الشيخة حسينة ومحمد يونس... الطريق إلى الصدام الأخير

العاصمة دكا مسرحاً للاضطرابات قبل تنحي الشيخة حسينة ومغادرتها بنغلاديش (رويترز)
العاصمة دكا مسرحاً للاضطرابات قبل تنحي الشيخة حسينة ومغادرتها بنغلاديش (رويترز)
TT

الشيخة حسينة ومحمد يونس... الطريق إلى الصدام الأخير

العاصمة دكا مسرحاً للاضطرابات قبل تنحي الشيخة حسينة ومغادرتها بنغلاديش (رويترز)
العاصمة دكا مسرحاً للاضطرابات قبل تنحي الشيخة حسينة ومغادرتها بنغلاديش (رويترز)

> تدريجياً، تعود بنغلاديش البالغ عدد سكانها 170 مليون نسمة، جلّهم من المسلمين، إلى الحياة الطبيعية بعد أشهر من الفوضى والاحتجاجات، واستقالة كبار المسؤولين من الشرطة والقضاء وجهاز الخدمة المدنية. ولقد أُطلق سراح معظم أولئك الذين اعتُقلوا إبان الاحتجاجات، وكذلك بعض السجناء السياسيين المحتجزين، بما في ذلك البيجوم خالدة ضياء، المنافسة السياسية التقليدية للشيخة حسينة، رئيسة الحكومة السابقة. وللعلم، نشأت بنغلاديش إثر حرب الانفصال عن باكستان عام 1971. ولكن تأسيس الدولة كان أمراً بالغ الصعوبة، إذ قُتل ما يقرب من 3 ملايين شخص في الحرب، ونزح نحو 10 ملايين شخص إلى الهند، مع نزوح ما يقرب من 30 مليون شخص داخلياً بسبب الصراع. وفاقم من متاعب البلاد السياسية والأمنية أنها تعاني وضعاً محفوفاً بالمخاطر، وحدوداً جغرافية هشة، وتضربها الأعاصير العاتية بانتظام، في حين تشعر في الوقت نفسه بالتأثير المباشر لتغير المناخ وارتفاع مستويات سطح البحر.

وأما بالنسبة للدكتور محمد يونس، ففي حين كان محل إعجاب في مختلف أنحاء العالم لمساعدته الملايين من الناس على الخروج من براثن الفقر، فإنه في وطنه بنغلاديش، أكسبته شخصيته العامة عداء رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد، ابنة مؤسس البلاد الشيخ مجيب الرحمن، التي اتهمته ذات مرة بامتصاص دماء الفقراء. وجاء أول اتهام بالاختلاس بحق يونس عام 2010، عندما اتهم توم هاينمان، مخرج الأفلام الوثائقية الدنماركي، الدكتور يونس و«بنك غرامين» في أحد أفلامه بتحويل ملايين الدولارات من أموال المساعدات التي قدمتها الوكالة النرويجية للتعاون الإنمائي (نوراد). وكان عنوان ذلك الفيلم «متورط في الائتمان الصغير».

على الأثر، بدأت حكومة حسينة التحقيقات في أنشطة يونس، وأقصتْه عن منصب المدير الإداري للبنك إثر مزاعم بانتهاك قواعد التقاعد، وكان قد تجاوز ستين عاماً في ذلك الوقت. وأيَّدت محكمة بنغلاديش العليا قرار فصله في أبريل (نيسان) 2011.

الشيخة حسينة واجد... طي صفحة تاريخية وعائلية (روبترز)

يومذاك، اتهمت حسينة «بنك غرامين» باجتذاب مبالغ ضخمة من المساعدات من البلدان الغربية «من دون حدوث تغيير ملموس على أرض الواقع». وتصاعد التأزم في يناير (كانون الثاني) 2024 عندما اتُّهم يونس وثلاثة من زملائه من شركة «غرامين تيليكوم»، وهي واحدة من شركاته العديدة، بانتهاك قوانين العمل لصالح موظفيهم. ويومها حُكم عليهم بالسجن ستة أشهر، لكنَّ محكمة العمل أفرجت عنهم بكفالة، مما أتاح لهم الوقت للاستئناف أمام محكمة أعلى. وفي حينه، علّقت «منظمة العفو الدولية» بالقول إن إدانة يونس كانت «رمزاً لحالة حقوق الإنسان المحاصرة» في بنغلاديش. ولاحقاً، في يونيو (حزيران)، وجهت المحكمة إلى يونس تهمة اختلاس 2.2 مليون دولار من صندوق رعاية العمال التابع لشركة الاتصالات الخاصة به.

معلّقون ومفكّرون سياسيون رأوا أن جذور الصراع بين يونس وحسينة ترجع إلى عام 2007، عندما أعلن يونس اعتزامه تشكيل حزب سياسي، بينما أقدمت حكومة مدعومة من الجيش على سجن حسينة. والمفارقة هنا، أنه قبل ذلك، كان يونس من مناصري والد حسينة، الشيخ مجيب الرحمن. بل وعيّن يونس حسينة -مع السيدة الأميركية الأولى هيلاري كلينتون- رئيساً مشاركاً لـ«قمة الائتمان الصغير» التي عُقدت بين 2 و4 فبراير (شباط) عام 1997، وحينذاك لم يكن لدى حسينة سوى الثناء على يونس والإعجاب به.

مع كل ذلك، انتهت هذه العلاقة الطويلة عام 2007 بعدما كشف يونس عن نيته تشكيل حزب سياسي باسم «ناغوريك شاكتي» (سلطة المواطن) لإنهاء ثقافة الصدام السياسي في بنغلاديش، التي تخللتها فترات من الاضطرابات وفترات من الحكم العسكري.


مقالات ذات صلة

محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

حصاد الأسبوع محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

محمد يونس... حامل «جائزة نوبل للسلام» و«مصرفي الفقراء» يتولّى حكم بنغلاديش

في محاولة لسد الفراغ القيادي في بنغلاديش، ولو بصفة مؤقتة، عُيّنَ محمد يونس الحائز على «جائزة نوبل» والخبير الاقتصادي، كبير مستشاري الحكومة المؤقتة المدعومة من

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع داخل الجمعية الوطنية الفرنسية (آ ف ب)

فرنسا في مواجهة مأزق البرلمان المُعلق والغموض السياسي

بعد انتهاء الهدنة السياسية التي كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أعلنها بسبب الألعاب الأولمبية 2024، عادت الأنظار من جديد إلى «قصر ماتينيون»، حيث مقر رئاسة

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع 
من آثار المعارك على جبهة كورسك (رويترز)

3 «سيناريوهات» لتطور الوضع حول كورسك

لا شك في أن التوغل الأوكراني المباغت داخل الأراضي الروسية في منطقة كورسك الحدودية الأسبوع الفائت، شكّل مفاجأة صادمة لموسكو، التي انشغلت خلال الأشهر الأخيرة

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع بدا أن هاريس، عبر اختيارها لتيم والز، لا تسعى جدياً إلى تغيير مسار حزبها فقط، بل ربما الولايات المتحدة أيضاً.

تيم والز «ابن الريف الأميركي»... هل يؤشر إلى تحالف سياسي واجتماعي جديد للديمقراطيين؟

يوم الاثنين المقبل، الموافق 19 أغسطس (آب) الحالي، ينعقد المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي الأميركي «رسمياً»، لتثبيت ترشيح كامالا هاريس ونائبها تيم والز حاكم ولاية

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع هاريس (أ ب)

أميركا 2024: من حسابات الولايات المتأرجحة... إلى استعادة دوائرها المحورية

> يراهن ناخبو الحزب الديمقراطي الأميركي اليوم على تيم والز؛ لأنه يعرف لغة المناطق التي «نزف» فيها حزبهم الأصوات لعقود من الزمن.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الساحل الأفريقي... جبهة جديدة للحرب الروسية ــ الأوكرانية

ميليشيا «فاغنر»... تتحرك على أرض مالي ومنطقة الساحل (رويترز)
ميليشيا «فاغنر»... تتحرك على أرض مالي ومنطقة الساحل (رويترز)
TT

الساحل الأفريقي... جبهة جديدة للحرب الروسية ــ الأوكرانية

ميليشيا «فاغنر»... تتحرك على أرض مالي ومنطقة الساحل (رويترز)
ميليشيا «فاغنر»... تتحرك على أرض مالي ومنطقة الساحل (رويترز)

لا تتوقّف منطقة الساحل الأفريقي عن استيلاد المفاجآت، وهي التي تعيشُ على وقع حرب أهلية طاحنة منذ أكثر من 10 سنوات، إلا أنها حرب تجذب إليها يوماً بعد يوم لاعبين جدداً. وآخر هؤلاء اللاعبين كانت أوكرانيا، الساعية لمنافسة النفوذ الروسي إثر انهيار النفوذ الفرنسي والغربي في منطقة ظلت لأكثر من قرن حديقة خلفية للمنظومة الغربية. أوكرانيا التي تخوض منذ سنواتٍ حرباً شرسة ضد روسيا، تحاولُ راهناً فتحَ جبهة جديدة لهذه الحرب تبعد آلاف الكيلومترات من سهول شرق أوروبا وصقيعها، وتتأجج وسط لهيب الصحراء الكبرى... فهل تنجحُ في أن تُعيد للمنظومة الغربية نفوذها المتصدّع في الساحل الأفريقي؟

يمكنُ القول إن أوكرانيا كسبت في مالي أولَ معركة دعمت فيها المتمرّدين الطوارق، الذين دمّروا وحدة كاملة من الجيش المالي وميليشيا «فاغنر» الروسية، وراح ضحيتها عشراتُ المقاتلين الروس قبل أسبوعين. ولكن هل يا ترى ستكسبُ الحربَ في منطقة يقول التاريخ إن حروبها تنتهي من دون منتصر؟

«صدمة تينزواتين»

ساهمت ميليشيا «فاغنر» الروسية الخاصة، بشكل واضح في انتصارات الجيش المالي ضد المتمردين الطوارق والعرب، وسيطرته على مدن شمال مالي، ما منحه الكثير من الثقة وهو يشاهدُ المتمردين ينسحبون دون استماتة في القتال طيلة الأشهر الماضية.

بيد أن الصدمة وقعت حين حاولت وحدة من الجيش المالي و«فاغنر» الإطباق على بلدة تينزواتين، آخر معاقل المتمردين، على الحدود بين مالي والجزائر. فهنا واجهت كميناً مُحكماً انتهى بتدمير الوحدة العسكرية، ومقتل مئات الجنود واعتقال العشرات، وكانت تلك الخسارة الأولى والأقسى التي تتعرض لها «فاغنر» في منطقة الساحل والصحراء.

والواقع أن المتمردين لم يكتفوا بالانتصار العسكري فقط، بل حوّلوه إلى انتصار إعلامي ودعائي، إذ انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو وصور تظهر حجم الخسائر الفادحة التي تعرضت لها الميليشيا الروسية الخاصة تحديداً، ولم تترك أي مجال لإخفاء الهزيمة أو تبريرها، الأمر الذي كشف بوضوح أن المتمردين خططوا لكل شيء.

اللاعب الجديد

مباشرة بعد «معركة تينزواتين»، وما أثارته من ردود فعل واسعة عبر العالم، خرج مسؤول في الاستخبارات العسكرية الأوكرانية اسمه أندريه يوسوف، ليلمحَ إلى أن كييف قدّمت معلومات إلى المتمردين لكي يتمكنوا من الإيقاع بمقاتلي «فاغنر» والجيش المالي.

وأضاف المسؤول الاستخباراتي الأوكراني أن بلاده قدمت إلى المتمردين «كل المعلومات الضرورية التي يحتاجون إليها، وليس المعلومات فقط التي سمحت لهم بإجراء عملية عسكرية ناجحة ضد مرتكبي جرائم الحرب الروس».

ومن ثم، ذهب هذا أبعد من ذلك، حين قال في تصريحات صحافية: «سترون المزيد من هذا في المستقبل». ومن جانبه، نشر يوري بيفوفاروف، السفير الأوكراني لدى السنغال، مقطع فيديو ذكر فيه أن كييف «لعبت دوراً» في المعركة التي هُزمت فيها قوات الجيش المالي و«فاغنر»، ودعمت المتمردين الطوارق والعرب.

هذه التصريحات أسفرت عن استدعاء السفير الأوكراني من طرف السلطات السنغالية للاحتجاج على تصريحاته، كما أوفدت السلطات السنغالية وزيرها الأول عثمان سونكو إلى العاصمة المالية باماكو ليؤكد أمام الصحافيين أن «السنغال لن تسمح بأن تكون أراضيها معبراً للمساس بأمن دولة جارة مثل مالي».

وأيضاً، أعلن كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو قطع علاقاتها مع حكومة كييف، في محاولة واضحة لمحاصرة أي دور محتملٍ لأوكرانيا في الحرب الدائرة في منطقة الساحل، وهي حرب يبدو أن روسيا تريد الهيمنة عليها وحدها، دعماً للأنظمة العسكرية المتحالفة معها.

الساحل المشتعل

لقراءة أي دور محتمل قد تلعبه أوكرانيا في منطقة الساحل الأفريقي، يعتقدُ عبد الصمد مبارك، الأستاذ بجامعة نواكشوط والخبير في الشأن الأفريقي، أنه لا بد من «فهم الوضع الخاص الذي تمرّ به المنطقة»، مشيراً إلى أن «دول الساحل عموماً تعيش أزمة أمنية تتجلّى في الحروب والنزاعات المسلحة. وهذه أدّت بدورها إلى انعدام الاستقرار السياسي الناجم عن تداول ظاهرة الانقلابات العسكرية، وفرض حالة الاستثناء والطوارئ في عموم بلدان الساحل الأربعة: مالي، وبوركينا فاسو، وتشاد، والنيجر».

ويضيف مبارك، خلال حديث مع «الشرق الأوسط»، أن الوضع القائم في منطقة الساحل «فرض سياقاً جديداً بفعل تنوّع المواقف وتعدّدها من حالة الساحل بصفة عامة، خصوصاً بعد تطوّر صراع النفوذ بين القوى العظمى إزاء الأنظمة العسكرية في دول (تحالف الساحل). وهو التحالف الذي أسّس أخيراً بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو لمواجهة المخاطر في الساحل الأفريقي، وكذلك التصدي للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)».

من جانب آخر، يعتقد الأكاديمي والخبير في الشأن الأفريقي أن الوضع ازداد تعقيداً «بعد تنامي صراع النفوذ بين الحضور الاقتصادي الصيني والأطماع الدبلوماسية الأميركية والمد الأمني الروسي، مقابل تراجع النفوذ الفرنسي... مع أن فرنسا هي الحليف الاستراتيجي للدول الأفريقية منذ فترة ما بعد الاستقلال».

الحل العسكري

عبد الصمد مبارك يرى أن التطورات الأخيرة في شمال مالي «نتيجة طبيعية» للقرار الذي اتخذه المجلس العسكري الحاكم في مالي، حين تخلّى عن «اتفاقية الجزائر» الموقّعة عام 2015 مع الحركات المسلحة الساعية إلى إنشاء «حكم ذاتي» أو «نظام فيدرالي» في شمال مالي. وكانت هذه الاتفاقية قد نجحت قرابة 10 سنوات في تحقيق سلام بين باماكو والمتمردين.

جدير بالذكر أن العسكريين الذين يحكمون مالي اليوم مؤمنون بأن الخيار العسكري هو الذي سيمكنهم من استعادة السيطرة على مناطق واسعة من شمال مالي، ظلت لسنوات كثيرة خارج دائرة نفوذ الجيش المالي. وبناءً على ذلك، أطلق المجلس العسكري الحاكم قبل سنتين عملية عسكرية هدفها إعادة «توحيد» مالي.

وهنا يقول الخبير مبارك إن قرار باماكو أطلق «مواجهة ميدانية بين المتمردين والسلطات العسكرية الجديدة في دولة مالي، التي تعيشُ أصلاً أزمة شرعية في الحكم. وهذا ما جعلها تلتفت مبكراً نحو روسيا عبر قوة (فاغنر) لضمان تعزيزات أمنية لتوفير الحماية العسكرية بعد انسحاب القوات الفرنسية وتلاشي الدفاع العسكري لدول منظومة دول الساحل».

ويستطرد شارحاً أنه مع هذا الوضع «دخلت سلطات مالي في مواجهة جديدة مع جبهة من دول الميدان بقيادة الجزائر، وكذلك أفسحت المجال أمام التنظيمات التحررية في أزواد لاستجلاب حلفاء جدد. هُنا تسلّلت أوكرانيا عبر بوابة حاجة المتمردين للمساندة في مواجهة (فاغنر). وبالتالي، فتحت أوكرانيا جبهة جديدة من الصراع خارج حلبة الصراع الحقيقية على الحدود مع روسيا».

حكام مالي مؤمنون بأن الخيار العسكري سيمكنهم

من استعادة السيطرة على مناطق واسعة

من شمال البلاد

... والعلم الروسي مرفوع مع صور حكام مالي العسكريين في شوارع العاصة باماكو (رويترز)

ماذا تريد كييف؟

يعتقدُ مبارك أنه «من الطبيعي أن تصبح أوكرانيا هي اللاعب الجديد في منطقة الساحل الأفريقي من أجل مواجهة النفوذ الروسي... وهي من خلال ذلك تسعى لتحقيق عدة أهداف». ويضيف من ثم «أن أوكرانيا، وهي تدخل منطقة الساحل الأفريقي، تحتمي بالمنظومة الغربية في الخلفية، وذلك وفق مقاربة ثنائية جديدة هدفها الواضح هو إضعاف زخم الحرب في الساحة الأوروبية بين روسيا وأوكرانيا، وإبعاد النيران عن الدول الأوروبية».

وهنا، يتابع موضحاً أنه خلال السنوات الماضية كانت أوكرانيا خارج «لعبة النفوذ» في منطقة الساحل الأفريقي «غير أنها اليوم تحاولُ أن تدخل من باب التأثير على مجريات الحرب في دولة مالي. وبالتالي، تحاول أن تخلق منافذ لتأزيم الوضع وتعقيده أمام النفوذ الروسي». وهكذا، يتوقع الأكاديمي والخبير أن أوكرانيا، في البداية، «لن تكثر من خلق الأعداء، بل ستركّز جهودها على تفادي تشتت القوة واندثار محدودية التأثير المباشر على عدوها الروسي، ممثلاً في قوة (فاغنر) من خلال حضورها في الساحل، قبل أن تتوسع مجريات الأحداث حسب تعدد الأطماع وتقدّم جبهات القتال العسكري في منطقة، أصبحت اليوم مفتوحة على قوى النفوذ وتبعات متغيرات الصراع الدولي».

علبة كبريتحقاً، يمكنُ وصف منطقة الساحل الآن بأنها غداً علبة كبريت (عيدان ثقاب) مفتوحة على جميع الاحتمالات، وقابلة للانفجار في أي وقت. وهذا ما يصفه مبارك بأنه «تأزيم المتأزم أصلاً»، ويلفت إلى أن دخول سلطات كييف - المدعومة من الغرب - على الخط وفتح جبهة جديدة في الساحل لمواجهة روسيا «سيفاقم الوضع المتأزم أصلاً». ثم يشير في هذا السياق إلى أن منطقة الساحل «تحمل خلفها تاريخاً طويلاً من الصراعات المسلحة الدامية، وتعدد اللاعبين فيها يزيد من الخطر».

هذا الجانب يشرحه الخبير في الشأن الأفريقي بالقول إن «ما تحتاجه المنطقة أكثر من أي شيء آخر هو سياسة الأمر الواقع، من أجل مواجهة المخاطر المحدقة بالمنطقة بما فيها الحروب بالوكالة، والجريمة المنظمة العابرة للحدود، والإرهاب والتطرف، وعصابات تهريب البشر والشبكات المنظمة للهجرة غير الشرعية... وكلها ظواهر أصبحت عملة متداولة في جُلّ بلدان الساحل الخمسة، باستثناء موريتانيا».

كذلك، يضيف أن كل ما سبق «يخلق حالة من انعدام الاستقرار السياسي، ممزوجة بالعمل العسكري في منطقة مفتوحة على كل الاحتمالات»، قبل أن يشير إلى أن هذه «تحديات وجودية ذات طابعٍ أمني وتنموي، قد تعصف بكيان هذه الدول التي يهددها الفقر والتخلف الاقتصادي، زيادة على الهاجس الأمني وعدم شرعية الأنظمة السياسية القائمة».

تفادي الأسوأفي الحقيقة، لا يعول الخبراء في الشأن الأفريقي على استنباط حل ناجع من المنظومة الدولية، وهذا بسبب الصراع الدائر بين المنظومة الغربية والمعسكر الشرقي، وبسبب فشل التجارب السابقة التي قادتها فرنسا والاتحاد الأوروبي على امتداد 10 سنوات... وكلها لم تفضِ إلى أي نتيجة في دول الساحل.بناءً عليه، يتجه الخبراء نحو البحث عن حلول محلية، ولكنها هي الأخرى تواجه مشاكل كبيرة بسبب الخلافات والصراعات وغياب الإرادة السياسية. وهنا يرى مبارك أن «المشهد السياسي الوليد في الساحل الأفريقي له تداعيات خطيرة على المنطقة بصفة عامة، ما يتطلب عملاً محكماً واستباقياً يمكّنُ من تفادي انزلاق المنطقة نحو المجهول، في ظل تنامي الوضع الأمني المغلق ودخول فاعلين جدد لهم أجندات خاصة وحسابات خارج السياق الأفريقي المتأزم أصلاً».

 

 

عقبات دون توسّط «دول الجوار»... الجزائر وموريتانيا بالذات

> يعتقدُ عبد الصمد مبارك، الأكاديمي الخبير في الشأن الأفريقي، أن «الوضع القائم في مالي ومنطقة الساحل يتطلب دوراً محورياً لدول الجوار الأفريقي، وبخاصة تلك التي تمتلك مستوى معيناً من التأثير العسكري والأمني والسياسي على دول الساحل؛ على غرار الجزائر وموريتانيا».ويضيف أن دولاً مثل الجزائر وموريتانيا تستطيع أن تلعب دوراً في «انتشال المنطقة من مستنقع الصراعات الضيقة المدمرة، التي قد تكون لها تداعيات جد خطيرة على مستقبل بقاء الدولة المركزية في مالي، وغيرها من الكيانات المماثلة».في المقابل، يبقى احتمال تحرك الدولتين مستبعداً، أولاً لأن علاقات الحكمين في الجزائر ومالي تمرّ بفترة من التوتر غير المسبوق. إذ اتهمت باماكو السلطات الجزائرية بدعم المتمردين الطوارق والعرب، بينما ترفض الجزائر هذه الاتهامات، وتأخذ على باماكو الانسحاب من اتفاق السلام، الموقع فيها عام 2015، الذي ترى الجزائر أنه السبيل الوحيد للخروج من الأزمة الأمنية في مالي.أما بالنسبة لموريتانيا، فهي الأكثر إحراجاً. ذلك أنها تستقبل حالياً قرابة 200 ألف لاجئ مالي على أراضيها، ولقد تضرّرت خلال الأشهر الأخيرة من الحرب الدائرة في مالي بشكل مباشر، بسبب اقتحام ميليشيا «فاغنر» عدة قرى موريتانية في المنطقة الحدودية المشتركة، ما أسفر عن قتل عشرات الموريتانيين وتهجير المئات من هذه المنطقة.هذا، ومع أن نواكشوط حافظت على علاقاتها جيدة مع الحكام العسكريين في باماكو، فإنها بعثت إليهم برسائل عسكرية، وأجرى الجيش الموريتاني مناورات عسكرية على الحدود مع مالي، وأعلن عن اقتناء أسلحة جديدة، من ضمنها مسيرات مسلحة. وأكد أيضاً الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، في عدة مناسبات خلال الأسابيع الأخيرة، أنه «لن يتسامح مع أي تهديد للأمن الموريتاني».وبالتالي، ليست نواكشوط في موقع يمكّنها من محاولة لعب أي دور دبلوماسي في الأزمة التي تعيشها جارتها مالي، وهي التي تعارض بصمت قرار باماكو الاستعانة بميليشيا «فاغنر» والسماح لعناصرها بالاقتراب من حدودها.