الواقي» التي نفذتها القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية من أجل القضاء على «الانتفاضة». وكان ممثلاً للحكومة في الكنيست؛ حيث روّج لتشريعات عدة متعلقة بالقضايا الأمنية والسياسية الحساسة. وفي عام 2002 انتخب عضواً في الكنيست للمرة الأولى، وكان رئيساً لكتلة «الليكود» البرلمانية ورئيساً للائتلاف اليميني. هذا، وبرز ساعر في «الليكود» خلال فترة توليه السلطة، وقاده أيضاً في زمن المعارضة بعد خسارة الحزب انتخابات عام 2005. وكان من الشخصيات الرئيسية والمؤثرة في إعادة تأهيل «الليكود» للفوز في انتخابات 2009. وحقاً، في ذلك العام عيّن وزيراً للتربية والتعليم، كما صار عضواً في «مجلس الوزراء الأمني». ثم في عام 2013 عيّن وزيراً للداخلية.

استراحة أسرية

عام 2014، بعد زواجه من الإعلامية اليسارية غيئولا إيبن، قرّر ساعر أخذ استراحة من العمل السياسي وتكريس وقته لرعاية أطفاله من زواجه الأول وأطفال زوجته الجديدة، دانييلا وألونا وديفيد وشيرا. وخلال هذه الفترة، تعمّق في متابعة قضايا الأمن القومي الإسرائيلي، وصار زميلاً في «المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي»، كما عمل محاضراً في قضايا الحكومة والإصلاح في كلية «أونو الأكاديمية»، ومستشاراً خاصاً لإحدى شركات المحاماة.

وبالفعل، عاش ساعر مع أسرته، إبان هذه الفترة، في شقة بتل أبيب «مليئة بألعاب الأطفال الملوّنة والمراهقين الصاخبين»، وفق وصف صحيفة «الواشنطن بوست» في حوار أجرته معه عام 2017، كذلك نقلت الصحيفة عنه قوله إنه «يريد التركيز على عائلته ونفسه، على الأقل لفترة من الوقت، تاركاً الباب مفتوحاً لعودته للسياسة يوماً ما». وأردف: «عندما استقلت من الحكومة والكنيست في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 كان من الواضح أنني سأعود... وكان السؤال الوحيد هو متى». ثم تابع في حواره مع الصحيفة الأميركية: «لست في عجلة من أمري لكي أصبح رئيساً للوزراء، لكنني قلت بوضوح عند عودتي إنني أعتزم قيادة الحزب والبلاد في المستقبل». وبالضبط، بعد نحو خمس سنوات، قرر ساعر العودة للسياسة وانتخب على قائمة «الليكود» في الكنيست.

مواقف «متشددة»

يُعرف ساعر بمواقفه اليمينية الحادة والمعارضة، فهو رفض خطة الانسحاب من قطاع غزة، وتنازل عن منصبه في رئاسة كتلة الائتلاف في الكنيست أيام أريئيل شارون، إثر تنفيذ خطة «فك الارتباط». وأيضاً من آرائه ومواقفه المتشددة، معارضته الشديدة «حل الدولتين». وفي هذا الشأن قال في حوار مع «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» – القريب جداً من إسرائيل – عام 2021 إنه «يدعم أقصى قدر من الحكم الذاتي للفلسطينيين ليحكموا حياتهم، مع الحدّ الأدنى من القدرة على إلحاق الضرّر بأمن دولة إسرائيل». وتكلّم عن «الحاجة لعنصر إقليميّ، مع دمج الدولتَين المجاورتَين، الأردن ومصر، في الحلول نفسها»، عبر ما وصفه باتفاقيات «ثلاثية الأطراف في بعض القضايا؛ بشأن السياحة والاقتصاد والبيئة وقضايا أخرى».

وبالنسبة للاستيطان، يدعم ساعر بناء المستوطنات في الضفة الغربية مع ضم أجزاء من الضفة الغربية. وسبق أن أوضح خلال لقاء مع صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» عام 2018 أن «إقامة دولة فلسطينية على بعد أميال قليلة من مطار بن غوريون والمراكز السكانية الرئيسية في إسرائيل من شأنها أن تخلق خطراً أمنياً وديموغرافياً على إسرائيل».

وحيال «حرب غزة»، حثّ ساعر حكومته على «اتخاذ إجراء عسكري أكثر قوة في غزة»، وهو ما من شأنه حسب رأيه «تقصير فترة الحرب». وعدّ في مقال نشره موقع «بوليتيكو» في نوفمبر 2023 أن «الصراع بين حماس وإسرائيل حرب للغرب أيضاً... ومنذ الثورة الإيرانية عام 1979، أصبح الإسلام الراديكالي منافساً آيديولوجياً للغرب الديمقراطي». وأضاف أن «الصبر والتسامح تجاه الآيديولوجية المتطرّفة التي لا تعترف بشرعية أسلوب حياتكم (أي الغرب) هما أكبر عدوّ للسلام والتعايش».

حليف نتنياهو وغريمه

في الواقع، يحمل جدعون ساعر سمات شخصية مزدوجة، وقد وصفته صحيفة «هآرتس» عام 2020 بأنه في آن معاً «علماني رائع من تل أبيب... وقومي مؤيد للمستوطنين».

ولعل تناقضات شخصية ساعر المثيرة للجدل تظهر بوضوح في علاقته بـ«بيبي» نتنياهو، الذي ظل لسنوات طويلة داعماً له بصفته عضواً في «الليكود»، أو سكرتيراً لرئيس الوزراء ووزيراً في حكومات نتنياهو المختلفة. لكن هذا التحالف سرعان ما انفضّ كاشفاً عن «ضغينة شديدة» يكنّها ساعر ضد رئيسه السابق، إذ انفصل عن «الليكود» وشكّل حزباً جديداً لمنافسة حليفه السابق في الانتخابات، ما «يضع العقل السياسي الماكر ضد معلمه السابق في معركة شخصية عميقة غارقة في مظالم الماضي»، بحسب تقرير لوكالة «الأسوشييتد برس» عام 2021. والحقيقة أن الخلاف مع نتنياهو مر بمراحل عدة، كانت الأولى عندما خاض الانتخابات التمهيدية لقيادة «الليكود» ضده عام 2019، لكنه لم يستطع يومذاك الحصول على زعامة الحزب، فقرر عام 2020 الاستقالة من الكنيست والحزب، وتأسيس حزب «تكفا هداشا» (الأمل الجديد)، الذي خاض انتخابات 2021 وحصل على 6 مقاعد في الكنيست، ومن ثمّ، لعب دوراً في تشكيل «حكومة وحدة» بديلة لإسرائيل، ليشغل في البداية منصب نائب رئيس الوزراء ووزير العدل.

وللعلم، وصف ساعر دائماً بأنه «قومي متشدد» وكان يُنظر إليه منذ فترة طويلة على أنه «وريث لقيادة حزب الليكود»، لكنه بعد تحديه الفاشل لنتنياهو في سباق الزعامة، ومن ثم حرمانه من أي منصب حكومي عقاباً له، انفصل عن الحزب وأعلن أن «هدفه هو الإطاحة بنتنياهو لتحويله حزب الليكود أداةً للبقاء الشخصي».

ولكن، في أكتوبر الماضي، وافق ساعر على طلب نتنياهو تشكيل «حكومة موسّعة»، بيد أنه سرعان ما ترك الحكومة في مارس (آذار) الماضي، بعد رفض «بيبي» السماح له بالانضمام إلى «حكومة الحرب»، وقال حينذاك إنه لن يستطيع «تحمّل المسؤولية طالما أنه ليس لدي أي تأثير، فنحن لم نأت إلى الحكومة لتدفئة الكراسي».

مع هذا، عاد ساعر مرة أخرى ليتراجع، وأعلن في29 سبتمبر (أيلول) الماضي عودته إلى الحكومة الإسرائيلية، فيما عُدّ «نُصرة» لنتنياهو تتيح له توسيع غالبيته مع دعم أربعة نواب إضافيين.