انتخابات فنزويلا...الفتنة الدامية أو نهاية الثورة البوليفارية

أصبحت أمام خيارين مع رفض المعارضة النتائج والتشكيك الدولي بها

مادورو... يحتفل بانتصاره (رويترز)
مادورو... يحتفل بانتصاره (رويترز)
TT

انتخابات فنزويلا...الفتنة الدامية أو نهاية الثورة البوليفارية

مادورو... يحتفل بانتصاره (رويترز)
مادورو... يحتفل بانتصاره (رويترز)

مع انتصاف ليل الأحد الفائت كانت قد انقضت ست ساعات على إقفال آخر صناديق الاقتراع في العاصمة الفنزويلية كاراكاس عندما أعلن المجلس الوطني الانتخابي فوز الرئيس اليساري نيكولاس مادورو بولاية رئاسية ثالثة إثر حصوله على 51 في المائة من الأصوات مقابل 44 في المائة نالها مرشح المعارضة الموحدة إدموندو غونزاليس. وجاء في بيان الهيئة الانتخابية، التي يسيطر عليها الحزب الحاكم، أن النتيجة باتت بحكم النهائية بعد فرز 80 في المائة من الأصوات، وأن نسبة المشاركة في التصويت بلغت 59 في المائة.

مارينا كورينا، زعيمة المعارضة الفنزويلية، مع مرشحها الرئاسي إدموندو غوزنزاليس (إيبا - إيفي)

المعارضة ترفض النتيجة

بعد صدور بيان الهيئة الانتخابية سارعت المعارضة التي تقودها ماريا كارينا، التي كانت المحكمة الانتخابية قد نزعت عنها أهلية الترشح، إلى رفض النتيجة التي وصفتها بأنها «انتهاك صارخ للحقيقة». وشددت على إدانتها «التلاعب بالفرز»، بينما راحت عواصم إقليمية وأوروبية تطالب بالكشف عن مضابط جميع أقلام الاقتراع للتحقق من النتائج. وحقاً، طلب وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن «نشر نتائج التصويت مفصلة مع السندات الثبوتية أمام المراقبين الدوليين»، وفي حين شكّك الرئيس التشيلي (اليساري) غابرييل بوريتش بصدقية النتائج الرسمية، قائلاً: «على نظام مادورو أن يعرف بأنه من الصعب جداً تصديق النتائج التي أعلن عنها»، أكّد أن تشيلي لن تعترف بها ما لم يجرِ التحقّق منها على يد جهات مستقلة ومحايدة.

ما يُذكر أنه قبل صدور بيان المجلس الانتخابي الذي أعلن فوز مادورو قبل نهاية عملية الفرز، كانت المعارضة اليمينية والليبرالية الفنزويلية قد شكت من أن الهيئة الانتخابية لم تطلعها سوى على 30 في المائة من المضابط بعدما توقفت عمليتا طبعها وتوزيعها. وأفاد مراقبون بأنه مع ظهور النتائج الأولى كان القلق قد بلغ ذروته في أوساط النظام، وراحت قيادات رسمية تدلي بتصريحات توحي بفوز مادورو مع أن عملية الفرز كانت لا تزال في بداياتها.

ومنذ فجر الاثنين بدأت بلدان أميركية لاتينية عدة، بينها البيرو والأوروغواي وكوستاريكا، تعرب عن شكها بشفافية النتائج، في حين كانت برقيات التهنئة تتوالى من كوبا ونيكاراغوا وبوليفيا وهوندوراس. لكن اثنتين من الدول الوازنة في المنطقة، البرازيل والمكسيك، اللتان تربط حكومتيها علاقات جيدة مع نظام مادورو، التزمتا الصمت لساعات طويلة، مع أن وزير الخارجية البرازيلي سلسو اموريم كان ضمن فريق المراقبين الدوليين الذين أشرفوا ميدانياً على سير الانتخابات وعمليات الفرز. كذلك كان الرئيس البرازيلي لويس إيغناسيو لولا قد أعرب منذ أيام عن أنه «شعر بالخوف من التصريحات التي صدرت عن مادورو وقال فيها إن فنزويلا ستشهد حمام دم في حال فوز المعارضة»، وحثّ الرئيس الفنزويلي على احترام العملية الانتخابية والرحيل في حال الخسارة.

وبينما صدر بيان عن لويس موريّو، وزير خارجية كولومبيا المجاورة لفنزويلا - والتي تربطها بها علاقات تاريخية واقتصادية واجتماعية وثيقة - طالب بتدقيق مستقل في نتائج الانتخابات، أعربت كوبا عن تهنئتها بلسان وزير خارجيتها برونو رودريغيز، الذي قال: «لا بد من احترام إرادة الشعب الفنزويلي».

وخارج أميركا اللاتينية، طالب الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية، جوزيب بورّيل، من جهته السلطات الفنزويلية «بأقصى درجات الشفافية في عملية الفرز»، داعياً إلى «احترام إرادة الناخبين» بالكشف عن مضابط جميع أقلام الاقتراع.

تحية لتشافيز في ذكرى ولادته الـ70

وبعد الإعلان عن النتائج صباح الاثنين توجّه مادورو من القصر الحكومي إلى «ثكنة الجبل»، حيث ضريح الرئيس الراحل هوغو تشافيز للاحتفال بذكرى مولده في اليوم نفسه الذي أجريت فيه الانتخابات، وقال: «هذا الفوز هو تكريم لقائدنا في ذكرى ميلاده السبعين». لكن زعيمة المعارضة مارينا كورينا، كانت تواصل التأكيد: «نحن من فاز في الانتخابات، والكل يعرف ذلك... الفوز كان كاسحاً في جميع الولايات، والبيانات التي في حوزتنا تبيّن بما لا يترك مجالاً للشك أن غونزاليس نال 70 في المائة من الأصوات مقابل 30 في المائة لمادورو». وأردفت أن المعارضة «على أتمّ الاستعداد للدفاع عن الحقيقة؛ لأن ما حصل ليس مجرد تزوير آخر، بل هو انتهاك صارخ للإرادة الشعبية».

في أي حال، بعد تطوّرات اليوم الأول بعد الإعلان عن نتيجة الانتخابات، ظلت الأمور محصورة ضمن الإطار السياسي. إذ تراوحت بين تأكيد المعارضة على فوز مرشحها وتنديدها بالتلاعب بعملية الفرز وتزوير النتائج، ومطالبة عواصم إقليمية ودولية بإعادة الفرز تحت إشراف مراقبين محايدين، واستدعاء سفراء عدد من الدول الأميركية اللاتينية بعدما دعت «منظمة البلدان الأميركية» مادورو إلى الاعتراف بهزيمته أو الدعوة لإجراء انتخابات جديدة، في موقف انتقده الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور. لكن، لاحقاً، دخلت الأزمة مرحلة جديدة على وقع الاحتجاجات الشعبية التي عمّت جميع أنحاء البلاد وتخللتها أعمال عنف وصدامات بين المتظاهرين والقوى الأمنية أوقعت حتى الآن أكثر من 15 قتيلاً ومئات الجرحى.

غضب شعبي... وتطورات متسارعة

وبينما كان الغضب الشعبي يجتاح المدن الفنزويلية، حيث أسقط المتظاهرون تماثيل للرئيس السابق هوغو تشافيز وبتروا رأس أحدها وجرّوه في الشوارع، كان الرئيس الأميركي جو بايدن يجري اتصالاً مطولاً مع نظيره البرازيلي لولا حول الوضع في فنزويلا. ولقد وصفه بيان صدر لاحقاً عن البيت الأبيض بأنه يشكّل «لحظة حرجة جداً بالنسبة للديمقراطية والاستقرار في شبه القارة». ثم اتفق الطرفان الأميركي والبرازيلي على مواصلة التنسيق الوثيق حول الوضع الفنزويلي مع الجهات الإقليمية والدولية. غير أن البيرو ذهبت أبعد؛ إذ اعترفت بمرشح المعارضة غونزاليس رئيساً جديداً لفنزويلا، وعرضت كوستاريكا اللجوء السياسي لمرشح المعارضة ولزعيمتها كورينا، بعد الدعوات التي صدرت عن قيادات في النظام الفنزويلي لاعتقالهما وإحالتهما إلى المحاكمة بتهمة التحريض على أعمال العنف وزعزعة السلم الأهلي.

كذلك، تزامنت إدانة «منظمة البلدان الأميركية» مع إعلان «مركز كارتر»، - الذي سمحت له الحكومة الفنزويلية بمراقبة العملية الانتخابية - عجزه عن التحقق من نتائج الانتخابات التي قال إنها «افتقدت أدنى درجات الشفافية». واعتبر لويس ألماغرو، الأمين العام لـ«المنظمة» أن إصرار مادورو على رفض الاعتراف بهزيمته «يترك أمامه مخرجاً واحداً من الأزمة هو الدعوة لإجراء انتخابات جديدة بإشراف مراقبين من الاتحاد الأوروبي و(منظمة البلدان الأميركية) وهيئة انتخابية جديدة مستقلة».

ومنذ صباح الأربعاء، تسارعت التطورات بشكل يبعث على القلق والخوف من صدامات دامية بين الأجهزة الأمنية والمحتجين، لا سيما بعد إعلان وزير الدفاع فلاديمير بادرينو «تأييد القوات المسلحة بلا شرط لمادورو»، وتحذيره من أن الجيش «سيتصرف بحزم من أجل صون السلم الداخلي في البلاد». في المقابل، أمام إصرار مادورو على موقفه أعلن لناطق بلسان البيت الأبيض «أن صبر واشنطن والأسرة الدولية بدأ ينفد»، وتابع القول إن مرشح المعارضة إدموندو غونزاليس «فاز بفارق ملايين الأصوات على مادورو المنتهية ولايته»، وتزامن هذا الموقف من واشنطن، مع حض زعيمة المعارضة اليمينية أنصارها على مواصلة التحرك للضغط على النظام من أجل إجباره على التراجع وتسليم السلطة لمرشحها، وتشديدها على أنها لن تلجأ إلى أي بلد وستواصل النضال بجانب مؤيديها.

أخيراً، مع تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية، بما في ذلك من حكومات يسارية كحكومات البرازيل وكولومبيا وتشيلي والمكسيك، ردّ مادورو بقوله أمام صحافيين إنه جاهز لتقديم جميع سجلات التصويت، والتجاوب مع استدعائه للتحقيق من لدن الهيئة الانتخابية حول كل ما يتعلق بعملية الفرز. لكن مراقبين في العاصمة الفنزويلية يستبعدون تراجع مادورو عن موقفه بعدما ضمن تأييد الجيش؛ لأنه يدرك جيداً مدى أهمية هذه الانتخابات بالنسبة لاستمرارية «الثورة البوليفارية» التي أطلقها هوغو تشافيز منذ 25 سنة، وأيضاً بالنسبة لمستقبله السياسي ومصيره القانوني. دخلت الأزمة مرحلة جديدة على وقع الاحتجاجات الشعبية التي عمّت

جميع أنحاء البلاد

مادورو... جدار الثورة الأخير

> عندما قام الضابط الفنزويلي هوغو تشافيز بمحاولته الانقلابية ضد حكم الاشتراكي المعتدل كارلوس أندريس بيريز يوم 3 فبراير (شباط) 1992، وانتهت بفشلها سريعاً بعد وقوع عشرات القتلى في محيط القصر الرئاسي، كان نيكولاس مادورو في الثلاثين من عمره ويعمل سائقاً لإحدى قاطرات مترو العاصمة الفنزويلية كاراكاس. بعد تلك المحاولة دخل تشافيز السجن، حيث كان يمضي وقته بمطالعة أعمال وسيرة بطل التحرير الأميركي اللاتيني سيمون بوليفار، ويجري «محاورات» وهمية مع تمثال صغير له صُنع من الجبس الأبيض، كما يروي كاتب سيرته. تلك كانت بذرة «الأسطورة» التي نمت مع خروج تشافيز من السجن نتيجة عفو رئاسي بعد سنتين من اعتقاله، ثم تأسيسه «حزب الجمهورية الخامسة» وفوزه في الانتخابات الرئاسية عام 1998. أما مادورو، فمنذ وصوله إلى الحكم في انتخابات عام 2013، حاول الارتقاء بمسيرته إلى مستوى تشافيز الذي كان بلغ من الشهرة و«الكاريزما» ما جعله أقرب الزعماء إلى ملهمه الراحل فيدل كاسترو. وللعلم، كان تشافيز يزور كاسترو في هافانا عشرات المرات كل سنة، ويضخّ في عروق الثورة الكوبية المترهلة الملايين من عائدات النفط بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. بيد أن المقارنة بين تشافيز ومادورو كانت مستحيلة منذ بدايتها رغم المحاولات الكثيرة التي بذلها الأخير منذ وصوله إلى الحكم للمرة الأولى عام 2013. إذ تلقى مادورو علومه الابتدائية والثانوية عند الراهبات، ونشأ في عائلة من الطبقة المتوسطة، حيث كان والده ناشطاً يسارياً في حزب «العصبة الاشتراكية»، الذي انضمّ إليه نيكولاس لاحقاً، قبل أن يسافر إلى كوبا ويلتحق بمعهد إعداد الكوادر السياسية اليسارية في هافانا الذي أسسه فيدل كاسترو. وبعد عودته إلى كاراكاس انخرط مادورو في الحركة التي كان أسسها تشافيز بمساعدة مستشارين كوبيين. ومن ثم ساهم إلى جانب طارق صعب وآخرين في تنظيم الحملة التي أثمرت في نهايتها الحصول على عفو رئاسي للإفراج عن هوغو تشافيز بعد اعتقاله إثر محاولة الانقلاب الفاشلة. شغل مادورو مناصب عدة في كنف زعامة تشافيز، فكان نائباً ثم رئيساً للبرلمان، ووزيراً للخارجية، ونائباً لرئيس الجمهورية ورئيساً للحزب الاشتراكي الموحّد.

تشافيز مع «أستاذه» فيدل كاسترو (أ.ب)

وفي عام 2012 عندما كان تشافير في آخر مراحل المرض الذي قضى عليه دعا أنصاره إلى تأييد مادورو في الانتخابات الرئاسية المقررة في العام التالي. وفعلاً، يوم 14 أبريل (نيسان) 2013 انتُخب مادورو رئيساً للجمهورية، ثم أعيد انتخابه عام 2018 في انتخابات لم تشارك فيها المعارضة ورفضت دول كثيرة الاعتراف بشرعيتها، على غرار ما حصل مع نتائج انتخابات الأحد الماضي التي قد تكون إما «رصاصة الرحمة» في جسم الثورة البوليفارية، أو شرارة أزمة دامية كما حذّر مادورو قبل أيام في حال فوز المعارضة.


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.