ترمب اختار فانس للدفع بـ«الترمبية» قدماً... وتغيير هوية حزب ريغان

لقيادة تحالف محافظ منسجم مع الطبقة العاملة وضمان غالبية حاكمة دائمة

أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية
أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية
TT

ترمب اختار فانس للدفع بـ«الترمبية» قدماً... وتغيير هوية حزب ريغان

أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية
أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية

لسنوات عدة، كان الحزب الجمهوري الأميركي يمرّ بتغيير جذري، حيث يتبنى بشكل متزايد الشعبوية الاقتصادية في الداخل والانعزالية في الخارج، ويغيّر مواقفه في العديد من القضايا الاجتماعية. ثم إنه لم يعد فقط حذِراً من بعض المصالح التجارية الكبرى، بل صار معادياً لها. لا، بل أكثر من ذلك، إذ عمل على طرح نفسه ليكون حزب الطبقة العاملة، وكل ذلك تحت شعار «أميركا أولاً». ومع أن الرئيس السابق دونالد ترمب عاد، خلال رئاسته الأولى، إلى آيديولوجية الحزب الجمهوري الأكثر تقليدية بشأن بعض القضايا، فإن اختياره جيمس ديفيد «جي دي» فانس نائباً له على بطاقة الانتخابات الرئاسية المقبلة، هو الذي يمكن، في نهاية المطاف، أن يعزّز مسار الحزب نحو مرحلة جديدة مختلفة. وهذا ما يبدو أنه حدث في مؤتمر الحزب الذي انعقد خلال الأيام القليلة الماضية في مدينة ميلووكي؛ كبرى مدن ولاية ويسكونسن.

الواقع أنه خلال مؤتمر الحزب الجمهوري بميلووكي، لم يقتصر الأمر على اختيار السيناتور جي دي فانس، المعارض لتقديم الولايات المتحدة مساعدات لأوكرانيا، بل تبني الحزب أيضاً خطاباً اجتماعياً مخففاً، بجانب انتقاد الشركات الكبرى، وهو ما عدّه البعض إشارة إلى تراجع دور الإيفانجيليين البروتستانت المتشددين في رسم سياسات الجمهوريين.

ومن فوق منصة المؤتمر، خرج برنامج الحزب خالياً من أي ذكر لـ«الزواج بين رجل وامرأة»، الذي يندرج كعنصر أساسي في مبادئ الحزب منذ فترة طويلة، لمصلحة تعزيز «ثقافة تقدّر قدسية الزواج» و«الدور التأسيسي للعائلات». الأمر الذي رحّب به الجمهوريون المؤيدون لمجتمع المثليين وعدّوه انتصاراً، في حين رآه كثيرون بمثابة ضربة للجناح المحافظ المتشدّد في الحزب، ومن صفوفه قال السيناتور المحافظ السابق، ريك سانتوروم: «هذا برنامج حزب المحافظين البريطاني. هذه ليست منصة محافظة. ترمب يستهدف الوسط مباشرة».

من جهة ثانية، قال مارك شورت، الذي شغل منصب كبير موظفي مايك بنس، نائب ترمب السابق، الذي اختاره عام 2016 للحصول على دعم الإيفانجيليين: «أعتقد أن ما نشهده، الآن، هو هجوم مباشر كامل على التيار المحافظ... يمكنك أن تنظر إلى المنصة، وهي تبتعد عن قضايا مثل الحياة والزواج التقليدي، وتتبنّى التعريفات الجمركية في جميع المجالات». وأردف: «أشعر بأن الحزب ذهب خطوة أخرى إلى الأمام، عندما يكون لديك متحدثون يقولون بشكل أساسي إن (الناتو) كان مخطئاً في موقفه من غزو بوتين لأوكرانيا، ويصفون مَن يخلقون فرص العمل بأنهم (خنازير الشركات)». وخلص إلى القول: «هذا خروج هائل عما كان عليه حزبنا، ولا أعتقد أنه وصفة للنجاح».

ولكن من جي دي فانس؟

بطاقة شخصية وعائلية

وُلد جيمس ديفيد فانس في مدينة ميدلتاون، بجنوب غربي ولاية أوهايو، وأمضى جزءاً من طفولته في مدينة جاكسون، بولاية كنتاكي.

وعلى أثر طلاق والديه تولّى تربيته جدُّه لأمه، بينما كانت الأم تعاني إدمان المخدرات. وبعد تخرّجه في المدرسة الثانوية بمدينة ميدلتاون، التحق بسلاح مشاة البحرية «المارينز»، وخدم 4 سنوات في العراق بمهامّ إدارية، ما مكّنه من توفير كلفة دراسته الجامعية.

وبالفعل، في أعقاب تسريحه من الخدمة العسكرية التحق بجامعة ولاية أوهايو، ثم بكلية الحقوق في جامعة ييل الشهيرة. وبعد تخرّجه عمل في شركة «باي بال»، للملياردير بيتر ثيل، الذي كان شريكاً مع إيلون ماسك فيها. ثم أسّس فانس شركته الخاصة للعمل في رأس المال الاستثماري، ثم رشح نفسه عام 2022 لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو، وفاز بالمقعد.

زوجته، أوشا تشيلوكوري فانس، تتحدر من أصول هندية، فولداها مهاجران من الهند. ولقد درست الحقوق في جامعة ييل، وتابعت دراسات عليا في جامعة كمبريدج ببريطانيا. وحققت في مجال المحاماة مسيرة مهنية جداً، وعملت كاتبة لدى قاضي المحكمة العليا جون روبرتس، وقاضي المحكمة العليا بريت كافانو. وفي كتابه «مرثية هيلبيلي» وصفها فانس بأنها «مرشدته الروحية» التي ساعدته على النجاح.

قضايا حملته الانتخابية

يركّز المتابعون، اليوم، على نظرة فانس إلى القضايا التي يرجّح أن تكون محوَر حملته الانتخابية مع ترمب، خلال الأشهر المقبلة، وقد تُهيمن على سياسات البيت الأبيض، في حال فازا بالسباق.

بدايةً، يعارض فانس حقوق الإجهاض بشدة، حتى في حالة سفاح القربى أو الاغتصاب، لكنه مع استثناءات للحالات التي تكون فيها حياة الأم في خطر. وكان قد أشاد بقرار المحكمة العليا الأميركية التي أبطلت هذا الحق، وكان عنواناً رئيساً لترشحه لعضوية مجلس الشيوخ عام 2022، لكنه، رغم ذلك، التحق بموقف ترمب الذي يعارض حظر الإجهاض على المستوى الفيدرالي ويتركه للولايات.

قضية الهجرة كانت أيضاً في طليعة اهتمامات حملته عام 2022، وعكست آراؤه، إلى حد كبير، آراء ترمب، فهو مع إكمال بناء الجدار الحدودي مع المكسيك، وأعلن أنه «سيعارض كل محاولة لمنح العفو للمهاجرين غير الشرعيين، الذين عدَّهم مصدراً للعمالة الرخيصة التي تُخفّض أجور العمال الأميركيين، وتأتي على حساب 7 ملايين أميركي خرجوا من سوق العمل». ثم إنه يفضل ما سمّاه «النظام القائم على الجدارة للمهاجرين»، الساعين إلى الاستقرار في أميركا، قائلاً إن الحدود المفتوحة مصدر للمخدّرات غير المشروعة وتدفق «مزيد من الناخبين الديمقراطيين إلى هذا البلد».

فانس يدعم بقوة، في المقابل، فرض تعرفات واسعة النطاق، خاصة على البضائع المستوردة من الصين؛ «لأنها تشكل تهديداً غير عادل للوظائف والتجارة الأميركية». ولقد قال: «نحن بحاجة إلى حماية الصناعات الأميركية من كل منافسة». ويتوافق موقفه هذا، إلى حد كبير، مع ترمب، الذي اقترح فرض تعرفة جمركية قد تصل إلى 100 في المائة، على بعض البضائع الصينية، وتعرفات شاملة بنسبة 10 في المائة على كل البضائع الواردة إلى البلاد.

وحول البيئة، يرى فانس أن «تغير المناخ لا يشكل تهديداً»، مشككاً في الإجماع العلمي على أن ارتفاع درجة حرارة الأرض ناجم عن النشاط البشري، ولذا يؤيد بقوة صناعة النفط والغاز التي تهيمن على ولايته أوهايو، ويعارض توليد الطاقة من الرياح والطاقة الشمسية والمركبات الكهربائية.

إرث الريغانية

على صعيد آخر، أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية، إذ إنه من أبرز «حمائم» الأمن القومي في الحزب، ويعزّز يد القوى الانعزالية الحريصة على التراجع عن إجماع الحزب الجمهوري المتشدد الذي استمر منذ عهد رونالد ريغان. وإذا ما فاز ترمب في الانتخابات، فسيحظى أنصار الإحجام عن التدخل الخارجي بنصير قوي وصريح لهم إلى جانب ترمب.

ومثالاً، فانس من أبرز المعارضين لدعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا. وسبق له أن قال، في مقابلة إذاعية مع الحركي اليميني المتشدد ستيفن بانون: «أعتقد أنه من السخف أن نركز على هذه الحدود في أوكرانيا». وتابع: «يجب أن أكون صادقاً معك، لا يهمُّني حقاً ما يمكن أن يحدث لأوكرانيا...». وفعلاً، قاد فانس، قبل أشهر، معركة فاشلة في مجلس الشيوخ؛ لمنع إرسال حزمة مساعدات عسكرية بقيمة 60 مليار دولار لأوكرانيا. وكتب، في مقالة رأي بالـ«نيويورك تايمز»، موضحاً: «لقد صوتت ضد هذه الحزمة في مجلس الشيوخ، وما زلت معارضاً لأي اقتراح للولايات المتحدة لمواصلة تمويل هذه الحرب.. بايدن فشل في توضيح حتى الحقائق الأساسية حول ما تحتاج إليه أوكرانيا، وكيف ستغيّر هذه المساعدة الواقع على الأرض».

وعلى مواقف كهذه اتهمته ليز تشيني - التي كانت زعيمة كتلة الجمهوريين بمجلس النواب قبل إقالتها لمعارضتها ترمب - على منصة «إكس»، بـ«أنه يستسلم لروسيا ويضحّي بحريّة حلفائنا في أوكرانيا.. لم يعد حزب ترمب الجمهوري هو حزب لنكولن أو ريغان أو الدستور». غير أن فانس أكد أن تقديم المساعدات لأوكرانيا يتماشى تماماً مع إرث رونالد ريغان. وشرح: «انظر، أعتقد أن ريغان كان رئيساً عظيماً، لكنه أيضاً تولى الرئاسة قبل 40 أو 45 سنة في بلد مختلف تماماً».

أما بالنسبة للشرق الأوسط، فإن فانس مؤيد ثابت متحمس لإسرائيل، قبل وطوال حربها في غزة، ودافع عن سياساتها في مواجهة الانتقادات المتزايدة بشأن عدد القتلى المدنيين الفلسطينيين. وعندما نظر أعضاء مجلس الشيوخ في مشروع قانون ينص على توفير مساعدات عسكرية لكل من إسرائيل وأوكرانيا، رفض فانس ذلك، وكتب: «لدى إسرائيل هدف يمكن تحقيقه.. أما أوكرانيا فلا».

ثم إنه ردَّد تصريحات رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، عن «الحاجة إلى القضاء على (حماس)»، بعد هجوم «حماس»، في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وهاجم الرئيس جو بايدن؛ لتأخيره شحن الأسلحة إلى إسرائيل، معترفاً بالضحايا المدنيين في غزة، لكنه ألقى اللوم على «حماس» وليس على إسرائيل.

وأخيراً، بشأن علاقة فانس بترمب، تجدر الإشارة إلى أنه أعاد تشكيل نفسه تماماً باعتباره نصيراً متحمساً لحركة «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» الترمبية، إذ إنه لم يدعم ترمب في السابق، ولم يصوِّت له عام 2016، بل ذهب أبعد ملمّحاً بأنه يمكن أن يكون «هتلر أميركا»، منتقداً خطاباته المناهضة للمهاجرين والمسلمين، لكنه تحوّل فجأة إلى أحد أبرز المدافعين عنه، قائلاً إنه «كان مخطئاً» في تقييم سياساته.

أيضاً أيّد فانس ادعاءات ترمب بتزوير انتخابات 2020، وشكّك في أن (نائب الرئيس) مايك بنس كان في خطر، لأنه رفض، بصفته رئيساً لمجلس الشيوخ، منع التصويت الذي يؤكد صحة فوز بايدن. ومما صرّح به فانس، لشبكة «سي إن إن» قوله: «أعتقد أن أهل السياسة يحبّون المبالغة في الأمور من وقت لآخر. يوم 6 يناير كان يوماً سيئاً، لكن فكرة أن دونالد ترمب عرّض حياة أي شخص للخطر عندما طلب منهم الاحتجاج سلمياً فكرة سخيفة»... وقد حظي بعدها بدعمه للترشح في مجلس الشيوخ عام 2022.


مقالات ذات صلة

ترمب يعقد اليوم أول مؤتمر انتخابي بعد محاولة اغتياله

الولايات المتحدة​ المرشح الرئاسي الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب إلى جانب المرشح الجمهوري لمنصب نائب الرئيس السيناتور جي دي فانس (أ.ب)

ترمب يعقد اليوم أول مؤتمر انتخابي بعد محاولة اغتياله

يعقد المرشح الرئاسي الأميركي دونالد ترمب، اليوم (السبت)، أول مؤتمر انتخابي له منذ أن نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال قبل أسبوع.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي غاضب من أقرب حلفائه (أ.ب)

بايدن «غاضب ويشعر بالمرارة»... أقرب حلفائه يريدون تنحيه

كان الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي تخلّى عنه حلفاؤه، غاضباً في منزله على شاطئ ديلاوير، ويشعر باستياء كبير مما يعدّه حملة منسقة لإخراجه من السباق الرئاسي.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ أنباء عن تعليق جمع التبرعات لحملة بايدن الانتخابية مع الضغط عليه ومطالبته بالانسحاب من السباق الرئاسي (أ.ف.ب)

ما أهمية التبرعات في الانتخابات الأميركية؟

لكل من: الرئيس الأميركي جو بايدن، والرئيس السابق دونالد ترمب، مئات الملايين من الدولارات تحت تصرفهما، في السباق إلى البيت الأبيض.

لينا صالح (بيروت)
الولايات المتحدة​ المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية الرئيس الأميركي جو بايدن (أ.ب)

رغم مطالبات داخل حزبه بانسحابه... بايدن يتعهد الفوز في الانتخابات

أكد الرئيس الأميركي جو بايدن أمس (الجمعة)، تمسكه بالترشح لولاية رئاسية ثانية رغم تزايد التمرد داخل حزبه الديمقراطي ضد بقائه.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن (أ.ب)

مصادر: تعليق جمع التبرعات لحملة بايدن

قالت مصادر ديمقراطية متعددة مشاركة في حملات جمع تبرعات لوكالة «رويترز»، الجمعة، إن العديد من حملات جمع التبرعات لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي جو بايدن معلقة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

انتخابات منغوليا وانعكاساتها مع «جاريها العملاقين»... الصين وروسيا

 رئيس الوزراء المنغولي في لقاء آخر مع الرئيس الصيني شي جينبينغ (تشينخوا)
رئيس الوزراء المنغولي في لقاء آخر مع الرئيس الصيني شي جينبينغ (تشينخوا)
TT

انتخابات منغوليا وانعكاساتها مع «جاريها العملاقين»... الصين وروسيا

 رئيس الوزراء المنغولي في لقاء آخر مع الرئيس الصيني شي جينبينغ (تشينخوا)
رئيس الوزراء المنغولي في لقاء آخر مع الرئيس الصيني شي جينبينغ (تشينخوا)

كان الفساد القضية الأبرز في الانتخابات المنغولية، ولقد سبق أن شهدت العاصمة أولان باتار احتجاجات كبيرة في ديسمبر (كانون الأول) 2022؛ إثر الكشف عن فساد وصفقات جانبية في شركة مملوكة للدولة تزوّد العملاء الصناعيين الصينيين بالفحم.

للعلم، السياسة في منغوليا تجري في إطار ديمقراطية تمثيلية شبه رئاسية متعددة الأحزاب. إذ تضطلع الحكومة بالسلطة التنفيذية التي يرأسها رئيس الوزراء، أما رئيس الجمهورية فهو رأس الدولة، لكنه يملك سلطة محدودة على السلطة التنفيذية للحكومة، كحال معظم الديمقراطيات في معظم أوروبا. وبينما السلطة التشريعية تتمثّل بالبرلمان، تستقل السلطة القضائية بعملها عن السلطتين التنفيذية والتشريعية.

السياسة الخارجية منذ إنشاء الدولة المنغولية الحديثة كانت سياستها الخارجية في الغالب تمليها العلاقات الدبلوماسية بين «جاريها العملاقين» الاتحاد السوفياتي والصين. وإبان الانقسام العقائدي بين موسكو وبكين، من الستينات إلى أواخر الثمانينات، اختارت منغوليا جانب موسكو ضد بكين، وكانت الحليف الأكثر موثوقية لدى الاتحاد السوفياتي في آسيا.

وفي ورقة بحثية بعنوان «أفضل صديق للسوفيات في آسيا: البُعد المنغولي للانقسام الصيني السوفياتي (2003)»، كتب المؤرخ الروسي البريطاني سيرغي رادتشينكو: «اتخذ المنغوليون إزاء بكين موقفاً عميقاً ومتجذراً من اللاثقة، مربوطاً بالإرث الاستعماري للصين في منغوليا والتاريخ الطويل للمواجهة الصينية المنغولية». لكن العلاقات الثنائية شهدت دفئاً خلال ثمانينات القرن الماضي، واليوم أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لمنغوليا.

أما الكاتب الصحافي الهندي فيناكات أنانث فيقول «منغوليا كانت على مدى السنوات الثلاثين الماضية ناجحة إلى حد ما في اعتماد سياسة خارجية مستقلة تتحرك عبر تأثيرات الجارتين روسيا والصين. وفي الوقت نفسه، أبقت أيضاً على شراكات ثنائية استراتيجية مع روسيا والصين، للحفاظ على علاقات ودية ومتوازنة وتجنّب استفزاز جيرانها الأقوياء. واليوم تعود أهميتها المتزايدة - سيما في نظر الصين وروسيا - إلى الموارد الطبيعية التي تمتلكها. وبالفعل، زادت الضغوط المتزايدة التي مارستها الصين بعد الحرب الروسية الأوكرانية، ورغبتها في تنويع شركائها الاقتصاديين من أهمية منغوليا».العلاقات الروسية المنغوليةطوال القرن العشرين، كان النفوذ الروسي والسوفياتي على منغوليا عاملاً مهيمناً على تنميتها الوطنية، وسط تنافس الصينيين والروس على السيطرة على الأراضي الحدودية المنغولية. وما يذكر أن منغوليا غدت أول دولة شيوعية في آسيا، وثاني دولة شيوعية في العالم بعد روسيا، إثر استقلالها عن الصين عام 1921 بمساعدة روسيا وتشكيل حكومة شعبية عام 1924 تحت اسم «جمهورية منغوليا الشعبية». وعلى الأثر صارت منغوليا حليفاً وثيقاً لموسكو.

ولكن، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 ونهاية «الحرب الباردة»، فجأة تراجع النفوذ السوفياتي. ولاحقاً، خرجت أولان باتار على الخط التقليدي المتمثل في الاعتماد على الروس في بناء علاقات مع الصين، أقله في المجال الاقتصادي والتجاري. وكان الأمر كذلك، لأنه في السنوات الأولى من فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي، وقعت روسيا في أزمات سياسية واقتصادية عميقة جعلتها منشغلة بإصلاح مشاكلها.زيارة بوتينشاراد سوني، الأستاذ في جامعة «جواهر لال نهرو» في العاصمة الهندية نيودلهي، والخبير في الشؤون المنغولية، يرى أن «الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتخذ مواقف إيجابية تجاه منغوليا في السنوات الأخيرة، وأدرك كلا البلدين أن التعاون القائم على حسن الجوار بينهما ضروري لإبعاد الصينيين عن ممارسة أي دور مهيمن في منغوليا. وبدأت ممارسة إحياء العلاقات بين الجانبين عملياً عندما زار بوتين منغوليا عام 2000، وكانت الزيارة الأولى لزعيم روسي منذ زيارة الرئيس ليونيد بريجينيف عام 1974. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، طغت الديون الضخمة التي كانت مستحقة لروسيا على منغوليا من الحقبة السوفياتية على العلاقات الاقتصادية والتجارية الثنائية لمنغوليا إلى حد ما. وألغت الحكومة الروسية 98 في المائة من هذه الديون، التي كانت تُقدر قيمتها في السابق بـ11 مليار دولار أميركي». وتابع سوني «يمكن تصوّر التقارب في العلاقات الروسية المنغولية من حقيقة أن منغوليا قد أحجمت مراراً وتكراراً عن إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا».العلاقات مع الصين

في المقابل، وسط الوضع الحالي للعلاقات الصينية الروسية أضعف إلى حد كبير الدور الذي تلعبه أولان باتار في السياسات الأمنية للصين وروسيا، مع أن الصين لا تزال تعتبر منغوليا دولة ذات أهمية جيوسياسية. فالحدود البرّية الصينية المنغولية هي الأطول بالنسبة للصين. وعليه، فالحفاظ على علاقات ثنائية طيبة يُعد قضية أساسية تتعلّق بالأمن والاستقرار في شمال الصين، خصوصاً شينجيانغ (سنكيانغ) ومنغوليا الداخلية، بجانب مقاطعات شمال شرقي الصين.

جدير بالذكر أنه في عام 1946 بعد استقلال منغوليا عن الصين، اعترفت القيادة الصينية بمنغوليا، وبادلتها أولان باتار عام 1949.

ثم إن منغوليا والصين وقّعتا «معاهدة الصداقة والمساعدة المتبادلة» عام 1960، وأعاد البلدان ترسيم الحدود الطويلة بينهما ودياً. لكن النزاع الآيديولوجي بين موسكو وبكين أدى إلى توتر علاقات منغوليا مع الصين. وتصاعدت حدة التوتر خلال السبعينات. واتهمت منغوليا الصين بالسعي لضم أراضيها، وردت الصين، خلال احتفالاتها بالذكرى السنوية الثمانمائة لتأسيسها، بانتقاد السوفيات على «احتلال» منغوليا عبر نشرهم قوات ومعدات عسكرية هناك.

في أبريل (نيسان) 1978 دعت بكين إلى الانسحاب السوفياتي من منغوليا، وسرعان ما زار رئيس الوزراء المنغولي يومجاغين تسيدينبال وحدة من الجيش السوفياتي المتمركزة في منغوليا؛ «لشكرها على حماية البلاد من التهديد الصيني». وباشرت منغوليا، في أوائل عام 1979، بطرد المهاجرين الصينيين متهمة إياهم بممارسة «مؤامرات توسعية»؛ ما أدى إلى تفاقم العلاقات بين البلدين. ولم تخف حدة التوتر بشكل كبير إلا منتصف الثمانينات عندما اتخذ القادة السوفيات والمنغوليون خطوات لتطبيع العلاقات مع الصين. فعلاً عادت العلاقات الدبلوماسية بين منغوليا والصين عام 1986.تطوّرات السنوات الأخيرةعزّزت منغوليا والصين علاقاتهما خلال السنوات الأخيرة عبر مبادرات مختلفة. وتعمل الدولتان اليوم في مشاريع منها خط أنابيب الطاقة «سيبيريا 2»، ومشاريع أخرى لتوليد الطاقة والإنتاج الصناعي وتنمية «الطاقة الخضراء».

وحقاً بين 1990 و2019، استثمرت الصين ما مجموعه 5.4 مليار دولار في منغوليا، وهو ما يمثّل 19 في المائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في منغوليا، مع أن التعاون المتزايد يجلب معه عدداً من الصعوبات.

وبين أكثر القضايا حساسية بين الجانبين اعتراف أولان باتار بالدالاي لاما وغيره من القادة البوذيين التيبتيين. وكانت سلطة بكين قد تأثرت عندما أعلن القادة الدينيون في منغوليا رسمياً إعادة تجسيد «جيبتسوندامبا خوتوغتو العاشر»، وهو رأس البوذية التيبتية في منغوليا؛ الأمر الذي هدّد بزجّ منغوليا بشكل أعمق في اللعبة السياسية بين الصين والدالاي لاما. وكانت بكين حذرت أولان باتار من عواقب وخيمة إذا ما اقترب «جيبتسوندامبا خوتوغتو» الجديد من الدالاي لاما.

وهنا يوضح السفير الهندي السابق موهان لال تريفيدي، الذي خدم في منغوليا، أن «زيارات الدالاي لاما إلى منغوليا كانت دائماً مصدر ضغط على العلاقات مع الصين، خاصة أن بكين وأولان باتار تنظران إليه من زاويتين مختلفتين. فالدين السائد في منغوليا شكل من أشكال البوذية ذي صلة بالبوذية التيبتية، بينما تعتبر بكين الدالاي لاما مصدر تهديد انفصالي. وبالفعل فرضت بكين رسوماً جمركية على الصادرات المنغولية (90 في المائة منها موجهة إلى الصين) إبان الزيارة الأخيرة للدالاي لاما عام 2016، ولم تُوجه له أي دعوة للزيارة منذ ذلك الحين...».

هذا، وتكافح منغوليا لتسديد ديونها، ولقد مددت اتفاقية تبادل العملات مع الصين حتى عام 2025. أما الرصيد المتبقي من هذه المبادلة فهو 15 مليار يوان (2 مليار دولار أميركي). ثم إن اقتصاد منغوليا لا يزال يعتمد بشكل مفرط على الأسواق والاستثمارات والبنية التحتية الصينية. وتحتفظ الصين بنسبة 91.5 في المائة من إجمالي صادرات منغوليا، وجاءت نسبة 62.3 في المائة من إجمالي عائدات التصدير من صادرات الفحم وحدها. وفي الأمد القريب، ستواجه منغوليا صعوبات في اجتذاب المستثمرين الأجانب، نظراً لضعفها أمام الصدمات الجيوسياسية، والأعباء التنظيمية المرتفعة، والبنية التحتية المتخلفة.سياسة «الجار الثالث»في المقابل، على الرغم من التحديات السياسية والاقتصادية، أظهرت منغوليا مرونة حافظت معها على سياسة خارجية مستقلة، وتغلّبت على التأثيرات الخارجية من القوى الكبرى كالصين وروسيا، مع تعزيزها العلاقات مع دول كالولايات المتحدة وفرنسا وبولندا واليابان وكوريا الجنوبية، التي هي دول في منافسة جيوسياسية مباشرة مع «جارتي»... روسيا والصين.

وفي هذا السياق، زار منغوليا عدد من القادة العالميين البارزين عام 2023، بينهم البابا فرنسيس (أصبح أول بابا يزور البلاد) ورئيسا فرنسا وبولندا. كذلك زار رئيس وزراء منغوليا الولايات المتحدة، واستضافت وزارة خارجيتها اجتماعاً لوزيرات الخارجية النساء في أولان باتار. وعام 2023، أيضاً، عزّزت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية شراكتيهما الاستراتيجيتين مع منغوليا، ودشنتا آلية حوار ثلاثية مع التركيز على المعادن الحيوية. وبدأت الشركات الفرنسية مفاوضات لتطوير منجم لليورانيوم في منغوليا، بهدف التصدير إلى السوق الصينية.

وبالنسبة للعلاقات مع واشنطن بالذات، زار رئيس وزراء منغوليا لوفسان نامسراي أويون-إردين وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) وأجرى مباحثات رسمية، ووقّعت منغوليا والولايات المتحدة مذكرة تفاهم بشأن إدارة وتطوير الموارد المعدنية. وفي السنوات الأخيرة، تطرّقت القيادة المنغولية مراراً لـ«القيم الأميركية المشتركة، من حيث حقوق الإنسان، وتنمية الحرية»، مؤكدة أن الولايات المتحدة ليست جارتها الثالثة الاستراتيجية فحسب، بل أيضاً «النجم القطبي المرشد في رحلة منغوليا صوب الديمقراطية».

الموقع الحيوي الحساسواستطراداً، في بيان له قال السياسي والصحافي المنغولي إلبغدورغ تساخيا، الذي شغل منصب رئيس منغوليا من عام 2009 إلى عام 2017 «إن موقعنا استراتيجي، لأن منغوليا تقع على العمود الفقري للصين، في حين تضرب الجزء السفلي من روسيا».

أيضاً، قال ميندي جارغالسيخان، عميد الأبحاث في معهد الدراسات الاستراتيجية في منغوليا، في مقال له «لقد أظهرت منغوليا المرونة في إطار سياستها الخارجية المستقلة، والديمقراطية، والاقتصاد. لكن السياسات المحلية التنافسية والسياسات الاقتصادية الشعوبية غير الفعالة من المرجح أن تشكل التحدي الأكبر. وفي حين لا تتورّط منغوليا غالباً بصورة مباشرة في الصراعات الدولية، فإنها تتأثر بها. ويتعيّن على أولان باتار أن تستجيب لهذا التحديات عبر تحقيق التوازن بين العلاقات الإقليمية والدولية في حين تُحافظ على الديمقراطية والاستقرار والنمو الاقتصادي».

إبان الانقسام العقائدي بين موسكو وبكين، من الستينات إلى أواخر الثمانينات، اختارت منغوليا جانب موسكو ضد بكين، وكانت الحليف الأكثر موثوقية لدى الاتحاد السوفياتي في آسيا

منغوليا... جغرافيا وتاريخ وسياسة وموارد

> منغوليا دولة غير ساحلية في شمال شرق آسيا، تهيمن عليها السهوب شبه الصحراوية القليلة السكان. وتحدّها روسيا من الشمال والصين من الجنوب. ونحو 40 في المائة من قوة العمل في البلاد من البدو الرحل، الذين يرعون الماشية في المراعي الواسعة. * العاصمة وأكبر مدن البلاد، أولان باتار، يقطنها نحو نصف سكان البلاد البالغ عددهم 3.4 مليون نسمة. * امتدت الإمبراطورية المنغولية في كل الاتجاهات أيام البطل الوطني جنكيز خان، وحكم نسله الصين لما يقرب من قرن من الزمان تحت اسم سلالة يوان. * في القرن العشرين، حصلت منغوليا على مساعدة من الاتحاد السوفياتي في سعيها للاستقلال عن الصين. * تاريخياً، من النادر تحوّل دولة من الاشتراكية إلى ديمقراطية انتخابية كاملة. لكن منغوليا نجحت عام 1990 في التخلي عن نظام الحزب الواحد (الشيوعي) الذي استمر 70 سنة على النمط السوفياتي لصالح التغييرات السياسية والاقتصادية والانتخابات المتعددة الأحزاب. من الناحية الجيوسياسية، كانت منغوليا لقرون كثيرة كياناً يُعتبر على نطاق واسع «عازلاً» بين روسيا والصين. إلا أنها اليوم تتمتع بقدر عظيم من الأهمية الاقتصادية العالمية بعدما أصبحت تمتلك مواد خام ذات أهمية استراتيجية مثل اليورانيوم. * احتياطي منغوليا من اليورانيوم يصل إلى نحو 62 ألف طن؛ ما يجعلها من بين أكبر 15 دولة من حيث الاحتياطي، لكنها لا تمتلك محطة للطاقة النووية ولا أسلحة نووية. وكانت روسيا هي أول دولة توقّع اتفاقاً مع منغوليا حول العمليات المشتركة لتخصيب اليورانيوم. * الانتخابات البرلمانية هذا العام كانت واحدة من أهم الانتخابات في تاريخ منغوليا الحديث. إذ منذ اعتماد الدستور الديمقراطي لمنغوليا عام 1992، كان البرلمان (يضم 76 عضواً) يهيمن عليه معظم الوقت حزبان سياسيان رئيسيان «الحزب الديمقراطي» و«حزب الشعب المنغولي». لكن في الصيف الماضي، أجري تغييران دستوريان مهمان؛ إذ زيدت مقاعد البرلمان من 76 مقعداً إلى 126 مقعداً، مع شغل 78 مقعداً من خلال الانتخابات المباشرة و48 مقعداً عبر التمثيل النسبي. * ضم البرلمان الجديد ممثلين عن عدد من الأحزاب، وللمرة الأولى انتُخبت 32 نائبة، أي 25 في المائة من العدد الإجمالي للأعضاء، وهذه أعلى نسبة من النساء في برلمانات آسيا.