ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

وسط تضارب مصالح «الإليزيه» والكتل... وتحديات الاقتصاد

يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي
يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي
TT

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي
يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية، ثم مفاوض عن الاتحاد الأوروبي مع بريطانيا إبان عملية «البريكست» (الخروج من الاتحاد) البالغة التعقيد التي طالت 6 سنوات، كان حلم بارنييه مزدوجاً: أن يتوّج مسيرته الأوروبية بأن ينتخب رئيساً للمفوضية، حيث يحل محل الألمانية أورسولا فون دير لاين، التي فازت بولاية ثانية العام الحالي، أو أن ينتخب رئيساً للجمهورية الفرنسية. غير أن حلمه المزدوج خاب مرتين. في المرة الأولى، قال لـ«الشرق الأوسط»، خلال محادثة جانبية بمناسبة اجتماعية حصلت في قصر الإليزيه، إنه «لا يتمتع بدعم من السلطات الفرنسية»، مشيراً بذلك إلى الرئيس إيمانويل ماكرون. وحلّت الخيبة الثانية عام 2021 عندما كان بارنييه يسعى للترشح عن اليمين الجمهوري الفرنسي التقليدي لرئاسة الجمهورية. لكن أعضاء الحزب فضّلوا عليه فاليري بيكريس، رئيسة منطقة باريس (إيل دو فرانس)، التي خرجت من الدورة الأولى بحصولها على 4.78 % فقط من أصوات الناخبين، وهي أسوأ نتيجة حصل عليها مرشح يميني منذ إطلاق الجنرال شارل ديغول «الجمهورية الخامسة» عام 1958.

بعد خيبتي رئاسة المفوضية الأوروبية ورئاسة الجمهورية الفرنسية، ومسيرة سياسي تربو على 50 سنة، وجد ميشال بارنييه (73 سنة) رئيس الحكومة الفرنسية الجديد نفسه سياسياً متقاعداً.

وحقاً، لم يكن الرجل يتوقع أن يُستدعى لترؤس الحكومة بعد الانتخابات البرلمانية التي شهدت تصدّر «الجبهة الشعبية الجديدة» التي تضم أحزاب اليسار و«الخضر»، وحصول اليمين المتطرف ممثلاً بحزب «التجمع الوطني» الذي تتزعمه مارين لوبن، على مجموعة نيابية كبرى، وخصوصاً تراجع معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون.

الديغولي القديم

خلال الأيام الأخيرة التي أعقبت تعيينه في مهمته الجديدة، حلا لبارنييه أن يُذكّر بانطلاق التزامه السياسي عندما كان يافعاً - في سن الرابعة عشرة - متأثراً بدعوات الجنرال شارل ديغول، بطل فرنسا الحرة، وفكره وسياسته.

كذلك، يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين، لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب، بل اليمين الاجتماعي. ويؤكد تأثره بوالدته دونيز دوران، حيث حرص في أول تصريحاته، بعد تسميته، على التذكير بالتزامها السياسي اليساري، وحدبها الاجتماعي (مساعدة الضعفاء) وأنها لقّنته احترام الآخر والحوار والتسامح.

لقد كان لافتاً خلال عملية التسلم والتسليم، أن بارنييه ردّ على رئيس الوزراء المودّع غبريال أتال، الذي ألمح الى أنه «أصغر» رئيس للحكومة عرفته فرنسا (35 سنة)، بأن هذه الصفة «لا تدوم طويلاً». وذكّره بأنه شخصياً كان أصغر نائب دخل الندوة البرلمانية، وهو في سن الـ27 سنة.

والمفارقة هنا أن ماكرون عيّن في ولايته الثانية، التي بدأت ربيع عام 2022، أصغر رئيس حكومة (أتال)... والآن أيضاً أكبرهم سناً بشخص بارنييه. ثم إن الأخير كان تقلّد مناصب محلية، عندما كان على المقاعد الجامعية. وبعد تعيينه، ركزت الوسائل الإعلامية الفرنسية والأجنبية على مُراكمته خبراته السياسية وتمرّسه في المفاوضات المعقّدة، التي قيّض له أن يخوضها عندما شغل عدة مناصب وزارية في عهدي الرئيسين اليمينيين جاك شيراك (1995 ــ 2007) ونيكولا ساركوزي (2007 ــ 2012). وكان أبرزها اثنان: وزارة الخارجية، ولاحقاً وزارة الزراعة.

بارنييه... الدرّة النادرة

ما كان لميشال بارنييه أن يغدو رئيساً للحكومة لو جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة مختلفة. فخلال السنوات السبع التي أمضاها ماكرون في قصر الإليزيه، عيّن 4 رؤساء حكومات، خامسهم بارنييه، إذ سبقه إدوار فيليب وجان كاستيكس وإليزابيت بورن وغبريال أتال، وكلهم كانوا منتمين إلى تياره السياسي، مع أن الأخيرين ما كانا متمتعين بالأكثرية المطلقة في البرلمان.

أما في حالة بارنييه، فإن الأمور جاءت مختلفة تماماً بسبب تشكّل 3 مجموعات نيابية. هي: «الجبهة الشعبية الجديدة» اليسارية ومجموعة الوسط الداعمة لماكرون و«التجمع الوطني» اليميني المتطرف. والحال أن أياً منها يرفض التعاون مع الآخرين.

رهان ماكرون الفاشل

رهان الرئيس الفرنسي كان على تفكيك تحالف اليسار عبر سحب الحزب الاشتراكي منه وتشكيل «جبهة جمهورية» تمتد من اليسار الاشتراكي (المعتدل) وصولاً إلى اليمين التقليدي (المعتدل)، وتكون كتلته المكوّنة من 166 نائباً بمثابة بيضة القبان، إلا أن هذا الرهان فشل.

وبعدما استبعد ماكرون نهائياً لوسي كاستيه، مرشحة اليسار و«الخضر»، بحجة أن أي حكومة ترأسها ستسقط في البرلمان لدى أول اختبار، بينما المطلوب «المحافظة على الاستقرار المؤسساتي»، جرّب مرشحاً اشتراكياً هو برنار كازنوف، وآخر هو كزافييه برتراند من حزب «اليمين الجمهوري» الحاصل على 47 نائباً، ثم تييري بوديه، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي بصفته منبثقاً عن المجتمع المدني.

لكن الثلاثة سقطوا في امتحان الديمومة لأسباب سياسية وشخصية مختلفة يطول الخوض في تفسيرها.

الهدية المسمومة

كان ماكرون، الذي تنتهي ولايته الثانية في عام 2027، يبحث عن الرجل المنقذ لعهده من جهة، ولفرنسا من جهة ثانية، من الأزمة السياسية التي أفضت إليها الانتخابات التي أفرزت نتائجها وضعاً سياسياً بالغ التعقيد.

فهو من جهة، اعترف أخيراً بأن معسكره خسر الانتخابات. لكنه، في المقابل، لا يريد رئيساً للحكومة يفكّك ما سعى لبنائه خلال السنوات المنصرمة، متمسكاً باستمرار انتهاج سياسة ليبرالية اقتصادية مشجعة لاستقطاب الاستثمارات، ولا تتراجع عن الإصلاحات والقوانين التي أدخلها، ومنها تعديل سن التقاعد وقانون العمل والرعاية الاجتماعية، فضلاً عن قانون الهجرات.

أما الأهم من هذا وذاك، فهو أن ماكرون كان يبحث عن شخصية لا تواجه رفضاً تلقائياً، لكنها تستطيع التحاور مع الجميع بحيث لا تطرح الثقة به منذ لحظة تشكيل حكومته، فضلاً عن احترام صلاحيات الرئاسة التي يكفلها الدستور. ولأنه رئيس الحكومة العتيد لن يكون بالضرورة من معسكره، أراده ماكرون أن يكون ليناً و«دبلوماسياً» بحيث يسهل معه «التعايش» على رأس السلطة التنفيذية.

في عددها ليوم الأربعاء الماضي، كشفت صحيفة «لوموند» تفاصيل ما جرى، وما دفع ماكرون إلى تسمية بارنييه. إذ أفادت أن ألكسيس كوهلر، أمين عام الرئاسة، هو من زكّى ترشيح بارنييه، وكان صلة الوصل بينه وبين ماكرون قبل أن يستدعيه الأخير لأول لقاء معه في قصر الإليزيه.

لوبن وملف الهجرة

بيد أن العامل الحاسم الذي ثبّت اختيار بارنييه كان قبول مارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرف، به رئيساً للحكومة. ذلك أنها ترى أنه لا خلافات شخصية بينه وبين حزبها من جهة، ولأن لديه، من جهة أخرى، مواقف تراها متجانسة ومتقاربة من مواقفها في مسائل يعدّها اليمين المتطرّف حيوية. ومن هذه المسائل: ملف الهجرة، وضرورة السيطرة على حدود البلاد الخارجية، وتأكيده احترام الجميع وانفتاحه على تعديل قانون التقاعد، وليس إلغاؤه، واستعداده للبحث في قانون انتخابي جديد يعتمد النسبية... الأمر الذي يلائم «التجمع الوطني» بعكس قانون الدائرة الصغرى ذي الدورتين المعمول به راهناً. ولو اعتمدت النسبية لكانت لوبن قد حصلت على الأكثرية المطلقة.

بناءً على هذه المعطيات، وعدت لوبن بألا يحجب «التجمع» الثقة عن بارنييه، بعكس جبهة اليسار. وللعلم، لو صوّت اليسار واليمين المتطرف معاً على سحب الثقة من رئيس الحكومة الجديد، فإنه سيسقط حكماً باعتبار أن لديهما 337 نائباً، أي بزيادة 48 نائباً عن العدد المطلوب لإسقاط الحكومة.

في المقابل، هذا الاختيار من ماكرون حوّل لوبن إلى «صانعة رؤساء الحكومات» الذين سيكونون كالخاتم في إصبعها، بحيث تكون قادرة على إسقاطه عندما ترى أن سياسة بارنييه لا تلائمها ولا تجاري مصالح حزبها. ومن هنا، جاء هجوم اليسار و«الخضر» على ماكرون واتهامه بـ«التواطؤ» مع لوبن.

تساؤلات مشروعة

هل سيكون بارنييه قادراً على الصمود رئيساً للحكومة؟

في حديثه المطوّل للقناة الأولى في التلفزيون الفرنسي، عرض بارنييه «فلسفة» حكمه الموعود وانفتاحه على الجميع، فهو يريد أن يدشن «عصراً جديداً» في طريقة الحكم، حيث «رئيس الجمهورية يرأس، والحكومة تحكم». والأهم من ذلك أنه نوّه بـ«القدرة على التفاوض، وجعل الناس يعملون معاً، ودأبه على احترام الجميع والإصغاء لما يقولونه».

وفي رسالة مباشرة إلى اليمين المتطرف، أكد أنه «سيحترم» الـ11 مليوناً الذين صوّتوا له في الدورة الأولى، رغم تأكيده أنه «لا شيء مشترك يجمعه باليمين المتطرف على صعيد الطروحات أو الآيديولوجيا». وإذ استبعد دخول وزراء من هذا الحزب في حكومته، أبدى استعداده للبحث في القانون الانتخابي، قائلاً: «لا خطوط حمراء» تمنعه من ذلك، غير أنه لم يلتزم بأي شيء محدد.

بالتالي، يريد بارنييه حكومة من مختلف الألوان، بما في ذلك اليسار. ولذا كثّف مشاوراته مع قادة الأحزاب والمجموعات البرلمانية. لكنه يواجه مجموعة تحديات لا تنحصر بالجوانب السياسية، بل أبرزها اقتصادي مالي. إذ يتعيّن على الحكومة أن ترفع إلى مكتب المجلس النيابي مشروع الميزانية لعام 2024، وأن تعمل على خفض العجز الذي وصل راهناً إلى 5.6 في المائة، بينما المعيار الأوروبي يتوقف عند عتبة 3 في المائة.

هذا، وسبق للاتحاد فتح تحقيق رسمي بخصوص مالية فرنسا، التي إن أرادت احترام المعايير، فعليها العثور على 110 مليارات يورو إضافية حتى عام 2027. وبالتوازي، تواجه فرنسا مشكلة ديونها التي تتجاوز 3000 مليار يورو، وخدمة الديون تطأ بقوة على ميزانيتها.

الملفان الصعبان

وعليه، ثمة ملفان يهددان بإسقاط بارنييه: الأول ميزانية الدولة، والثاني اقتراح إلغاء قانون التقاعد الذي أقره البرلمان العام الماضي بصعوبة بالغة رغم تعبئة نقابية وسياسية واسعة طالت شهوراً. والواقع أن اليمين المتطرف قدّم رسمياً اقتراح قانون لمكتب المجلس بهذا الشأن، علماً أن إسقاط قانون التقاعد هو أيضاً مطلب يساري بامتياز. وبالمناسبة، بارنييه ليس من أنصار المحافظة على القانون الذي يرفع سن التقاعد إلى 64 سنة فقط، بل سبق له اقتراح 65 سنة.

وبجانب التحديات الإضافية، التي سيواجهها رئيس الحكومة الجديد، ثمة ملفات الهجرة، والقدرة الشرائية، والخدمات العامة (كالمدارس والصحة)، وقبل ذلك كله إشعار المواطن أن صوته لم يذهب سدى، وأن تغييراً حصل في وجوه المسؤولين وفي السياسة المتبعة.

من هنا، تبدو الهدية التي قدّمها ماكرون لبارنييه «مسمّمة»، فهل ستساعد الأخير خبرته السياسية وكياسته على شغل منصبه الجيد، وتحقيق شيء ما من الوعود؟

الجواب في الآتي من الأيام.

فرنسا: سيناريوهات سياسية للمستقبل

ما زالت انتخابات الرئاسة الفرنسية بعيدة، إذ لن يحين أوانها إلا مع ربيع عام 2027. ولكن منذ اليوم، السكاكين السياسية مشحوذة، وأول المبادرين كان إدوار فيليب، رئيس الوزراء السابق ورئيس حزب «هورايزون» (آفاق) المنتمي إلى «المعسكر الرئاسي»، إلى جانب حزب الرئيس إيمانويل ماكرون «النهضة» أو «معاً من أجل الجمهورية» وحزب «الحركة الديمقراطية» الوسطي، الذي يرأسه السياسي المخضرم فرنسوا بايرو، أول الداعمين لماكرون، الذي يدين له بفوزه الأول في الانتخابات الرئاسية في عام 2017، بيد أن التركيبة السياسية اليوم، في ظل غياب أكثرية نيابية تدعم الحكومة، التي يجهد ميشال بارنييه لتشكيلها، تجعل كل السيناريوهات ممكنة، بما في ذلك لجوء ماكرون إلى حل المجلس النيابي مرة جديدة بحلول يونيو (حزيران) المقبل، أي بعد مرور سنة كاملة على حلّه للمرة الأولى، وهو ما ينص عليه الدستور. إقدام ماكرون على خطوة كهذه مرجح، لأن الأمر كان بيد الرئيس الفرنسي، الذي مارس حكماً عامودياً خلال 7 سنوات، حيث الحلّ والربط في القضايا، كبيرها وصغيرها. لكن الأمور تغيّرت اليوم بفعل هزيمة معسكره في الانتخابات النيابية الأخيرة واضطراره إلى تسمية رئيس للحكومة من خارج معسكره، وتحديداً من اليمين التقليدي، الممثل بحزب «اليمين الجمهوري» الذي لم ينفك، خلال السنوات السبع المنقضية، عن التنديد بسياسات حكوماته المتعاقبة. بيد أن مواقفه تغيّرت بعدما سُمي أحد أعضائه، ميشال بارنييه، لرئاسة الحكومة. وسارع الأخير إلى رسم «خارطة طريق» لكيفية تعامله مع رئيس للجمهورية ينزع للسيطرة، بتأكيده أن «الرئيس يرأس والحكومة تحكم».إحدى قواعد السياسة أن «الكلام شيء والممارسة شيء آخر». لذا، يرى محللون أن ماكرون لن يتردد بحلّ المجلس النيابي إذا وجد أن الأمور لا تسير لصالحه، وأن «إرثه» السياسي والاقتصادي مهدد. لكنّ ثمة خطراً آخر قد يكون محدقاً به، وعنوانه «هشاشة» الحكومة التي يجهد بارنييه لتشكيلها، والتي يمكن أن تسقط في البرلمان بسحب الثقة منها إذا رأى اليمين المتطرف أن مصلحته تكمن في سقوطها، أو أنها تنتهك «الخطوط الحمراء» التي رسمها. وليس سراً أن اليسار و«الخضر»، في إطار «الجبهة الشعبية الجديدة» عازمون عند أول فرصة على طرح الثقة بها، لأنهم يرون أساساً أن السلطة سرقت منهم، وأن بارنييه لا يتمتع بالشرعية لممارستها كونه يجيء من صفوف حزب حلّ في المرتبة الرابعة في الانتخابات الأخيرة، وليس له إلا 47 نائباً في البرلمان الجديد.إذا تحقق هذا السيناريو، فإن الأزمة السياسية ستتفاقم، لأن المعطيات الأساسية للتركيبة السياسية لن تتغير. وبالتالي سيجد الرئيس ماكرون نفسه أمام حائط مسدود، بحيث لن يكون من مخرج أمامه سوى الاستقالة، مع أنه أكد غير مرة أنه باقٍ في منصبه حتى آخر يوم من ولايته الثانية، ولن يتخلى عن مسؤولياته في أي ظرف كان. احتمال الاستقالة يبرر مسارعة إدوار فيليب، الذي استقبل ماكرون الخميس في إطار الاحتفال بتحرير مدينة لو هافر، بشمال البلاد، من الاحتلال النازي، إلى الإعلان رسمياً عن ترشحه للرئاسة، سواءً في أوانها العادي (عام 2027) أو إذا قُدّم موعدها بسبب استقالة ماكرون. وليس فيليب الوحيد الذي يتحضر لهذا الاحتمال. فرئيس الحكومة السابق غبريال أتال يرنو بدوره إلى احتلال هذا المنصب، وكان يراهن على مواصلة ممارسة السلطة لفترة أطول بحيث تكون الرافعة لتحقيق طموحاته الرئاسية، ولذا ظهرت شبه القطيعة مع ماكرون والأجواء الجليدية التي تطبع علاقاتهما. ويرأس أتال راهناً المجموعة النيابية المشكلة من الحزب الرئاسي. وبالطبع، ثمة مرشحون ثابتون، مثل جان لوك ميلونشون زعيم حزب «فرنسا الأبية» اليساري، ومارين لوبن زعيمة «التجمع الوطني» اليميني المتطرف، وكلاهما يترشحان للمرة الرابعة. ثم هناك لوران فوكييز وكزافييه برتراند، الأول رئيس حزب «اليمين الجمهوري»، والثاني أحد أعضائه، وكاد يصل إلى رئاسة الحكومة، لولا الفيتو الذي رفعته لوبن بوجهه.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».