السودان: معركة «كسر عظم» في الفاشر

الجيش والحركات المسلحة يدافعان... وقوات «الدعم السريع» تهاجم بإصرار

آثار الدمار في الفاشر (آ ف ب)
آثار الدمار في الفاشر (آ ف ب)
TT

السودان: معركة «كسر عظم» في الفاشر

آثار الدمار في الفاشر (آ ف ب)
آثار الدمار في الفاشر (آ ف ب)

الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور بأقصى غرب السودان، هي المدينة الوحيدة في الإقليم الكبير، الذي تضاهي مساحته مساحة فرنسا، التي لا تزال في يد الجيش والميليشيات المسلحة الموالية له، وذلك بعد سيطرة «قوات الدعم السريع» على أكثر من 90 في المائة من إقليم دارفور ما عداها. ولقد استقرّ في الفاشر مئات الآلاف من الفارين بمَن فيهم الجنود والضباط الذين سيطرت «الدعم السريع» على «فرقهم» العسكرية، وبذا أضحت المدينة ذات الكثافة السكانية العالية تؤوي مئات الآلاف من النازحين منذ «حرب دارفور» عام 2003. وما يُذكر أن مدينة الفاشر تقع على بُعد 900 كيلومتر تقريباً غرب العاصمة الخرطوم، وتعدّ مركزاً تجارياً وزراعياً، وهي مركز «سلطنة الفور» التاريخية، وتلقب تحبّباً بـ«الفاشر أبو زكريا» تيمّناً بالسلطان زكريا والد سلطانها الشهير علي دينار. وأكثر من هذا، هذه المدينة العريقة هي حاضرة إثنية (أو شعب) الفور، التي تسمى بها الإقليم، وظل الفور يحكمونها طوال الفترة بين عامَي 1445 و1916.

تُقدّر كثافة سكان مدينة الفاشر حالياً بقرابة 900 ألف نسمة، يتوزّعون بين قبائل وإثنيات الإقليم والسودان المختلفة، وإن كانت الكثافة الأعلى لجماعة الزغاوة الإثنية. وإلى جانب السكان الأصليين، تضم الفاشر اليوم عدداً من معسكرات النازحين هي: «معسكر أبوشوك»، و«معسكر زمزم»، و«معسكر السلام»، وهي تؤوي المواطنين الذين نزحوا إلى حاضرة الإقليم إثر اندلاع الحرب بين الجيش والحركات المسلحة الدارفورية 2003. ومن ثم ازداد العدد كثيراً بعد استيلاء «قوات الدعم السريع» على مناطق ومدن الإقليم الأخرى؛ هرباً من القتال ومن الانتهاكات التي ترتكبها «الدعم السريع» إبان معارك السيطرة.

يشار إلى أنه قبل اندلاع الحرب في السودان، كان هناك شبه «اتفاق سكوتي» بين الجيش و«الدعم السريع» والحركات المسلحة على إبقاء الفاشر بعيدة عن النزاع، وعلى أن تحميها «القوات المشتركة» المكوّنة من قوات الحركات المسلحة الموقّعة على «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وهي «حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان» بزعامة مني أركو مناوي، و«تجمع قوى تحرير السودان» بقيادة الطاهر حجر، و«التحالف السوداني» بقيادة خميس عبد الله أبكر، و«حركة تحرير السودان - المجلس الانتقالي» بقيادة الهادي إدريس، وذلك إلى جانب الجيش و«الدعم السريع».

الهادي إدريس (سونا)

الفاشر «منطقة عسكرية»

ولكن، في أواخر أبريل (نيسان) 2023، أي بعد نحو أسبوعين من اندلاع الحرب، أُعيد تشكيل القوات المشتركة من قوات الحركات المسلحة كي تتولى مهمة تأمين انسياب المساعدات الإنسانية، وحماية المدنيين والطرق الرابطة بين المدن وبقية أنحاء البلاد، بعدما أعلنت هذه القوات «الحياد» بين الجيش و«الدعم السريع». وهذا الأمر أبقى المدينة بمنأى عن القتال على الرغم من سيطرة «الدعم السريع» على 4 ولايات من ولايات الإقليم الخمس، وأجزاء واسعة من الولاية الخامسة شمال دارفور.

وبالفعل، ظلت الحركات المسلحة محايدة بين الجيش و«الدعم السريع» طوال 7 أشهر، وممتنعة عن مناصرة أي منهما. إلا أن اثنتين من كبريات هذه الحركات هما «حركة العدل والمساواة» و«حركة تحرير السودان» أعلنتا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، إنهاء حالة الحياد، و«الانحياز» للجيش والقتال إلى جانبه ضد «الدعم السريع». وجاءت هذه الخطوة إثر اتهامهما «الدعم السريع» باستهداف المدنيين ونهب الممتلكات، والاستعانة بـ«أيادٍ أجنبية» اتهمتها بالسعي إلى تفتيت البلاد، بينما احتفظت حركة «تجمع قوى تحرير السودان» (بقيادة عضو مجلس السيادة السابق الطاهر حجر)، و«حركة تحرير السودان - المجلس الانتقالي» (بقيادة عضو مجلس السيادة الانتقالي الهادي إدريس) بموقفيهما المحايدَين، واختارتا الالتحاق بالقوى المدنية التي تطالب بوقف الحرب.

وبالتالي، تحوّلت الفاشر إلى منطقة عسكرية مكتظة بالجنود والآليات العسكرية والسكان والنازحين بإعلان الحركتين الكبيرتين الانحياز للجيش والقتال مع آخر القواعد العسكرية للجيش السوداني في إقليم دارفور «الفرقة السادسة - مشاة» في المدينة، التي انضم إليها الجنود الفارون من «الفرقة 15» في الجنينة، و«الفرقة 21» في زالنجي، و«الفرقة 16» في نيالا، و«الفرقة 21» في الضعين، والمعسكرات الأخرى التابعة للجيش التي كانت سيطرت عليها «الدعم السريع».

بعدها، منذ أبريل الماضي، حشدت «الدعم السريع» قوات كبيرة حول الفاشر، وطوّقت المدينة من الجهات كلها، وبدأت عمليات عسكرية في محاولة منها للسيطرة عليها. إذ شرعت في قصف المدينة بالمدفعية الثقيلة مع شنّ هجمات متفرقة، مستهدفة مقرّ قيادة الجيش والقوات المتحالفة معه؛ ما أدى إلى حركة نزوح كبيرة خارج المدينة نحو القرى والمعسكرات المتاخمة لها، وخلق أزمة إنسانية كبيرة للمدنيين الذين وجدوا أنفسهم تحت حصار مطبق.

آلاف المدنيين في الفاشر ومحيطها يعيشون أياماً عصيبة وسط أزدياد المخاوف من أن تتطور المواجهات إلى عنف دام ومعارك إثنية

كارثة إنسانية

أثار حصار الفاشر والكارثة الإنسانية المتوقعة، في حال استمرار الحرب في المدينة أو اجتياح «الدعم السريع» لها، مخاوف المجتمعَين الإقليمي والدولي من كارثة إنسانية كبيرة قد تتجاوز الكارثة التي حلّت بالإقليم إبان الحرب بين القوات الحكومية والحركات المسلحة 2003. وحقاً، حذّرت الأمم المتحدة يوم 26 أبريل الماضي من «عواقب وخيمة تطال السكان المدنيين» في الفاشر، بوصفها منطقةً على «حافة المجاعة». وأعلن الأمين العام للأمم المتحدة أن مبعوثه إلى السودان، وزير الخارجية الجزائري السابق رمطان لعمامرة، يسعى مع الأطراف للتهدئة في الفاشر، ودعا الأطراف للامتناع عن القتال فيها.

وأبدت وزارة الخارجية الأميركية هي الأخرى، تخوّفها من تفاقم الصراع في الفاشر، ودعت الأطراف إلى الكف عن مهاجمة المدينة، ووقف هجوم وشيك عليها من قبل «الدعم السريع» من شأنه تعريض مئات الآلاف من المدنيين والنازحين للخطر. وفي خطوة تأتي في سياق مزيد من الضغط على «الدعم السريع» لوقف هجماتها على الفاشر، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات مالية يوم 15 مايو (أيار) الماضي على اثنين من قادة «الدعم السريع» الميدانيين هما: علي يعقوب جبريل وعثمان محمد حميد محمد، لدوريهما في العملية العسكرية في الفاشر وحصارها، وتعريض حياة مئات الآلاف من المدنيين للخطر، والتسبب بسقوط ضحايا في صفوف المدنيين.الأوضاع الميدانية

آدم رجال، الناطق الرسمي باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين، قال في رسالة لـ«الشرق الأوسط» الاثنين الماضي، إن قتالاً شرساً لا يزال يدور في إقليم دارفور، خصوصاً في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور. ووصف ما يحدث هناك بأنها «جريمة حرب»، و«جريمة ضد الإنسانية»، و«عقاب جماعي ضد المدنيين». وأردف رجال: «الجميع محكوم عليهم بالموت جوعاً، أو بسبب القصف المتعمد من قبل أطراف النزاع»، داعياً إلى «وقف فوري للقتال في الفاشر، وفتح الممرات الإنسانية دون تأخير، والسماح للمساعدات الإنسانية بالوصول إلى المحتاجين الذين أنهكهم الجوع ويعيشون في ظروف مروّعة لا يحيط بها الوصف»، بحسب عبارته.

من جهة ثانية، وفقاً لمنصة «عاين» المستقلة، فإن آلاف المدنيين في الفاشر ومحيطها يعيشون أياماً عصيبة، وموجات نزوح مستمرة، في حين تزداد المخاوف من أن تتطوّر المواجهات إلى عنف وإراقة للدماء بدوافع عرقية، على غرار ما شهدته مدينة الجنينة وبلدة أردمتا في غرب دارفور.

ومن جانبها، أفادت «منظمة أطباء بلا حدود» بأن أكثر من 130 مدنياً قُتلوا جرّاء القتال في الفاشر، مع تقديرات بأن أعداد القتلى أعلى بكثير من هذا الرقم، في وقت لا يعمل فيه إلاّ مستشفى واحد هو الآخر تعرّض للقصف. وفي حين تتواصل هجمات «الدعم السريع» على المدينة وأحيائها، تقول مصادر الجيش والحركات المسلحة التابعة له، إنه صدّ الهجمات التي شُنّت على المدينة. وفي المقابل، يرى محللون أن العمليات التي تقوم بها «قوات الدعم السريع» راهناً هدفها «تليين» دفاعات الجيش وحلفائه قبل هجوم كبير قد تشنّه قريباً. وفعلاً، تحشد «الدعم السريع» قوات كبيرة حول الفاشر من الجهات الأربع، وتنشر مزيداً منها؛ ما أدى إلى عزل المدينة كلياً عن العالم، وأدى إلى نقص كبير في المواد الغذائية والمياه والدواء. ولذا يضطر الجيش إلى تزويد قواته المتمركزة في مقر «الفرقة السادسة - مشاة»، - أحد أكبر معاقل الجيش المتبقية في الإقليم - عن طريق «الإسقاط الجوي».

رمطان لعمامرة (آ ف ب)

جعفر حسن: ثمّة ذاكرة غربية ما زالت تختزن الانتهاكات الفظيعة في دارفور

* عزا جعفر حسن، الناطق باسم تحالف «قوى إعلان الحرية والتغيير» السوداني التحذيرات الصادرة عن المجتمع الدولي ضد ما يحدث في الفاشر، إلى وجود «ذاكرة غربية مختزنة من الانتهاكات الفظيعة التي حدثت في دارفور إبان الحرب بين الحركات المسلحة والجيش في 2003». وأضاف: «الغرب يخشى أن توقظ ذاكرة وتاريخ ذلك الوقت في أذهان الناس هناك، وما يمكن أن يقود إليه هذا التذكار».وأوضح حسن أن الفاشر هي آخر مدينة في دارفور ظلت خارج دائرة الحرب. وبالتالي، غدت ملاذاً آمناً لكل حركات النزوح من مناطق دارفور الأخرى، ولكن «وجودها في قلب الصحراء بعيداً عن الحدود من تشاد وليبيا ووسط السودان، واقع يصعّب على المدنيين النزوح والهروب مرة أخرى، وهذا من الأسباب الرئيسية للاهتمام الدولي الكبير بما يدور في الفاشر».ومن ثم، حذّر حسن من مخاطر كبيرة تواجه الناس في المدينة ومحيطها، لافتاً إلى وجود «محاولات لإخراج المدنيين، وإيجاد مخارج آمنة لهم للهرب من الحرب التي تدور داخل الفاشر، والحؤول دون استخدام مدنيي المدينة ومعسكرات النازحين دروعاً بشرية أو أدوات حرب». وتابع: «لو أراد الناس الفرار من الفاشر، فإلى أين سيذهبون؟ لا توجد مدن قريبة تسع هذه الأعداد... صحيح هناك مدن صغيرة محيطة، لكنها لا تتّسع للأعداد الكبيرة التي قد تنزح». واستطرد شارحاً: «الخيار الأمثل بحسب الاتفاق السابق، أن يخرج الجيش و(الدعم السريع) من المدينة؛ لكي تُدار من قِبل القوات المشتركة. هذا هو الحل الصحيح، ولكن ما حدث قد حدث، والدانات تسقط على بيوت الناس من كل الأطراف المتقاتلة، والرصاصة لا تفرّق بين المدني والعسكري».وبالفعل، وفق التقارير، تحوّلت الفاشر مدينةً بحجم ثلاث مدن من حيث عدد السكان بعد لجوء الفارين من ثلاث ولايات إليها. غير أنه يبدو أن كلاً من الجيش و«الدعم السريع» سيخوضان معركة «نَفَس طويل» في المدينة؛ لأن مَن سيُسيطر عليها يكون قد كسر عظم غريمه.


مقالات ذات صلة

«الجنائية الدولية»: ديسمبر للمرافعات الختامية في قضية «كوشيب»

شمال افريقيا علي عبد الرحمن الشهير بـ«علي كوشيب» المتهم بجرائم حرب في إقليم بدارفور (موقع «الجنائية الدولية»)

«الجنائية الدولية»: ديسمبر للمرافعات الختامية في قضية «كوشيب»

حددت المحكمة الجنائية الدولية ومقرها لاهاي 11 ديسمبر المقبل لبدء المرافعات الختامية في قضية السوداني علي كوشيب، المتهم بارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية بدارفور.

أحمد يونس (كمبالا)
الولايات المتحدة​ مسعفون من جمعية «الهلال الأحمر الفلسطيني» ومتطوعون في الفريق الوطني للاستجابة للكوارث (أ.ب)

الأمم المتحدة: عمال الإغاثة الذين قُتلوا في 2024 أعلى من أي عام آخر

أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن عدد عمال الإغاثة والرعاية الصحية الذين قُتلوا في 2024 أعلى من أي عام آخر، بحسب «أسوشييتد برس».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
شمال افريقيا سودانيون فارُّون من منطقة الجزيرة السودانية يصلون إلى مخيم للنازحين في مدينة القضارف شرق البلاد 31 أكتوبر (أ.ف.ب)

مقتل العشرات في هجوم لـ«قوات الدعم السريع» بولاية الجزيرة

مقتل العشرات في هجوم لـ«قوات الدعم السريع» بولاية الجزيرة، فيما تعتزم الحكومة الألمانية دعم مشروع لدمج وتوطين اللاجئين السودانيين في تشاد.

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا النيران تلتهم سوقاً للماشية نتيجة معارك سابقة في الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور (أ.ف.ب)

السودان: توغل «الدعم السريع» في النيل الأزرق والجيش يستعيد بلدة

تشير أنباء متداولة إلى أن الجيش أحرز تقدماً كبيراً نحو مدينة سنجة التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، يونيو (حزيران) الماضي.

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا عائلة تستريح بعد مغادرة جزيرة توتي التي تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في أم درمان بالسودان يوم 10 نوفمبر 2024 (رويترز)

السودان: 40 قتيلاً في هجوم لـ«قوات الدعم السريع» بولاية الجزيرة

أفاد طبيب بمقتل 40 شخصاً «بالرصاص» في السودان، بهجوم شنّه عناصر من «قوات الدعم السريع» على قرية بولاية الجزيرة وسط البلاد.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».