الشيخة حسينة واجد «وارثة» زعامة بنغلاديش تودّع السلطة بعد حكم استمر 15 سنة متصلة

تحت وطأة تراكم المعارضة الشعبية والعسكرية

كانت فترة ولاية حسينة في رئاسة حزب «رابطة عوامي» بمثابة بداية كفاح دام عقداً شهد إخضاعها لفترات طويلة من الإقامة الجبرية
كانت فترة ولاية حسينة في رئاسة حزب «رابطة عوامي» بمثابة بداية كفاح دام عقداً شهد إخضاعها لفترات طويلة من الإقامة الجبرية
TT
20

الشيخة حسينة واجد «وارثة» زعامة بنغلاديش تودّع السلطة بعد حكم استمر 15 سنة متصلة

كانت فترة ولاية حسينة في رئاسة حزب «رابطة عوامي» بمثابة بداية كفاح دام عقداً شهد إخضاعها لفترات طويلة من الإقامة الجبرية
كانت فترة ولاية حسينة في رئاسة حزب «رابطة عوامي» بمثابة بداية كفاح دام عقداً شهد إخضاعها لفترات طويلة من الإقامة الجبرية

انزلقت بنغلاديش، إحدى أكبر دول العالم الإسلامي والقارة الآسيوية، من حيث عدد السكان، خلال الأسبوع الماضي إلى حالة من الفوضى. وفي تحوّل دراماتيكي استقالت رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد، بعد حكم استمر 15 سنة، وفرّت من البلاد. وبفرارها في اللحظة الأخيرة إلى الهند، نجت من غضب آلاف المحتجين الذين اقتحموا مقر إقامتها الرسمي. وما يُذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها الشيخة حسينة إلى الهند؛ إذ وجدت نفسها وشقيقتها ريحانة في الهند قبل 49 سنة. ففي عام 1975، طلبت حسينة وريحانة مساعدة نيودلهي بعدما قتل عسكريون متمردون والدهما الشيخ مجيب الرحمن مع سبعة من أفراد الأسرة، بينهم أخوهما راسل البالغ 10 سنوات. ونجحت حسينة في الهروب؛ لأنها كانت في ألمانيا مع زوجها وريحانة. ومن جهته، أكد قائد الجيش، وقر الزمان، الذي تربطه بحسينة أواصر عائلية، باعتباره زوج ابنة عمها، أن الشيخة استقالت من منصبها رئيسةً للوزراء وغادرت البلاد. وأردف إن حكومة مؤقتة قيد التشكيل، طالباً من الشعب التعاون سلمياً.

على الرغم من رحيل الشيخة حسينة واجد واستيلاء الجيش على السلطة في بنغلاديش، استمرت أعمال العنف والتخريب في جميع أنحاء البلاد. وأعقب ذلك الاتفاق على تعيين الدكتور محمد يونس، الخبير الاقتصادي الحائز جائزة نوبل، رئيساً للحكومة المؤقتة بالبلاد، وفقاً لما أعلنه السكرتير الصحافي للرئيس محمد شهاب الدين.

هذا، وأبدى يونس استعداده لتشكيل حكومة مؤقتة، مقدّراً «ثقة المحتجين الذين يتمنون لي قيادة الحكومة المؤقتة». ودعا إلى إجراء «انتخابات حرة».

الشيخة حسينة ونسبها

وُلدت الشيخة حسينة لعائلة مسلمة في شرق البنغال عام 1947، أي ما كانت تعرف بباكستان الشرقية، لأبويها البيجوم الشيخة فضيلة النساء مجيب (المتحدرة من أصل بغدادي عراقي) والشيخ مجيب الرحمن، ابن أسرة شيخ، والأب المؤسس لبنغلاديش وأول رئيس للبلاد. وداخل حرم جامعة دكا، كبرى جامعات البلاد والعاصمة، صعد نجم حسينة قياديةً طلابيةً نشطة.

ثم تزوّجت حسينة من عالم فيزياء بنغلاديشي محترم اسمه محمد واجد ميا، الذي تولى لفترة رئاسة هيئة الطاقة الذرية في بنغلاديش. وتوفي ميا، عام 2009 عن عمر يناهز 67 سنة بعد مرض طويل. ولقد أنجب الزوجان ولداً سمَّياه ساجيب جوي (53 سنة) وبنتاً هي سايما (51 سنة).

تأسيس بنغلاديش

بعد تأسيس بنغلاديش المستقلة، في أعقاب انفصال باكستان الشرقية عن باكستان (باكستان الغربية في حينه) تسلّل التوتر إلى صفوف الجيش جرّاء شعور العسكريين الذين رفضوا التمرّد على وحدة باكستان - قبل الحرب - بالتمييز ضدهم. ثم دفع تزايد السخط على الشيخ مجيب الرحمن وحزبه «رابطة عوامي»، بعض الجنود الشباب إلى اغتياله وعائلته بالكامل؛ ما مهّد الطريق لانقلاب عسكري.

يومذاك، نجت حسينة وشقيقتها ريحانة من الموت لأنهما كانتا في ألمانيا، برفقة زوج حسينة الفيزيائي الراحل واجد مياه. وبالتالي، لم تتمكنا من العودة إلى بنغلاديش، الغارقة بالفوضى والدماء.

وفي مقابلة أُجريت معها، روت حسينة أهوال عام 1975، قائلة: «لقد حدث ذلك فجأة. قبل 15 يوماً فقط، غادرت أنا وأختي البلاد، وذهبنا إلى ألمانيا حيث كان زوجي العالم النووي يجري أبحاثه ما بعد الدكتوراه هناك. ولأن زوجي كان مقيماً في الخارج، اعتدت أن أعيش في المنزل نفسه (مع والديّ). في ذلك اليوم، كان الجميع هناك: والدي، وأمي، وإخوتي الثلاثة، وزوجاتهم. كان الجميع هناك. وجاءوا إلى المطار جميعاً لتوديعنا. كان ذلك هو اليوم الأخير لنا معاً، كما تعلمون. لقد قتلوا 18 فرداً من عائلتي، بما في ذلك شقيقي الأصغر 10 سنوات».

وتابعت حسينة إن رئيسة الوزراء الهندية السابقة أنديرا غاندي أبلغتها استعداد الهند منحها الأمن والمأوى. وبالفعل، انتقلت إلى دلهي، وعاشت هي وباقي عائلتها، الذين قدِموا إلى الهند بعد علمهم بالمجزرة، في منزل بالعاصمة الهندية تحت حراسة أمنية مشددة؛ خوفاً على حياتهم.

وذكرت حسينة أنها وأفراد أسرتها اضطروا إلى تغيير أسمائهم كي يتمكنوا من البقاء على قيد الحياة في المنفى، والنجاة من المصير الذي لقيه والداها وأقاربها الآخرون. ومع أنها فكرت في العودة إلى بنغلاديش، بيد أنها لم تفكر قط في تحمل «مسؤولية مثل هذا الحزب الضخم».

في المعترك السياسي

في ثمانينات القرن العشرين، أخذت الأمور تتغيّر. إذ سافرت الشيخة حسينة إلى بلدان عدة، وألقت كلمة في اجتماع عام يوم 16 من أغسطس (آب) 1980 في لندن، مطالبة بمحاكمة قتلة أسرتها. وجاء ذلك بعدما طالبت شقيقتها بالأمر ذاته في خطاب ألقته في السويد. وواصلت حسينة حملتها لتقديم قتلة أسرتها إلى العدالة، وقد شاركت فيها شخصيات مرموقة. وفي هذا الوقت، أعلنت «رابطة عوامي» حسينة زعيمة للحزب أثناء غيابها.

وفي نهاية المطاف، أنهت الشيخة حسينة بالفعل، منفاها في العاصمة الهندية، وعادت إلى بنغلاديش يوم مايو (أيار) 1981.

كانت فترة ولاية حسينة في رئاسة حزب «رابطة عوامي» بمثابة بداية كفاح دام عقداً شهد إخضاعها لفترات طويلة من الإقامة الجبرية. ففي نوفمبر (تشرين الأول) 1987، تعرّضت للاستهداف من جانب الديكتاتور العسكري الجنرال محمد حسين إرشاد.

التنافس «الثنائي» مع خالدة ضياء

بعدها، فاجأت حسينة كثيرين عندما انضمت إلى البيجوم خالدة ضياء - أرملة قائد الجيش السابق ومؤسس «الحزب الوطني البنغلاديشي»، ضياء الرحمن - بهدف إطاحة إرشاد. وبحلول عام 1990، خرج مئات الآلاف إلى شوارع العاصمة دكا للمطالبة باستقالة إرشاد.

ومع أن إرشاد حاول التشبث بالسلطة بإعلان حالة الطوارئ، فإنه أُجبِر بالنتيجة على الاستقالة. لكن «الاتفاق» بين الشيخة حسينة والبيجوم خالدة لم يطُل. ومنذ ذلك الحين، هيمنت العائلتان المتنافستان على الساحة السياسية في البلاد. ولقد قبعت خالدة قيد الإقامة الجبرية، تقاوم ما تقول إنها اتهامات فساد ملفقة، حتى أُطلق سراحها، الاثنين الماضي؛ بناءً على أوامر الرئيس محمد شهاب الدين.

للعلم، في عام 1991، «استولى الحزب الوطني البنغلاديشي» على السلطة، وأصبحت الشيخة حسينة زعيمة المعارضة الرئيسية. لكن الإعصار الذي ضرب بنغلاديش عام 1991 وأسفر عن مقتل 140000 شخص، أعطى مسيرة حسينة دفعاً جديداً. وبعد خمس سنوات، عام 1996، نُصّبت رئيسة وزراء لبنغلاديش.

وطبقاً لتقارير صحافية يعتد بها، شهدت ولاية حسينة الأولى خطوات كبيرة في اتجاه تحرير الاقتصاد وتعزيز الاستثمارات الأجنبية ورفع مستويات المعيشة، بما في ذلك تحسين مجالي الرعاية الصحية والتعليم. أيضاً، تحولت بنغلاديش قوةً بارزةً على صعيد الصناعة العالمية للملابس. لكن مع ذلك، رغم هذه الإنجازات، فقدت حسينة السلطة عام 2001 لصالح البيجوم خالدة. وأدى التنافس بين السيدتين، الذي أطلق عليه «البيجومات المتصارعات»، إلى اشتعال صراع سياسي كبير، شهد أعمال عنف وقتل خارج نطاق القضاء. بعدها، عام 2004، نجت حسينة بأعجوبة من محاولة اغتيال إثر انفجار قنبلة يدوية في تجمع جماهيري. وعام 2007، حكمت كل من حسينة وخالدة بالسجن بتهم فساد بعد انقلاب عسكري ذلك العام. إلا أن التهم أسقطت لاحقاً فأتيح لهما التنافس في الانتخابات التالية. وأخيراً، عام 2008، حققت الشيخة حسينة نصراً انتخابياً كبيراً، وظلت في منصبها حتى اضطرارها إلى الاستقالة هذا الشهر.

وداعها للساحة السياسية

من جهته، قال ساجيب (جوي)، نجل الشيخة حسينة ومستشارها، في مقابلة إنها لن تعود إلى السياسة مرة أخرى، وأكد أنها غادرت البلاد من أجل سلامتها؛ بناءً على إصرار عائلتها. وتابع ساجيب، المقيم بريطانيا، إن والدته «كانت محبطة للغاية من شعب بنغلاديش؛ بسبب طريقة معاملتهم لها، بعدما فعلت الكثير من أجله».

وتابع أن أمه «عندما تولت السلطة كانت بنغلاديش تُعدّ دولة فاشلة ودولة فقيرة، أما اليوم، فتعتبر من نمور آسيا الصاعدة». وأردف: «إنها تشعر بخيبة أمل كبيرة، ولن تعود إلى السياسة، فهي تبلغ من العمر 77 سنة وكانت هذه ستكون ولايتها الأخيرة. كونها ستتقاعد بعد ذلك على أي حال». واختتم كلامه بمرارة: «اتخذ الناس خيارهم، وسيحصلون على القيادة التي يستحقون. لقد مرّت عائلتي بهذا ثلاث مرات - ثلاثة انقلابات، وانتهى الأمر من وجهة نظرنا. لقد سئمنا من إنقاذ بنغلاديش».

ما يجدر ذكره، أن بنغلاديش، التي كانت إحدى أفقر دول العالم عندما استقلت عن باكستان عام 1971، شهدت نمواً بمعدل يزيد على 6 في المائة سنوياً منذ عام 2009. وانخفضت فيها معدلات الفقر بشكل حاد، فبات بمقدور أكثر من 95 في المائة من سكان البلاد البالغ عددهم 170 مليون نسمة، الحصول على الكهرباء، مع تجاوز نصيب الفرد في الدخل نظيره في الهند عام 2021.


مقالات ذات صلة

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب

حصاد الأسبوع 
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب

في إطار الحرب التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، يمكن ملاحظة وجود تصعيد تدريجي ومتبادل في الرسوم الجمركية بين البلدين. هذا التصعيد يعكس اتجاهات السياسة الاقتصادية التي تعتمدها الدولتان، حيث تتمثل الولايات المتحدة في دور المبادر في فرض الرسوم الجمركية، بينما تتبع الصين استراتيجية الردّ المتدرج. في البداية، بدأت الولايات المتحدة بزيادة الرسوم الجمركية بشكل حاد وسريع من 10% في فبراير (شباط) الماضي إلى 145% في 10 أبريل (نيسان) الجاري، وهو ما يعكس رغبة الإدارة الأميركية الحالية في ممارسة ضغط اقتصادي كبير على الصين. في المقابل، قامت الصين، في البداية، بالرد بنسب أقل (10% و15% جزئياً) غير أنها رفعت النسبة بشكل تدريجي حتى وصلت إلى 125% بحلول 11 أبريل، ما يبرز توجهاً أكثر حذراً من جانبها في التعامل مع التصعيد.

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ منهياً جولته الآسيوية الأخيرة وبجواره ملك كمبوديا نورودم سيهاميني في مطار العاصمة الكمبودية بنوم بنه (أ.ب)

دعوة للتعقُّل تجنباً لحرب بلا منتصر

تُشكّل العلاقات الصينية ـ الأميركية اليوم أكبر اختبار لقدرة العالم على التعايش في ظل التحولات الجذرية في موازين القوى. ولا أحد ينكر أن التنافس موجود.

حصاد الأسبوع رياك مشار

رياك مشار... سياسي مخضرم لعب دوراً حيوياً في تاريخ جنوب السودان

مجدداً يبرز اسم رياك مشار، السياسي المخضرم والمثير للجدل، وسط مخاوف من أن تدخل دولة جنوب السودان نفق حرب أهلية أخرى، قبل أن تتعافى من تداعيات سابقتها، التي انتهت عام 2018. مشار، الذي يشغل منصب نائب الرئيس، وُضع أخيراً تحت الإقامة الجبرية، ما يمثل أحدث منعطف في علاقته المضطربة مع رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت. وما يجدر ذكره أن مشار لعب دوراً بارزاً في تاريخ السودان منذ منتصف الثمانينات، ولطالما كان نشاطه في حروب جنوب السودان من أجل الاستقلال عن السودان مثيراً للجدل، وحمل الرجل ألقاباً عدة، بدت متعارضة في بعض الأحيان، من «زعيم تمرد» إلى «أمير حرب» إلى «رجل سلام».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع زمّور (آ ف ب)

إبعاد لوبن... هل تتحوّل المتاعب القضائية منفعةً سياسية؟

أثارت إدانة مارين لوبن، زعيمة رئيسة حزب «التجمّع الوطني» اليميني المتطرف، في قضية الوظائف الوهمية، اضطراباً كبيراً في المشهد السياسي الفرنسي بين مؤيد لقرار العدالة الفرنسية ومعارض لها. وأيضاً فتحت باب النقاش حول مستقبل أقوى قوى اليمين المتطرف وزعيمته التاريخية التي ستمنع - ما لم تتمكن من إلغائه بقرار قضائي جديد - من تقديم ترشّحها لأي منصب سياسي لمدة خمس سنوات؛ وهو ما يعني القضاء على طموحها في خلافة الرئيس إيمانويل ماكرون في 2027. أضف إلى ذلك أن هذا الإبعاد قد يعني أيضاً إضعاف هيمنة «آل لوبن»، الذين سيطروا على المناصب الريادية في ثاني أهم تشكيل سياسي فرنسي منذ أسسه جان ماري لوبن (والد مارين) عام 1972، والاحتمال الآخر هو أن تتحول المتاعب القضائية حجّة مثالية للعب دور «الشهيد السياسي» وحشد التأييد والفوز بالانتخابات. وللعلم، بيّنت دراسة أخيرة لاستطلاع الرأي من معهد «إيلاب» أن لوبن تبقى الأوفر حظاً في الفوز بالجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المقبلة.

حصاد الأسبوع ترمب وقائمة التعرفة الجمركية المفروضة على دول العالم (غيتي)

فوضى الأسواق تمهد لنظام عالمي ينهي حقبة منظمة التجارة «المعادية»

لا يمكن رد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب «المفاجئ» تأجيل فرض الرسوم الجمركية على غالبية الدول لمدة 90 يوماً، إلى نجاح مناشداتها فقط. ثم إنه لا يمكن اعتبار

إيلي يوسف (واشنطن)

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT
20

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين