قراءة في توجّه تونس شرقاً نحو الصين وآسيا

تغيير «الحلفاء» من دون التمرّد على «الأصدقاء»

الرئيس التونسي قيس سعيّد مع مسنضيفه الرئيس الصيني شي جينبينغ في بكين - رويترز
الرئيس التونسي قيس سعيّد مع مسنضيفه الرئيس الصيني شي جينبينغ في بكين - رويترز
TT

قراءة في توجّه تونس شرقاً نحو الصين وآسيا

الرئيس التونسي قيس سعيّد مع مسنضيفه الرئيس الصيني شي جينبينغ في بكين - رويترز
الرئيس التونسي قيس سعيّد مع مسنضيفه الرئيس الصيني شي جينبينغ في بكين - رويترز

أعربت مصادر غربية خلال الأسابيع القليلة الماضية عن انشغالها «بتوجّه تونس شرقاً»، خصوصاً نحو الصين وروسيا وآسيا. وأثارت المصادر نفسها علامات استفهام حول امتناع الرئيس التونسي قيس سعيّد عن تلبية دعوة وُجِّهت له للمشارَكة في أشغال اليوم الثاني من قمة «مجموعة الدول السبع»، التي نُظّمت في إيطاليا، وحضرها كذلك «ضيوف شرف»، بينهم رؤساء الجزائر وموريتانيا وتركيا والبرازيل ودولة الإمارات العربية المتحدة. وللعلم، سعيّد كلّف رئيس حكومته أحمد الحشّاني تعويضه، في خطوة انتقدتها أوساط إعلامية وسياسية غربية، لا سيما أنها جاءت بعد أول زيارة رسمية قام بها الرئيس التونسي إلى بكين في مرحلة تعدّدت فيها «المؤشرات» على توجّه تونس بنسق أسرع نحو الصين وروسيا اللتين ازداد دوراهما في الجزائر وليبيا وعدد من الدول الأفريقية.

فسّرت مصادر دبلوماسية أوروبية في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» التوجّه المتزايد للسلطات التونسية نحو آسيا بأنه «رسالة احتجاج وتحذير لباريس وواشنطن وبقية العواصم الغربية»؛ بسبب امتناعها عن تقديم ما تحتاجه تونس من «دعم مالي» لاقتصادها المأزوم. وتابعت المصادر أن ثمة عنصراً آخر يمكن أن يفسّر «توجّه تونس شرقاً» هو الرد العملي «على انتقادات العواصم الغربية» للحكومة التونسية تحت يافطة «حقوق الإنسان».

مقابل ذلك، أعلنت قيادات عليا في بكين وموسكو، وأيضاً في بعض دول المشرق العربي الإسلامي، دعماً سياسياً «غير مشروط للسلطات التونسية في الخطوات التي قامت بها منذ قرارات 25 يوليو (تموز) 2021، التي تطوّرت إلى حلّ البرلمان السابق، والحكومة، ومؤسّسات منتخبة عدة.

في هذه الأثناء، كشف آخر الإحصاءات الرسمية التونسية أن كلاً من الصين وروسيا وتركيا والجزائر ضاعفت خلال العامين الماضيين مبادلاتها التجارية مع تونس، وأصبحت في المرتبة الأولى في قطاعات كثيرة.

هذا الأمر يطرح تساؤلات عمّا تعنيه هذه التطورات في علاقات تونس الخارجية... وهل تؤشر لـ«مسار جديد» هدفه تنويع الشركاء عالمياً، أم هي نوع من «التمرد» على «الشركاء التقليديين» في أوروبا الغربية والولايات المتحدة تمهيداً لانخراط في «محاور دولية جديدة» بقيادة بكين وموسكو، أم تراها مجرد «ورقة ضغط ذكية» على الشركاء الغربيين التقليديين، خصوصاً في باريس وبرلين وواشنطن؛ كي توقف انتقاداتها للسلطات التونسية بسبب «ملفات الحريات»؟

احترام السيادة الوطنية

وزير الخارجية التونسي نبيل عمّار ألقى أخيراً محاضرةً في الجامعة التونسية تكلمّ فيها عن زيارة الرئيس سعيّد إلى الصين، وعن «فتح آفاق جديدة أمام الدبلوماسية التونسية». وممّا قاله عمّار بوضوح أن تونس ستقيم علاقاتها مع شركائها في العالم وفق مقاييس عدة، من بينها «احترام سيادتها الوطنية، والإحجام عن التدّخل في سياستها الداخلية».

وهنا علّق السفير منذر الظريف، مدير عام المعهد الدبلوماسي سابقاً، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» قائلاً إن «الصين شريك مميّز لتونس منذ أن كانت أول دولة اعترفت باستقلال تونس عن فرنسا عام 1956». وأردف موضحاً أنه سبق لبكين أن موّلت مشاريع زراعية وصحية وتجارية ضخمة في تونس، وهي راهناً تعدّ لإبرام صفقات مهمة في قطاعات الجسور والطرقات والبنية الأساسية والتعليم والدفاع والأمن.

«نظام دولي جديد»

وحقاً، يلاحظ أن كلمات الرئيس قيس سعيّد في العاصمة الصينية، وأيضاً في تونس والجزائر تضمّنت دعوات مباشرة إلى بناء «نظام دولي جديد». ومشيراً هنا إلى أن تونس عزّزت أخيراً شراكتها الاقتصادية مع الجزائر، التي تتعرّض بدورها إلى انتقادات فرنسية وأوروبية وغربية؛ بسبب مضاعفة مبادلاتها واستثماراتها المشتركة مع الصين وروسيا وتركيا وقطر على حساب علاقاتها التقليدية مع فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي.

كذلك دخلت تونس في «حلف ثلاثي مؤقت»، مع الجزائر وليبيا، كان قد أُعلن في أعقاب «القمة المغاربية المصغّرة» التي عُقدت قبل أسابيع في تونس، واختُتمت ببيان ختامي تكلّم عن «رفض التدخل الأجنبي في قضايا دول المنطقة»، بما فيها الأزمة الليبية، والنزاعات في أفريقيا.

«التموضع» التحالفي

وبالفعل، أثارت نتائج تلك «القمة المغاربية الثلاثية» انتقادات فرنسية وغربية جديدة لتونس والجزائر وحلفائهما في ليبيا. وأجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعدها مباشرة مكالمةً هاتفيةً مع نظيره التونسي، فسّرها المراقبون بكونها «رسالة تطمينات» سياسية واضحة تحثّ تونس والجزائر على تحاشي الخروج من «الفضاء الفرنكوفوني والأوروبي المتوسطي».

وفي المقابل، صدرت أخيراً في كل من بكين وموسكو وطهران والجزائر انتقادات عديدة لما عدّته هذه العواصم «محاولة انتهاك للسيادة الوطنية التونسية» و«تدخلاً أجنبياً في شؤون البلاد»، وبالأخص، بعد البيانات الأوروبية والغربية الرسمية والحملات الصحافية على السلطات التونسية؛ بسبب ملفات الحريات وحقوق الإنسان».

القمة الفرنكوفونية المنعقدة عام 2022 في جزيرة جربة التونسية - رويترز

المواقف داخلياً

أما على الصعيد الداخلي، فقد دعّم زهير حمدي الأمين العام لحزب «التيار الشعبي»، وزهير المغزاوي الأمين العام لحزب «الشعب القومي»، ومعهما قياديون من حزب «مسار 25 يوليو»، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» توجّه السلطات التونسية شرقاً وانفتاحها أكثر على الصين وروسيا وبقية الدول الآسيوية. ومن ناحية ثانية، رحّب هؤلاء أيضاً بقرار وزارة الخارجية التونسي أخيراً إلغاء تأشيرات الدخول بالنسبة للسياح الإيرانيين والعراقيين.

... وخارجياً

ولكن في سياق التطورات السريعة في علاقات تونس الخارجية مع «المحور الصيني – الروسي - الآسيوي» شنّ عددٌ من أبرز وسائل الإعلام الفرنسية والغربية حملة انتقادات جديدة للسلطات التونسية. وأبرزت مواقع تلفزيونية وصحافية قريبة من حكومة باريس تقارير جديدة عن الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الروسي لافروف قبل أشهر إلى تونس والمنطقة، وأسفرت عن إعلان «ترفيع» الشراكة بين البلدين، والاتفاق على تبادل الزيارات بين الرئيسين فلاديمير بوتين وقيس سعيّد.

بل ذهبت تقارير جديدة، نشرتها وسائل إعلام رسمية فرنسية، تلفزيونية ومكتوبة، حد نشر «إشاعات» عن فتح مطارات تونسية لقوات روسية نظامية وغير نظامية بينها ميليشيا «فاغنر»، بيد أن سفارة تونس في باريس كذّبت هذه «الإشاعات». وعدّ محسوبون على قصر قرطاج الرئاسي في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن هذه الحملة الإعلامية على السلطات التونسية جزء من ضغوط خارجية؛ رداً على رفض الرئيس سعيّد الانصياع لـ«الشروط المجحفة» لصندوق النقد والبنك الدوليَّين.

ويذكر، هنا، أن سعيّد برّر موقفه الرافض بحرصه على ألا تشهد تونس اضطرابات أمنية واجتماعية خطيرة شبيهة بما وقع خلال المواجهات الدامية مع النقابات العمالية والعاطلين عن العمل والفقراء في عهدَي الرئيسَين الأسبقَين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.

السفارة الفرنسية تتحرك

في أي حال، وفي تزامن مثير للانتباه مع تكثيف اجتماعات الرئيس التونسي ووزير خارجيته مع مسؤولين صينيين وروس وجزائريين وليبيين وإيرانيين وكوريين، ودعواته إلى «نظام عالمي جديد»، كثّفت السفارة الفرنسية في تونس تحركاتها ميدانياً وإعلامياً.

كذلك، نظّم المركز الثقافي التابع للسفارة معرضاً، بالاشتراك مع سفارة فلسطين في تونس و«معهد العالم العربي» بباريس، حول ما يقدمه الفن الفلسطيني والتراث الفلسطيني للعالم بحضور سفير فلسطين في تونس هائل الفاهوم. وجاء هذا التحرك بعد أشهر من المظاهرات أمام مقرَي السفارتَين الفرنسية والأميركية رُفعت فيها شعارات تتهم فرنسا بـ«المشارَكة في العدوان على غزة»، وتطالب بغلق السفارات والمصالح الفرنسية والغربية بتونس... والتوجه نحو الصين وآسيا.

هذه الشعارات والمظاهرات ذكّرت المراقبين الغربيين في تونس بتحركات مماثلة تشهدها منذ مدة دول الساحل والصحراء الكبرى، وكذلك بعض المناطق في ليبيا بـ«دعم من روسيا والصين، وميليشيا فاغنر الروسية غير النظامية».

ومن جانب آخر، أدلت السفيرة الفرنسية آن جيجين، بتصريح لقناة تونسية بالتزامن مع زيارة سعيّد إلى الصين، قالت فيه إن «فرنسا تظل الشريك الاقتصادي الأول لتونس» وإنها «المستثمر الصناعي الأجنبي الأول عام 2023». وأوضحت أن من بين 3800 شركة أجنبية مُستثمِرة في تونس فإن 1560 فرنسية، ومن ثم، أعلنت أن التجارة بين فرنسا وتونس تحقق فائضاً سنوياً مهماً بحجم يفوق مليارَي يورو لصالح تونس؟

نعم... ولكن

ولكن عدداً من أعضاء البرلمان التونسي الحالي، بينهم قادة الأحزاب والمنظمات التونسية اليسارية والقومية المساندة للرئيس سعيّد وللسلطات، يواصلون الضغط إعلامياً وسياسياً على السلطات كي «تتوجّه نحو الصين وبلدان آسيا». ولقد نظّم آلاف من النقابيين اليساريين والنشطاء في «التنسيقية التونسية لمساندة فلسطين»، قبل فترة قصيرة، مظاهرات جديدة أمام سفارات عدة تطالب بـ«قطع العلاقات مع عواصم الدول المشارِكة في حرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني» بينها فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا. غير أن البعض يقلل من قيمة هذه المظاهرات ويتهمها بـ«الظرفية»، رغم القرار الذي اتخذته طهران بإلغاء تأشيرة الدخول على المسافرين من 28 دولة بينها تونس. وجاء تفاعل تونس مع هذا القرار بإلغاء مقابل، وغير مسبوق، لشرط التأشيرة بالنسبة للسياح الإيرانيين والعراقيين.

عبد الله العبيدي، الدبلوماسي التونسي السابق في ألمانيا، قال في حوار مع «الشرق الأوسط» إنه لا يوافق على «تضخيم» التقارب بين تونس والصين وروسيا ودول آسيا.

ورجّح العبيدي تمسّك السلطات التونسية «بثوابت الدبلوماسية التونسية الكلاسيكية لأسباب موضوعية»، من بينها أن أكثر من 70 في المائة من شراكات تونس الاقتصادية الخارجية، تجارة واستثماراً وسياحة، لا تزال مع أوروبا وأميركا وبقية الدول الغربية. وتابع أن «الانفتاح أكثر على الأصدقاء لا يكون على حساب الشراكة الاستراتيجية مع الحلفاء». ومن ثم، توقّع العبيدي أن تكون «السلطات التونسية بصدد استخدام ذكي لورقة الضغط» على شركائها الأوروبيين والأميركيين، بهدف حثهم على تقديم ما تحتاجه من دعم مالي، وتحذيرهم من سيناريو «اقترابها أكثر من بكين وموسكو وطهران والدول الآسيوية».

وفي حين قال الوزير السابق خالد شوكات في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن الدبلوماسية التونسية انخرطت رسمياً في مسار «تنويع الشركاء» والانفتاح أكثر على الصين وبلدان آسيا، بما فيها «مجموعة شنغهاي» التي أُسست قبل 15 سنة بزعامة الصين، وتطوّرت إلى «تكتل تضم أسواقه نحو ثُلث سكان الكرة الأرضية»، فإن معظم المؤشرات ترجّح انتصار «الواقعية» على «المغامرات»، خصوصاً في مرحلة تتأهب فيها البلاد لتنظيم دورة جديدة من الانتخابات الرئاسية. على الرغم

من كل شيء... مراقبون يتوقّعون انتصار «الواقعية» على «المغامرات»

أضواء على التجارة التونسية مع الصين وروسيا

> أعلنت مصادر غربية وتونسية أن عجز الميزان التجاري سنوياً بين تونس وكل من الصين وروسيا ارتفع عام 2023 إلى أكثر من 15 مليار دينار تونسي، أي نحو 5 مليارات دولار أميركي، بينما قُدّر العجز مع الجزائر وتركيا بنحو 8 مليارات دينار تونسي، أي بأكثر من ملياري دولار ونصف.في المقابل تورد الإحصائيات الجديدة لـ«معهد الإحصاء الحكومي» التونسي أن تونس حققت فائضاً تجارياً مع فرنسا وبلدان الاتحاد الأوروبي، بفضل صادرات المؤسسات الصناعية التونسية المشتركة. وهذه الصادرات «تحتل المرتبة الأولى بين موارد الدولة التونسية من العملات الأجنبية قبل السياحة وتحويلات نحو مليوني تونسي مهاجر غالبيتهم في أوروبا»، حسب تصريح الخبير غازي معلى لـ«الشرق الأوسط». وما يستحق الإشارة السفيرة الفرنسية لدى تونس آن جيجين ذكرت أن «المجلس الأعلى للتعاون والشراكة التونسية الفرنسية» سيعقد قريباً.هذا، ودعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره الرئيس التونسي قيس سعيّد لحضور «القمة السنوية للبلدان الفرنكوفونية» في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل في باريس، وكانت القمة الأخيرة قد عقدت في جزيرة جربة التونسية. ومن المقرّر أن يحضر سعيّد هذه القمة لتسليم الرئاسة إلى الرئيس الفرنسي، وهذا رغم مؤشرات تراجع الدور العالمي لماكرون وحلفائه الأوروبيين بعد «زلزال» فوز اليمين المتطرف في الانتخابات.بالتوازي، كشف السفير السابق أحمد بن مصطفى عن تراجع إقبال السياح الروس على تونس من نحو 700 ألف سائح إلى بضعة مئات بسبب «حرب أوكرانيا» والحصار الدولي المفروض على روسيا. وهذا الواقع، يقرأه رضا الشكندالي أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية لـ«الشرق الأوسط»، بأن الإحصائيات الرسمية تبرّر مواصلة الرهان على فرنسا والشركاء الأوروبيين.


مقالات ذات صلة

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

حصاد الأسبوع تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات...

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع طابور اقتراع في كشمير (رويترز)

القضايا الرئيسية في انتخابات 2024 الكشميرية

برز إلغاء المادة 370 وتأسيس دولة مستقلة في جامو وكشمير قضيتَين رئيسيتين في هذه الانتخابات، بينما تشكّل البطالة مصدر قلق مزمن كبير. الصحافي زاهور مالك قال: «ثمة…

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)

جدعون ساعر... غريم نتنياهو الذي ناصره في «حكومة الحرب»

جدعون ساعر
جدعون ساعر
TT

جدعون ساعر... غريم نتنياهو الذي ناصره في «حكومة الحرب»

جدعون ساعر
جدعون ساعر

عادّاً قرار عودته إلى الحكومة الإسرائيلية «عملاً وطنياً صحيحاً» يأتي في «أوقات صعبة مليئة بالتحديات»، تحالف النائب الليكودي جدعون ساعر من جديد مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وانضم لنصرته في «مجلس الحرب» وزيراً بلا حقيبة، وسط تكهّنات بأن المعارض اليميني «المتشدد» الذي يلقبه زملاؤه بـ«جيدي» قد يخلف وزير الدفاع يوآف غالانت، حال استقالته من منصبه. ساعر، الذي كان قد استقال من حكومة نتنياهو قبل بضعة أشهر اعتراضاً على استبعاده من «مجلس الحرب»، قال يومذاك جملته الشهيرة «لم نأت لتدفئة الكراسي». إلا أنه تراجع عن موقفه وعاد اليوم إلى الحكومة، مبرراً ذلك خلال مؤتمر صحافي لإعلان المصالحة مع حليفه وغريمه نتنياهو، بأنه «ليس من المفيد البقاء في المعارضة، بل واجبي في الوقت الحالي أن أحاول المساهمة على الطاولة حيث تُتخذ القرارات».

أثارت عودة جدعون ساعر إلى الحكومة الإسرائيلية جدلاً واسعاً، وشكلت تناقضاً سافراً لمواقف سبق أن أعلنها في خضم خلافه المحتدم مع نتنياهو ضمن كتلة «الليكود» النيابية. وهو الأمر الذي لم ينكره ساعر، إذ قال: «أمضينا أنا وبيبي (نتنياهو) سنوات من الشراكة الجيدة والوثيقة جداً، وكانت هناك أيضاً سنوات من الخلافات الشخصية والسياسية، لكن منذ صباح 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لم يعد لهذا الخلاف أهمية»، وهذا ما أقرّ به أيضاً نتنياهو عندما ردّ: «وضعنا ضغائن الماضي خلفنا».

نشأة في «كيبوتز»

ولد جدعون ساعر في تل أبيب يوم 9 ديسمبر (كانون الأول) 1966. وهو الابن الأكبر لأم من يهود بُخارى (في أوزبكستان) تعمل في التدريس، وأب طبيب جاء إلى إسرائيل من الأرجنتين. ولقد نشأ جدعون في مستوطنة تعاونية (كيبوتز)، واعتاد أن يرافق والده في زيارات إلى بيت ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، إذ كان أبوه الطبيب الخاص لبن غوريون.

بدأت ميول جدعون ساعر السياسية في وقت مبكر، وإبان مرحلة تعليمه الثانوي انضم إلى حركة «هتحيا»، وترأس فرع الشباب فيها، وهي الحركة التي تحوّلت فيما بعد إلى حزب سياسي يميني متطرّف بين عامي 1979 و1992، أسّسه إسرائيليون يمينيون معارضون لاتفاقية «كامب ديفيد»، وظل قيادياً ناشطاً في ذلك الحزب إلى أن التحق فيما بعد بصفوف حزب «الليكود» (التكتل) اليميني. أما في مرحلة الدراسة الجامعية، فقد حاز ساعر درجة بكالوريوس في العلوم السياسية وبكالوريوس في الحقوق من جامعة تل أبيب. وبما يتصل بخدمته العسكرية، فإنه خدم في الجيش الإسرائيلي جندي مشاة في وحدة «غولاني»، وبعد إصابته أكمل خدمته ضابط استخبارات.

محام وصحافي

عمل ساعر في مهن عدة، وتدرّج في عدة مناصب. ولقد بدأ حياته العملية في المجال الحقوقي مساعد نائب عام، ثم عمل محامياً في النيابة العامة لمنطقة تل أبيب. وفي عام 1999، عندما كان في الثانية والثلاثين من عمره عيّن أميناً لمجلس الوزراء في حكومة نتنياهو الأولى، وهو المنصب الذي شغله أيضاً في حكومة أريئيل شارون الأولى. أيضاً سبق لساعر أن عمل صحافياً في وسيلتين إعلاميتين يساريتين. وإبان «الانتفاضة الفلسطينية الثانية»، شغل أيضاً منصب سكرتير مجلس الوزراء، وترأس وفد إسرائيل إلى الأمم المتحدة مركزاً على منع تشكيل لجنة تحقيق دولية في معركة جنين ضمن «عملية الدرع الواقي» التي نفذتها القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية من أجل القضاء على «الانتفاضة». وكان ممثلاً للحكومة في الكنيست؛ حيث روّج لتشريعات عدة متعلقة بالقضايا الأمنية والسياسية الحساسة. وفي عام 2002 انتخب عضواً في الكنيست للمرة الأولى، وكان رئيساً لكتلة «الليكود» البرلمانية ورئيساً للائتلاف اليميني. هذا، وبرز ساعر في «الليكود» خلال فترة توليه السلطة، وقاده أيضاً في زمن المعارضة بعد خسارة الحزب انتخابات عام 2005. وكان من الشخصيات الرئيسية والمؤثرة في إعادة تأهيل «الليكود» للفوز في انتخابات 2009. وحقاً، في ذلك العام عيّن وزيراً للتربية والتعليم، كما صار عضواً في «مجلس الوزراء الأمني». ثم في عام 2013 عيّن وزيراً للداخلية.

استراحة أسرية

عام 2014، بعد زواجه من الإعلامية اليسارية غيئولا إيبن، قرّر ساعر أخذ استراحة من العمل السياسي وتكريس وقته لرعاية أطفاله من زواجه الأول وأطفال زوجته الجديدة، دانييلا وألونا وديفيد وشيرا. وخلال هذه الفترة، تعمّق في متابعة قضايا الأمن القومي الإسرائيلي، وصار زميلاً في «المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي»، كما عمل محاضراً في قضايا الحكومة والإصلاح في كلية «أونو الأكاديمية»، ومستشاراً خاصاً لإحدى شركات المحاماة.

وبالفعل، عاش ساعر مع أسرته، إبان هذه الفترة، في شقة بتل أبيب «مليئة بألعاب الأطفال الملوّنة والمراهقين الصاخبين»، وفق وصف صحيفة «الواشنطن بوست» في حوار أجرته معه عام 2017، كذلك نقلت الصحيفة عنه قوله إنه «يريد التركيز على عائلته ونفسه، على الأقل لفترة من الوقت، تاركاً الباب مفتوحاً لعودته للسياسة يوماً ما». وأردف: «عندما استقلت من الحكومة والكنيست في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 كان من الواضح أنني سأعود... وكان السؤال الوحيد هو متى». ثم تابع في حواره مع الصحيفة الأميركية: «لست في عجلة من أمري لكي أصبح رئيساً للوزراء، لكنني قلت بوضوح عند عودتي إنني أعتزم قيادة الحزب والبلاد في المستقبل». وبالضبط، بعد نحو خمس سنوات، قرر ساعر العودة للسياسة وانتخب على قائمة «الليكود» في الكنيست.

مواقف «متشددة»

يُعرف ساعر بمواقفه اليمينية الحادة والمعارضة، فهو رفض خطة الانسحاب من قطاع غزة، وتنازل عن منصبه في رئاسة كتلة الائتلاف في الكنيست أيام أريئيل شارون، إثر تنفيذ خطة «فك الارتباط». وأيضاً من آرائه ومواقفه المتشددة، معارضته الشديدة «حل الدولتين». وفي هذا الشأن قال في حوار مع «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» – القريب جداً من إسرائيل – عام 2021 إنه «يدعم أقصى قدر من الحكم الذاتي للفلسطينيين ليحكموا حياتهم، مع الحدّ الأدنى من القدرة على إلحاق الضرّر بأمن دولة إسرائيل». وتكلّم عن «الحاجة لعنصر إقليميّ، مع دمج الدولتَين المجاورتَين، الأردن ومصر، في الحلول نفسها»، عبر ما وصفه باتفاقيات «ثلاثية الأطراف في بعض القضايا؛ بشأن السياحة والاقتصاد والبيئة وقضايا أخرى».

وبالنسبة للاستيطان، يدعم ساعر بناء المستوطنات في الضفة الغربية مع ضم أجزاء من الضفة الغربية. وسبق أن أوضح خلال لقاء مع صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» عام 2018 أن «إقامة دولة فلسطينية على بعد أميال قليلة من مطار بن غوريون والمراكز السكانية الرئيسية في إسرائيل من شأنها أن تخلق خطراً أمنياً وديموغرافياً على إسرائيل».

وحيال «حرب غزة»، حثّ ساعر حكومته على «اتخاذ إجراء عسكري أكثر قوة في غزة»، وهو ما من شأنه حسب رأيه «تقصير فترة الحرب». وعدّ في مقال نشره موقع «بوليتيكو» في نوفمبر 2023 أن «الصراع بين حماس وإسرائيل حرب للغرب أيضاً... ومنذ الثورة الإيرانية عام 1979، أصبح الإسلام الراديكالي منافساً آيديولوجياً للغرب الديمقراطي». وأضاف أن «الصبر والتسامح تجاه الآيديولوجية المتطرّفة التي لا تعترف بشرعية أسلوب حياتكم (أي الغرب) هما أكبر عدوّ للسلام والتعايش».

حليف نتنياهو وغريمه

في الواقع، يحمل جدعون ساعر سمات شخصية مزدوجة، وقد وصفته صحيفة «هآرتس» عام 2020 بأنه في آن معاً «علماني رائع من تل أبيب... وقومي مؤيد للمستوطنين».

ولعل تناقضات شخصية ساعر المثيرة للجدل تظهر بوضوح في علاقته بـ«بيبي» نتنياهو، الذي ظل لسنوات طويلة داعماً له بصفته عضواً في «الليكود»، أو سكرتيراً لرئيس الوزراء ووزيراً في حكومات نتنياهو المختلفة. لكن هذا التحالف سرعان ما انفضّ كاشفاً عن «ضغينة شديدة» يكنّها ساعر ضد رئيسه السابق، إذ انفصل عن «الليكود» وشكّل حزباً جديداً لمنافسة حليفه السابق في الانتخابات، ما «يضع العقل السياسي الماكر ضد معلمه السابق في معركة شخصية عميقة غارقة في مظالم الماضي»، بحسب تقرير لوكالة «الأسوشييتد برس» عام 2021. والحقيقة أن الخلاف مع نتنياهو مر بمراحل عدة، كانت الأولى عندما خاض الانتخابات التمهيدية لقيادة «الليكود» ضده عام 2019، لكنه لم يستطع يومذاك الحصول على زعامة الحزب، فقرر عام 2020 الاستقالة من الكنيست والحزب، وتأسيس حزب «تكفا هداشا» (الأمل الجديد)، الذي خاض انتخابات 2021 وحصل على 6 مقاعد في الكنيست، ومن ثمّ، لعب دوراً في تشكيل «حكومة وحدة» بديلة لإسرائيل، ليشغل في البداية منصب نائب رئيس الوزراء ووزير العدل.

وللعلم، وصف ساعر دائماً بأنه «قومي متشدد» وكان يُنظر إليه منذ فترة طويلة على أنه «وريث لقيادة حزب الليكود»، لكنه بعد تحديه الفاشل لنتنياهو في سباق الزعامة، ومن ثم حرمانه من أي منصب حكومي عقاباً له، انفصل عن الحزب وأعلن أن «هدفه هو الإطاحة بنتنياهو لتحويله حزب الليكود أداةً للبقاء الشخصي».

ولكن، في أكتوبر الماضي، وافق ساعر على طلب نتنياهو تشكيل «حكومة موسّعة»، بيد أنه سرعان ما ترك الحكومة في مارس (آذار) الماضي، بعد رفض «بيبي» السماح له بالانضمام إلى «حكومة الحرب»، وقال حينذاك إنه لن يستطيع «تحمّل المسؤولية طالما أنه ليس لدي أي تأثير، فنحن لم نأت إلى الحكومة لتدفئة الكراسي».

مع هذا، عاد ساعر مرة أخرى ليتراجع، وأعلن في29 سبتمبر (أيلول) الماضي عودته إلى الحكومة الإسرائيلية، فيما عُدّ «نُصرة» لنتنياهو تتيح له توسيع غالبيته مع دعم أربعة نواب إضافيين.