تونس... على أبواب انتخاباتها الرئاسية الجديدة

الصعوبات الاقتصادية تضغط على السلطة ومعارضيها

الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)
الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)
TT

تونس... على أبواب انتخاباتها الرئاسية الجديدة

الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)
الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)

تكشف تصريحات قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل وهيئات حقوق الإنسان والمجتمع المدني وبلاغات الأحزاب السياسية، عن تركيز على مطلب «تنقية المناخ السياسي والاجتماعي» في تونس و«تنظيم حوار وطني قبل الانتخابات»، كما ورد على لسان نور الدين الطبوبي، الأمين العام لـ«الاتحاد» وقياديين في «جبهة الخلاص الوطني» المعارضة مثل الزعيم اليساري عز الدين حزقي، والمحامي احمد نجيب الشابي، والحقوقية شيماء عيس والأكاديمي رياض الشعيبي. بل إن قياديين في أحزاب تعد قريبة إلى «السلطة» يطالبون ايضاً بـ»الحوار بين الأطراف الاجتماعية والسياسية» بينهم المرشحان للرئاسة الوزير ناجي جلول، الوزير السابق وأمين عام «حزب الائتلاف الوطني»، وزهير المغزاوي، أمين عام حزب الشعب القومي الناصري.

بل إن المحامي العروبي خالد الكريشي وعدداً من القياديين البارزين في حزب الشعب القومي الناصري، الذي يعتبر «الأقرب سياسياً» إلى قصر قرطاج الرئاسي، أدلوا أخيراً بـ«تصريحات سياسية نارية» انتقدت السلطات السياسية واتهمتها بـ«الفشل في تحقيق الشعارات التي رُفعت يوم حراك 25 يوليو (تموز) 2021» وقرارات حل البرلمان والحكومة السابقين.

نورالدين الطبوبي...ابرز الشخصيات النقابية (آ ف ب)

انتعاش الخطاب الشعبوي

خالد الكريشي قال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إنه ورفاقه الذين كانوا قد دعموا بقوة الرئيس سعيّد سابقاً، أصبحوا يدعمون ترشيح زعيم حزبهم زهير المغزاوي، ويعطون أولوية للإصلاحات السياسية «حرصاً على مصداقية الانتخابات الرئاسية المقبلة». وفي السياق ذاته، أعلن المغزاوي خلال مؤتمر صحافي في أحد فنادق العاصمة تونس أنه قرّر الترشح للرئاسة؛ لأن مشروع برنامجه الانتخابي يتضمّن بالخصوص «إقامة نظام ديمقراطي والتصدّي لسيناريو حكم الفرد». أما ناجي جلول فذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ تعهد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» بـ«توظيف خبراته السياسية وتجاربه السابقة في المعارضة، ثم في الحكومة وفي قصر قرطاج في عهد الرئيس الباجي قائد السبسي لإخراج البلاد من أزماتها في ظرف 6 اشهر فقط».

واعتبر مراقبون أن هذه التصريحات تكشف الآن عن مدى انتشار «الخطاب الشعبوي» في أوساط عدّة داخل تونس بسبب اقتناع «النخب» باستفحال معاناة الطبقات الشعبية من البطالة والفقر وغلاء الأسعار.

إصلاحات سياسية فورية

في سياق متصل، صدرت داخل الجامعات ومقار نقابات الصحافيين والمحامين والقضاة نداءات من كبار خبراء القانون الدستوري والعلوم السياسية تطالب رئاستي الجمهورية والحكومة ووزارة الداخلية ببدء «إصلاحات سياسية جريئة»، بينها تحرير الإعلام والإفراج عن الإعلاميين والموقوفين في قضايا ذات صبغة سياسية.

واعتبر الأكاديمي أمين محفوظ، وهو أستاذ جامعي للعلوم السياسية والقانونية والدستورية، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» أن الانتخابات الرئاسية المقبلة في تونس «مهمة جداً، بل قد تكون الأهم والأخطر منذ 15 سنة». ودعا محفوظ الـ8 ملايين ناخب تونسي إلى تجنب مقاطعة انتخابات 6 (تشرين الأول) المقبل كما قاطعوا الانتخابات النيابية والمحلية خلال العامين الماضي، ومثلما امتنع معظمهم عن المشاركة في الاستفتاء على دستور 2022 احتجاجاً على أوضاعهم المعيشية وعلى «غلطات النخب».

من جهته، أورد عماد الدايمي، الوزير والمستشار السابق في رئاسة الجمهورية، الذي أعلن مبدئياً ترشحه للرئاسة أنه سيعمل على إقناع عموم المواطنين بنجاعة «الرهان مجدداً على أن التغيير يكون عبر صندوق الاقتراع». واعتبر الدايمي أن «الانتخابات الرئاسية المقبلة يمكن أن تخرِج البلاد من أزماتها السياسية والأمنية، ثم الاقتصادية والاجتماعية، وأن تدفع في اتجاه تحقيق المصالحة الوطنية».

غير أن معارضيه اتهموه بدورهم بـ«الشعبوية» وأطلق من وصفوا أنفسهم بـ«أنصار الرئيس سعيّد» حملة ضده، وذكّروه بأنه كان وزيراً مستشاراً ومديراً لمكتب الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي ما بين 2011 و2014.

وفي سياق موازٍ، تضمن البرنامج الانتخابي لمنذر الزنايدي، الوزير السابق للتجارة والسياحة والنقل والصحة قبل 2011، تعهداً بالقيام بإصلاحات سياسية فورية، بينها «إعادة تحقيق المصالحة الوطنية بين التونسيين بمختلف انتماءاتهم وبصرف النظر عن خلافات الماضي». ويعتبر الزنايدي عملياً المرشح المبدئي الأقرب لـ«الحزب الدستوري» الذي كان في الحكم إبان عهدي الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. لكنه ومجموعة أخرى من المرشحين يوجدون خارج البلاد، بينهم الأميرال كمال العكروت، المستشار العسكري للرئيس الأسبق الباجي قائد السبسي.

الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في صدارة الجدل السياسي والانتخابي. (إيبا)

الورقة الاقتصادية الاجتماعية

في المقابل، تكشف تصريحات الأميرال كمال العكروت عن تحاشي التركيز على الملفات السياسية مقابل محاولة مواكبة «المشاغل المعيشية للطبقات الشعبية». وأعلن الأميرال رهاناً متزايداً على «إنقاذ البلاد من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية الهيكلية» التي استفحلت منذ جائحة «كوفيد - 19» عامي 2020 - 2021، وكذلك تضرر البلاد من الحرب في أوكرانيا. وللعلم، كانت تونس تستقبل سنوياً قبل اندلاع الحرب الأوكرانية نحو 800 ألف سائح روسي وأوكراني، كما كانت تعتمد في توفير حاجياتها من الحبوب والمحروقات بأسعار تفضيلية على وارداتها من روسيا وأوكرانيا.

من جانبه، تعهد الإعلامي والكاتب العروبي أحمد الصافي سعيد، الذي يتهمه خصومه أيضاً بـ«الشعبوية»، بأن تكون على رأس أولوياته الاقتصادية والاجتماعية «تنويع الشراكات الاقتصادية للبلاد عربياً ودولياً»، واستحداث «مدن ذكية» وأقطاب تكنولوجية في العاصمة وفي الجهات؛ ما يؤدي إلى توفير موارد رزق لمئات آلاف الشباب العاطل عن العمل وبينهم عشرات آلاف من خريجي الجامعات والمهندسين الشبان.

واعتبر الصافي سعيد في لقاء مع «الشرق الأوسط» أن «إصلاح الأوضاع الاقتصادية ممكن... ولجوء مزيد من الشباب إلى الحلول اليائسة، مثل الهجرة غير النظامية، يمكن معالجته عبر تنويع فرص التنمية وخلق الثروة وتحسين شروط التفاوض مع الاتحاد الأوربي وشركاء البلاد الإقليميين والدوليين حول ملفات كثيرة»، منها «تشديد مراقبة تونس لسواحلها وحدودها البرية كي لا تكون معبراً لعشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً».

التغيير آتٍ

في هذه الأثناء، ترفع النخب السياسية والشخصيات التي أعلنت مبدئياً الترشح لانتخابات 6 أكتوبر المقبل شعارات كثيرة ذات صبغة اقتصادية اجتماعية سياسية، منها «الشعبوي» ومنها «التغييري». لكن الخبراء الاقتصاديين المستقلين، مثل رضا الشكندالي، لا يترددون باتهام هؤلاء بـ«الشعبوية» و«اللاواقعية». ويفسّر بعض الخبراء أزمات تونس الحالية بعوامل عدة، من بينها «حصيلة السلطات المتعاقبة منذ اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في 2008، وتضرر صادرات البلاد ومداخيل سياحتها وفرص الاستثمار والتوظيف» نتيجة «الانكماش الاقتصادي العالمي، وبخاصة داخل البلدان الأوروبية التي تعدّ الشريك الأول لتونس بنسبة تفوق الـ70 في المائة».

وعودة إلى الوزير السابق عماد الدايمي، فإن الملفات الاقتصادية والاجتماعية هيمنت على خطابه، ولقد برّر شعاره «التغيير قادم» بثلاثة أسباب تهم السياسات الاقتصادية للدولة وأولويات القطاع الخاص.

ويشرح الدايمي، فيقول إن السبب الأول هو كون «المنوال التنموي للبلاد وصل إلى نهاية الطريق، وصار عاجزاً تماماً عن تأمين حلول للمشاكل» المتراكمة منذ عقود. والسبب الثاني هو أن «بنية الدولة التونسية ومؤسساتها تقادمت وتهالكت، ولم ترضخ للتجديد، فباتت على درجة كبيرة من البيروقراطية والتكلس وانعدام الفاعليّة». ولأن منظومة المؤسسات والمنشآت العمومية الواسعة أضحت كلها تقريباً مفلسة وحوكمتها مدمّرة، خرّبها الفساد والمحسوبية و«بلطجة النقابات». وأما السبب الثالث والأخير، فهو واقع «البنية الريعية» للاقتصاد التونسي، «الذي تزايد اعتماده على عدد قليل من العائلات ورجال الأعمال الذين يحتكرون الثروة ويهيمنون على كل القطاعات رغم ضغوط المستثمرين الشبان والشركاء الأجانب».

اهتمامات الرئيس سعيّد

ولكن، هذا التركيز على الملفات الاقتصادية والاجتماعية ليس محصوراً بالمرشحين المحسوبين على المعارضة بمختلف ألوانها، بل يهم كذلك الرئيس قيس سعيّد، الذي استأنف زياراته للأسواق الشعبية وللجهات الداخلية المهمشة وللمؤسسات العمومية التي تمر بصعوبات، بما في تلك في قطاعات الصحة والمياه والكهرباء والبنوك.

ولئن برز سعيّد قبل نجاحه في انتخابات 2019 بمداخلاته السياسية والقانونية والدستورية في وسائل الإعلام، فإنه منذ وصوله قصر قرطاج قبل خمس سنوات صار يعطي أولوية مطلقة للمشاغل الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الشعبية. ومن ثم، يتهم «عصابات التهريب والاحتكار» بتحمّل مسؤولية ارتفاع الأسعار ونسب البطالة والفقر، وبالتسبب في تعطيل عمل شبكات نقل المياه والكهرباء.

وحقاً، مع اقتراب موعد انطلاق الحملة الانتخابية الرسمية كثّف سعيّد تحركاته في محافظات عدة متفقداً أوضاع الطبقات الشعبية، وكاشفاً للشعب عبر الفريق الإعلامي المرافق له عن ما يراه من «حجم الدمار والتخريب» الذي حمّل مسؤوليته إلى أجيال من السياسيين والإداريين منذ عهدي الرئيسين بورقيبة (1956 - 1987) وبن علي (1987 - 2011) ثم في حكومات ما بعد «انتفاضة يناير 2011» الشبابية والاجتماعية. وعلى الرغم من وجود سعيّد في الحكم منذ سنوات، فإنه لا يزال يتبرأ في الكلمات التي يتوجه بها إلى الشعب من «تقصير أجيال من المسؤولين» ومن «التخريب الذي يقوم به متآمرون على الأمن القومي» إلى حد تعمّد احتكار مواد الاستهلاك والترفيع في الأسعار وتخريب شبكات الماء والكهرباء. سعيّد يحمّل النخب الحاكمة منذ 70 سنة مسؤولية تردي الأوضاع

الاهتمام بالشأن السياسي متراجع تحت الضغوط الاقتصادية والمعيشية

> في ظل التركيز الشديد من قِبل أنصار الرئيس قيس سعيّد ومعارضيه على الصعوبات الاقتصادية والمعيشية وغلاء الأسعار والبطالة، تراجع الاهتمام بـ«الشأن السياسي»، وبالملفات السياسية والدستورية والجيو استراتيجية التي كانت حاضرة بقوة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية والبلدية التي نظمت منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2011. بل إن التقارير المفصلة لبعض المنظمات المستقلة، التي تحصل على دعم مالي من عواصم غربية، مثل «منظمة بوصلة»، أصبحت تتحدث بوضوح عن كون التحضيرات للانتخابات المقبلة تجري في «مناخ لا سياسي». رئيس المعهد التونسي للمستشارين الجبائيين الأسعد الذوادي، قال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن تياراً واسعاً من الشارع التونسي دعم الخطوات التي قام بها قيس سعيّد عندما فتح بعض «ملفات الفساد المالي» الكبرى، وأمر بإيقاف مجموعة من رجال الأعمال والمسؤولين السابقين عن البنوك والشركات العمومية ومصادرة أملاك بعضهم. ومن جهة ثانية، دعا عدد من الزعماء السياسيين والخبراء الاقتصاديين والنقابيين المستقلين إلى ضرورة ألا يتسبب تزامن التحقيقات القضائية مع «المتآمرين على أمن الدولة» ومع «الفاسدين مالياً» مع العملية الانتخابية في عملية «تصفية حسابات». ورأى هؤلاء أن «الأسباب العميقة للصعوبات الاجتماعية والاقتصادية التي تمرّ بها تونس أسباب هيكلية»، ولقد تعقّدت بعد سنوات من الجفاف و13 سنة من الاضطراب السياسي والإداري. وهنا يتساءل البعض عما إذا كانت انتخابات 6 أكتوبر ستساهم في تحسين فرص استرجاع ثقة ملايين الناخبين والمواطنين بصناديق الاقتراع، أم ترى سيتجدد سيناريو «امتناع» نحو 88 في المائة عن المشاركة في التصويت كما حدث خلال السنتين الماضيتين، وهذا بينما يضغط ملف الصعوبات الاقتصادية على كل من مرشحي السلطة ومعارضيهم.


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».