الساحل الأفريقي... جبهة جديدة للحرب الروسية ــ الأوكرانية

«قنبلة موقوتة» في مالي: «فاغنر» تدعم الجيش ... وكييف مع المتمردين

ميليشيا «فاغنر»... تتحرك على أرض مالي ومنطقة الساحل (رويترز)
ميليشيا «فاغنر»... تتحرك على أرض مالي ومنطقة الساحل (رويترز)
TT

الساحل الأفريقي... جبهة جديدة للحرب الروسية ــ الأوكرانية

ميليشيا «فاغنر»... تتحرك على أرض مالي ومنطقة الساحل (رويترز)
ميليشيا «فاغنر»... تتحرك على أرض مالي ومنطقة الساحل (رويترز)

لا تتوقّف منطقة الساحل الأفريقي عن استيلاد المفاجآت، وهي التي تعيشُ على وقع حرب أهلية طاحنة منذ أكثر من 10 سنوات، إلا أنها حرب تجذب إليها يوماً بعد يوم لاعبين جدداً. وآخر هؤلاء اللاعبين كانت أوكرانيا، الساعية لمنافسة النفوذ الروسي إثر انهيار النفوذ الفرنسي والغربي في منطقة ظلت لأكثر من قرن حديقة خلفية للمنظومة الغربية. أوكرانيا التي تخوض منذ سنواتٍ حرباً شرسة ضد روسيا، تحاولُ راهناً فتحَ جبهة جديدة لهذه الحرب تبعد آلاف الكيلومترات من سهول شرق أوروبا وصقيعها، وتتأجج وسط لهيب الصحراء الكبرى... فهل تنجحُ في أن تُعيد للمنظومة الغربية نفوذها المتصدّع في الساحل الأفريقي؟

يمكنُ القول إن أوكرانيا كسبت في مالي أولَ معركة دعمت فيها المتمرّدين الطوارق، الذين دمّروا وحدة كاملة من الجيش المالي وميليشيا «فاغنر» الروسية، وراح ضحيتها عشراتُ المقاتلين الروس قبل أسبوعين. ولكن هل يا ترى ستكسبُ الحربَ في منطقة يقول التاريخ إن حروبها تنتهي من دون منتصر؟

«صدمة تينزواتين»

ساهمت ميليشيا «فاغنر» الروسية الخاصة، بشكل واضح في انتصارات الجيش المالي ضد المتمردين الطوارق والعرب، وسيطرته على مدن شمال مالي، ما منحه الكثير من الثقة وهو يشاهدُ المتمردين ينسحبون دون استماتة في القتال طيلة الأشهر الماضية.

بيد أن الصدمة وقعت حين حاولت وحدة من الجيش المالي و«فاغنر» الإطباق على بلدة تينزواتين، آخر معاقل المتمردين، على الحدود بين مالي والجزائر. فهنا واجهت كميناً مُحكماً انتهى بتدمير الوحدة العسكرية، ومقتل مئات الجنود واعتقال العشرات، وكانت تلك الخسارة الأولى والأقسى التي تتعرض لها «فاغنر» في منطقة الساحل والصحراء.

والواقع أن المتمردين لم يكتفوا بالانتصار العسكري فقط، بل حوّلوه إلى انتصار إعلامي ودعائي، إذ انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو وصور تظهر حجم الخسائر الفادحة التي تعرضت لها الميليشيا الروسية الخاصة تحديداً، ولم تترك أي مجال لإخفاء الهزيمة أو تبريرها، الأمر الذي كشف بوضوح أن المتمردين خططوا لكل شيء.

اللاعب الجديد

مباشرة بعد «معركة تينزواتين»، وما أثارته من ردود فعل واسعة عبر العالم، خرج مسؤول في الاستخبارات العسكرية الأوكرانية اسمه أندريه يوسوف، ليلمحَ إلى أن كييف قدّمت معلومات إلى المتمردين لكي يتمكنوا من الإيقاع بمقاتلي «فاغنر» والجيش المالي.

وأضاف المسؤول الاستخباراتي الأوكراني أن بلاده قدمت إلى المتمردين «كل المعلومات الضرورية التي يحتاجون إليها، وليس المعلومات فقط التي سمحت لهم بإجراء عملية عسكرية ناجحة ضد مرتكبي جرائم الحرب الروس».

ومن ثم، ذهب هذا أبعد من ذلك، حين قال في تصريحات صحافية: «سترون المزيد من هذا في المستقبل». ومن جانبه، نشر يوري بيفوفاروف، السفير الأوكراني لدى السنغال، مقطع فيديو ذكر فيه أن كييف «لعبت دوراً» في المعركة التي هُزمت فيها قوات الجيش المالي و«فاغنر»، ودعمت المتمردين الطوارق والعرب.

هذه التصريحات أسفرت عن استدعاء السفير الأوكراني من طرف السلطات السنغالية للاحتجاج على تصريحاته، كما أوفدت السلطات السنغالية وزيرها الأول عثمان سونكو إلى العاصمة المالية باماكو ليؤكد أمام الصحافيين أن «السنغال لن تسمح بأن تكون أراضيها معبراً للمساس بأمن دولة جارة مثل مالي».

وأيضاً، أعلن كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو قطع علاقاتها مع حكومة كييف، في محاولة واضحة لمحاصرة أي دور محتملٍ لأوكرانيا في الحرب الدائرة في منطقة الساحل، وهي حرب يبدو أن روسيا تريد الهيمنة عليها وحدها، دعماً للأنظمة العسكرية المتحالفة معها.

الساحل المشتعل

لقراءة أي دور محتمل قد تلعبه أوكرانيا في منطقة الساحل الأفريقي، يعتقدُ عبد الصمد مبارك، الأستاذ بجامعة نواكشوط والخبير في الشأن الأفريقي، أنه لا بد من «فهم الوضع الخاص الذي تمرّ به المنطقة»، مشيراً إلى أن «دول الساحل عموماً تعيش أزمة أمنية تتجلّى في الحروب والنزاعات المسلحة. وهذه أدّت بدورها إلى انعدام الاستقرار السياسي الناجم عن تداول ظاهرة الانقلابات العسكرية، وفرض حالة الاستثناء والطوارئ في عموم بلدان الساحل الأربعة: مالي، وبوركينا فاسو، وتشاد، والنيجر».

ويضيف مبارك، خلال حديث مع «الشرق الأوسط»، أن الوضع القائم في منطقة الساحل «فرض سياقاً جديداً بفعل تنوّع المواقف وتعدّدها من حالة الساحل بصفة عامة، خصوصاً بعد تطوّر صراع النفوذ بين القوى العظمى إزاء الأنظمة العسكرية في دول (تحالف الساحل). وهو التحالف الذي أسّس أخيراً بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو لمواجهة المخاطر في الساحل الأفريقي، وكذلك التصدي للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)».

من جانب آخر، يعتقد الأكاديمي والخبير في الشأن الأفريقي أن الوضع ازداد تعقيداً «بعد تنامي صراع النفوذ بين الحضور الاقتصادي الصيني والأطماع الدبلوماسية الأميركية والمد الأمني الروسي، مقابل تراجع النفوذ الفرنسي... مع أن فرنسا هي الحليف الاستراتيجي للدول الأفريقية منذ فترة ما بعد الاستقلال».

الحل العسكري

عبد الصمد مبارك يرى أن التطورات الأخيرة في شمال مالي «نتيجة طبيعية» للقرار الذي اتخذه المجلس العسكري الحاكم في مالي، حين تخلّى عن «اتفاقية الجزائر» الموقّعة عام 2015 مع الحركات المسلحة الساعية إلى إنشاء «حكم ذاتي» أو «نظام فيدرالي» في شمال مالي. وكانت هذه الاتفاقية قد نجحت قرابة 10 سنوات في تحقيق سلام بين باماكو والمتمردين.

جدير بالذكر أن العسكريين الذين يحكمون مالي اليوم مؤمنون بأن الخيار العسكري هو الذي سيمكنهم من استعادة السيطرة على مناطق واسعة من شمال مالي، ظلت لسنوات كثيرة خارج دائرة نفوذ الجيش المالي. وبناءً على ذلك، أطلق المجلس العسكري الحاكم قبل سنتين عملية عسكرية هدفها إعادة «توحيد» مالي.

وهنا يقول الخبير مبارك إن قرار باماكو أطلق «مواجهة ميدانية بين المتمردين والسلطات العسكرية الجديدة في دولة مالي، التي تعيشُ أصلاً أزمة شرعية في الحكم. وهذا ما جعلها تلتفت مبكراً نحو روسيا عبر قوة (فاغنر) لضمان تعزيزات أمنية لتوفير الحماية العسكرية بعد انسحاب القوات الفرنسية وتلاشي الدفاع العسكري لدول منظومة دول الساحل».

ويستطرد شارحاً أنه مع هذا الوضع «دخلت سلطات مالي في مواجهة جديدة مع جبهة من دول الميدان بقيادة الجزائر، وكذلك أفسحت المجال أمام التنظيمات التحررية في أزواد لاستجلاب حلفاء جدد. هُنا تسلّلت أوكرانيا عبر بوابة حاجة المتمردين للمساندة في مواجهة (فاغنر). وبالتالي، فتحت أوكرانيا جبهة جديدة من الصراع خارج حلبة الصراع الحقيقية على الحدود مع روسيا».

حكام مالي مؤمنون بأن الخيار العسكري سيمكنهم

من استعادة السيطرة على مناطق واسعة

من شمال البلاد

... والعلم الروسي مرفوع مع صور حكام مالي العسكريين في شوارع العاصة باماكو (رويترز)

ماذا تريد كييف؟

يعتقدُ مبارك أنه «من الطبيعي أن تصبح أوكرانيا هي اللاعب الجديد في منطقة الساحل الأفريقي من أجل مواجهة النفوذ الروسي... وهي من خلال ذلك تسعى لتحقيق عدة أهداف». ويضيف من ثم «أن أوكرانيا، وهي تدخل منطقة الساحل الأفريقي، تحتمي بالمنظومة الغربية في الخلفية، وذلك وفق مقاربة ثنائية جديدة هدفها الواضح هو إضعاف زخم الحرب في الساحة الأوروبية بين روسيا وأوكرانيا، وإبعاد النيران عن الدول الأوروبية».

وهنا، يتابع موضحاً أنه خلال السنوات الماضية كانت أوكرانيا خارج «لعبة النفوذ» في منطقة الساحل الأفريقي «غير أنها اليوم تحاولُ أن تدخل من باب التأثير على مجريات الحرب في دولة مالي. وبالتالي، تحاول أن تخلق منافذ لتأزيم الوضع وتعقيده أمام النفوذ الروسي». وهكذا، يتوقع الأكاديمي والخبير أن أوكرانيا، في البداية، «لن تكثر من خلق الأعداء، بل ستركّز جهودها على تفادي تشتت القوة واندثار محدودية التأثير المباشر على عدوها الروسي، ممثلاً في قوة (فاغنر) من خلال حضورها في الساحل، قبل أن تتوسع مجريات الأحداث حسب تعدد الأطماع وتقدّم جبهات القتال العسكري في منطقة، أصبحت اليوم مفتوحة على قوى النفوذ وتبعات متغيرات الصراع الدولي».

علبة كبريتحقاً، يمكنُ وصف منطقة الساحل الآن بأنها غداً علبة كبريت (عيدان ثقاب) مفتوحة على جميع الاحتمالات، وقابلة للانفجار في أي وقت. وهذا ما يصفه مبارك بأنه «تأزيم المتأزم أصلاً»، ويلفت إلى أن دخول سلطات كييف - المدعومة من الغرب - على الخط وفتح جبهة جديدة في الساحل لمواجهة روسيا «سيفاقم الوضع المتأزم أصلاً». ثم يشير في هذا السياق إلى أن منطقة الساحل «تحمل خلفها تاريخاً طويلاً من الصراعات المسلحة الدامية، وتعدد اللاعبين فيها يزيد من الخطر».

هذا الجانب يشرحه الخبير في الشأن الأفريقي بالقول إن «ما تحتاجه المنطقة أكثر من أي شيء آخر هو سياسة الأمر الواقع، من أجل مواجهة المخاطر المحدقة بالمنطقة بما فيها الحروب بالوكالة، والجريمة المنظمة العابرة للحدود، والإرهاب والتطرف، وعصابات تهريب البشر والشبكات المنظمة للهجرة غير الشرعية... وكلها ظواهر أصبحت عملة متداولة في جُلّ بلدان الساحل الخمسة، باستثناء موريتانيا».

كذلك، يضيف أن كل ما سبق «يخلق حالة من انعدام الاستقرار السياسي، ممزوجة بالعمل العسكري في منطقة مفتوحة على كل الاحتمالات»، قبل أن يشير إلى أن هذه «تحديات وجودية ذات طابعٍ أمني وتنموي، قد تعصف بكيان هذه الدول التي يهددها الفقر والتخلف الاقتصادي، زيادة على الهاجس الأمني وعدم شرعية الأنظمة السياسية القائمة».

تفادي الأسوأفي الحقيقة، لا يعول الخبراء في الشأن الأفريقي على استنباط حل ناجع من المنظومة الدولية، وهذا بسبب الصراع الدائر بين المنظومة الغربية والمعسكر الشرقي، وبسبب فشل التجارب السابقة التي قادتها فرنسا والاتحاد الأوروبي على امتداد 10 سنوات... وكلها لم تفضِ إلى أي نتيجة في دول الساحل.بناءً عليه، يتجه الخبراء نحو البحث عن حلول محلية، ولكنها هي الأخرى تواجه مشاكل كبيرة بسبب الخلافات والصراعات وغياب الإرادة السياسية. وهنا يرى مبارك أن «المشهد السياسي الوليد في الساحل الأفريقي له تداعيات خطيرة على المنطقة بصفة عامة، ما يتطلب عملاً محكماً واستباقياً يمكّنُ من تفادي انزلاق المنطقة نحو المجهول، في ظل تنامي الوضع الأمني المغلق ودخول فاعلين جدد لهم أجندات خاصة وحسابات خارج السياق الأفريقي المتأزم أصلاً».

 

 

عقبات دون توسّط «دول الجوار»... الجزائر وموريتانيا بالذات

> يعتقدُ عبد الصمد مبارك، الأكاديمي الخبير في الشأن الأفريقي، أن «الوضع القائم في مالي ومنطقة الساحل يتطلب دوراً محورياً لدول الجوار الأفريقي، وبخاصة تلك التي تمتلك مستوى معيناً من التأثير العسكري والأمني والسياسي على دول الساحل؛ على غرار الجزائر وموريتانيا».ويضيف أن دولاً مثل الجزائر وموريتانيا تستطيع أن تلعب دوراً في «انتشال المنطقة من مستنقع الصراعات الضيقة المدمرة، التي قد تكون لها تداعيات جد خطيرة على مستقبل بقاء الدولة المركزية في مالي، وغيرها من الكيانات المماثلة».في المقابل، يبقى احتمال تحرك الدولتين مستبعداً، أولاً لأن علاقات الحكمين في الجزائر ومالي تمرّ بفترة من التوتر غير المسبوق. إذ اتهمت باماكو السلطات الجزائرية بدعم المتمردين الطوارق والعرب، بينما ترفض الجزائر هذه الاتهامات، وتأخذ على باماكو الانسحاب من اتفاق السلام، الموقع فيها عام 2015، الذي ترى الجزائر أنه السبيل الوحيد للخروج من الأزمة الأمنية في مالي.أما بالنسبة لموريتانيا، فهي الأكثر إحراجاً. ذلك أنها تستقبل حالياً قرابة 200 ألف لاجئ مالي على أراضيها، ولقد تضرّرت خلال الأشهر الأخيرة من الحرب الدائرة في مالي بشكل مباشر، بسبب اقتحام ميليشيا «فاغنر» عدة قرى موريتانية في المنطقة الحدودية المشتركة، ما أسفر عن قتل عشرات الموريتانيين وتهجير المئات من هذه المنطقة.هذا، ومع أن نواكشوط حافظت على علاقاتها جيدة مع الحكام العسكريين في باماكو، فإنها بعثت إليهم برسائل عسكرية، وأجرى الجيش الموريتاني مناورات عسكرية على الحدود مع مالي، وأعلن عن اقتناء أسلحة جديدة، من ضمنها مسيرات مسلحة. وأكد أيضاً الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، في عدة مناسبات خلال الأسابيع الأخيرة، أنه «لن يتسامح مع أي تهديد للأمن الموريتاني».وبالتالي، ليست نواكشوط في موقع يمكّنها من محاولة لعب أي دور دبلوماسي في الأزمة التي تعيشها جارتها مالي، وهي التي تعارض بصمت قرار باماكو الاستعانة بميليشيا «فاغنر» والسماح لعناصرها بالاقتراب من حدودها.


مقالات ذات صلة

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».