هل يصبح السيناتور توم كوتون وريث «الترمبية» في الحزب الجمهوري؟

أحد «صقور الحرب» الذي قفز اسمه إلى لائحة مرشحي ترمب لمنصب نائب الرئيس

السيناتور توم كوتون
السيناتور توم كوتون
TT

هل يصبح السيناتور توم كوتون وريث «الترمبية» في الحزب الجمهوري؟

السيناتور توم كوتون
السيناتور توم كوتون

مع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة الأميركية التي ستجري بعد نحو 5 أشهر، لا يزال اسم نائب الرئيس الذي سيُدرج على بطاقة الانتخاب مع الرئيس السابق دونالد ترمب، المرشح الجمهوري الأوفر حظاً، أمراً غير محسوم. غير أن قائمة الترشيحات حملت أسماءً عدة؛ ما أضفى على التكهنات مزيداً من الغموض. ولقد برز اسم السيناتور الجمهوري توم كوتون، من ولاية أركنسو، بشكل غير متوقّع كأحد أبرز المنافسين على منصب نائب الرئيس، في إشارة إلى أن الرئيس السابق يفضل الخبرة والقدرة على إدارة حملة منضبطة على عوامل أخرى. ويأتي صعود أسهم كوتون مع تزايد الإعلام والراصدين السياسيين على خيارات ترمب الرئيسية لمنصب نائب الرئيس. وكان قد نقل عنه قوله سراً إنه ينظر إلى كوتون باعتباره جهة اتصال موثوقة وفاعلة في المقابلات الإخبارية عبر القنوات الفضائية، وأشاد بخدمته العسكرية في العراق وأفغانستان.

على الرغم من تسارع العد التنازلي لانتخابات الرئاسة أميركية يقول مقربون من الرئيس السابق دونالد ترمب، إنه لم يُشر بعد إلى شخص معين يفضله على غيره لمنصب نائب الرئيس، كما لم يُظهر اهتماماً كبيراً بحسم الأمر قريباً. هنا يرى البعض أن الرئيس السابق والمرشح الجمهوري شبه المحسوم، ربما يرغب في تحقيق هدفين: استخدام اختيار الاسم سلاحاً سياسياً للحصول على «الولاء»، وإكمال استراتيجيته للسيطرة على قيادة الحزب الجمهوري بعدما ضمن ولاء القاعدة.

ومع قول مراقبين إن ترمب راغب حقاً في اختيار نائب له بعيداً عن الأخطار الناجمة عن تشتيت حملته الرئاسية جرّاء التهديدات القانونية التي يتعرّض لها، وهو ما قد يفسر اهتمامه بكوتون، الذي فاز بسهولة بولاية ثانية في مجلس الشيوخ عام 2020. فإن هؤلاء يحذّرون من أن تفضيلاته لمنصب نائب الرئيس قد تتغير، وهو ما قد يشير أيضاً إلى وجود فرصة لمنافس آخر غير كوتون.

مَن هو كوتون؟

ولد توماس بريانت كوتون يوم 13 مايو (أيار) 1977 في بلدة دردنيلز، بولاية أركنسو. وهو محام وضابط عسكري سابق، كان قد انتُخب عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي عن الولاية الجنوبية المحافظة عام 2015 وهو في سن الـ37 سنة. وسبق له أن خدم في مجلس النواب بين عامَي 2013 و2015.

الأب، توماس ليونارد كوتون، كان مشرفاً في وزارة الصحة بأركنسو، والأم، أفيس كوتون، كانت معلّمة مدرسة وصارت في ما بعد مديرة المدرسة المتوسطة في منطقتهم. أما العائلة، فعاشت في ريف أركنسو لمدة سبعة أجيال، ونشأ الصغير توم في مزرعة الماشية الخاصة بأسرته. وعندما التحق بمدرسة دردنيلز الثانوية، أتاح له طوله (1.96 متر) للعب في فرق كرة السلة المحلية والإقليمية. وهو متزوج من المحامية آنا بيكهام منذ عام 2014، ولديهما طفلان.

سنوات هارفارد

بعد تخرّج كوتون في المدرسة الثانوية عام 1995، التحق بجامعة هارفارد العريقة، وهناك تخصص في الحكومة (الإدارة العامة) وكان عضواً في هيئة تحرير مجلة «هارفارد كريمزون» الجامعية، وبسبب خلفيته اليمينية المحافظة، كان غالباً من معارضي الغالبية الليبرالية فيها. ومن ثم، بعد التخرج في هارفارد، عام 1998، قُبل كوتون في برنامج الماجستير بجامعة كليرمونت للدراسات العليا بولاية كاليفورنيا. لكنه غادرها عام 1999، بحجة أنه وجد الحياة الأكاديمية «راكدة للغاية». وعلى الأثر، عاد إلى هارفارد حيث التحق بكلية الحقوق فيها، وتخرّج مُجازاً في القانون عام 2002.

في أعقاب التخرج في كلية الحقوق، أمضى كوتون سنة واحدة في العمل كاتباً قانونياً، ثم انتقل بعد ذلك إلى الممارسة الخاصة مساعداً في شركات محاماة بالعاصمة الأميركية واشنطن، إلى أن التحق بالجيش الأميركي في عام 2005. وفي الجيش، دخل مدرسة الضباط المرشحين وأكمل عمليتي نشر قتاليتين في العراق وأفغانستان، حيث حصل على النجمة البرونزية، واثنين من أوسمة الثناء العسكري، وشارة المشاة القتالية، وميدالية حملة أفغانستان، وميدالية العراق، وفي النهاية جرى تسريحه بدرجة شرف في سبتمبر (أيلول) 2009.

ومن هناك وجّه اهتمامه صوب السياسة...

في الانتخابات التمهيدية لمجلس النواب التي أجريت عام 2012، فاز كوتون في الانتخابات العامة على منافسه جين جيفريز بنسبة 59.5 في المائة من الأصوات، بفضل دعم من السيناتور الراحل جون ماكين (أريزونا) وحركة «حزب الشاي» و«المؤسسة» الحزبية الجمهورية. ثم في عام 2014 أعلن عن ترشحه لمقعد في مجلس الشيوخ، وهذه المرة مدعوماً من تجمع المحافظين والسيناتور ماركو روبيو (فلوريدا) والسيناتور ميت رومني (يوتاه) المرشح الرئاسي السابق. وفاز بمنصبه متغلباً على السيناتور الديمقراطي مارك بريور، بعد حصل على 56.5 في المائة من الأصوات.

نجم يميني صاعد

لطالما اعتُبر توم كوتون أحد النجوم الصاعدين في الحزب الجمهوري، وهذا طموح قد يضرّ بفرصه مع ترمب، الذي قوّض حلفاءه في الماضي عندما رأى أنهم يتطفلون على سرقة الأضواء منه. وبطبيعة الحال، يصعب التنبؤ بتصرفات ترمب، الذي - كما سبقت الإشارة - لا يبدو في عجلة من أمره لاتخاذ قراره بشأن تسمية الشخصية التي سيختارها لمنصب نائب الرئيس. وكان ترمب قد قال أخيراً في مقابلة مع قناة «فوكس نيوز»، إنه من المرجح أن يكون موعد اختياره أقرب إلى موعد انعقاد المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، المقرر أن يبدأ في 15 يوليو (تموز) المقبل.

وللعلم، مع أن كثيرين يرَون أن تصويت كوتون بالمصادقة على نتائج انتخابات الرئاسة لعام 2020 - التي فاز فيها جو بايدن - خطوة معاكسة لإصرار ترمب على القول بأن الانتخابات «سُرقت منه»، وقد يؤثر على اختياره. يجب القول إن كوتون ليس الوحيد من بين الأسماء المطروحة راهناً الذين عارضوا ادعاءات ترمب. إذ صادق أيضاً السيناتوران ماركو روبيو وتيم سكوت على النتائج، بينما قال دوغ بورغوم إن نائب الرئيس السابق مايك بنس فعل الشيء الصحيح من خلال مقاومة ضغوط ترمب لمحاولة قلب النتائج.

تحوّلاته الشعبوية

على الرغم مما تقدّم، يصف كثيرون كوتون بأنه أحد الأصوات الرائدة في الساحة «الترمبية». وكتبت صحيفة «الواشنطن بوست» عنه قائلة: «الأمر المذهل كيفية تكيّف كوتون منذ فوز ترمب بالرئاسة للمرة الأولى، في حين جادل آخرون بأن (السيناتور الشاب) يمكن أن يكون (وريثاً) للجناح (الترمبي) في الحزب الجمهوري». ثم أنه عندما سُئل كوتون عن الخدمة في إدارة ترمب الثانية في حال فاز الأخير بالانتخابات، أجاب إن مناقشاته معه تركز على كيفية الفوز. وصرّح يوم 20 مايو (أيار) على قناة «فوكس نيوز» موضحاً: «عندما نتكلّم فإننا نتكلّم عمّا سيتطلبه الأمر للفوز بهذه الانتخابات في نوفمبر (تشرين الثاني)، وعن انتخاب الرئيس ترمب لفترة ولاية أخرى في البيت الأبيض وانتخاب كونغرس جمهوري كي نتمكن من البدء في إصلاح الضرر الذي أصاب هذا البلد بسبب رئاسة جو بايدن».

وهنا، يقول ستيف بانون، كبير الاستراتيجيين السابق للرئيس ترمب والمخطط اليميني المتشدّد، عن كوتون: «بجانب ترمب، إنه المسؤول المنتخب الذي يمثّل أكبر قدر من القومية الاقتصادية. وكان كوتون هو الأكثر دعماً لنا، في المقدمة وخلف الكواليس، منذ البداية. وهو يدرك أن النخبة في واشنطن – هذه الطبقة السياسية الدائمة لكلا الحزبين، والمستشارين والسياسيين – في حاجة إلى التحطيم». غير أن مسيرة كوتون السياسية وتحوّلاته نحو اليمين الشعبوي المحافظ، بدأت منذ انتُخب نائباً، وكان منذ ذلك معارضاً قوياً للسياسات الخارجية والداخلية لإدارة الرئيس السابق باراك أوباما، واقترع عملياً ضد كل مشاريع القوانين التي اقترحتها إدارته.

يتفوّق على ترمب

في عام 2020، أعيد انتخاب كوتون سيناتوراً، إثر فوزه على ريكي هارينغتون منافسه من الحزب الليبرتاري (الحزب «التفلتي» في أقصى اليمين) - لم يكن للديمقراطيين مرشح في هذه الانتخابات، لكنهم صوّتوا لهارينغتون -. بل وتفوّق كوتون حتى على ترمب في الانتخابات الرئاسية المتزامنة بنسبة 4.1 في المائة من معدل الأصوات.

وخلال رئاسة ترمب، عُد كوتون من الموالين له، وقال في مقابلة مع شبكة «سي إن إن»، بعد وقت قصير من الانتخابات الرئاسية لعام 2016، إن أسلوب الإيهام بالغرق - الذي طالب ترمب باستئنافه - ليس من أشكال التعذيب. وأردف إن «الدعوات الصعبة» مثل السماح بذلك، خيار كان ترمب على استعداد لاتخاذه «لأنه رجل قوي».

كذلك، قبل أقل من شهرين على الانتخابات الرئاسية عام 2020، أيّد كوتون تصويتاً فورياً في مجلس الشيوخ على مرشح ترمب لملء المنصب الشاغر في المحكمة العليا بسبب وفاة القاضية روث بايدر غينزبرغ، لكنه رفض في مارس (آذار) 2016، النظر في مرشح أوباما للمحكمة العليا خلال عام الانتخابات الرئاسية، وكانت حجته «لماذا نقطع النقاش الوطني حول القاضي المقبل؟ لماذا نسحق صوت الشعب؟ هل نحرم الناخبين من فرصة إبداء رأيهم في تشكيل المحكمة العليا؟».

العنصرية والعبودية

وبعد مقتل الشاب الأسود جورج فلويد وهو في قبضة الشرطة، رفض كوتون الرأي القائل بوجود «عنصرية نظامية في نظام العدالة الجنائية في أميركا»، وأيّد ترمب - وسط الاحتجاجات التي تلت ذلك - على «إكس» («تويتر» سابقاً)، إلى استخدام الجيش لدعم الشرطة. وفي وصفه للعبودية، قدّم كوتون في 2020، قانون «إنقاذ التاريخ الأميركي»، قائلاً: «كما قال الآباء المؤسسون، كانت الشر الضروري الذي بُني عليه الاتحاد. ولكن بُني الاتحاد بطريقة، كما قال (الرئيس إبراهام) لنكولن، لوضع العبودية في طريقها إلى انقراضها النهائي».

السلاح والهجرة والإجهاض

وفي يناير (كانون الثاني) 2019، كان توم كوتون واحداً من 31 سيناتوراً جمهورياً رعوا مشروع قانون «المعاملة بالمثل» الدستوري، لحمل السلاح المخفي، وهو مشروع قانون قدّمه السيناتوران الجمهوريان جون كورنن وتيد كروز من شأنه أن يمنح الأفراد ذوي امتيازات حمل السلاح المخفي في ولايتهم الأصلية، الحق في ممارسة هذا الحق في أي ولاية أخرى. وللعلم، فإن كوتون أحد المشرّعين الأميركيين الحاصلين على أكبر قدر من التمويل من لوبي «الرابطة الوطنية للسلاح». وعام 2017، بحضور الرئيس ترمب، اقترح كوتون والسيناتور ديفيد بيردو مشروع قانون جديداً للهجرة، من شأنه الحد من مسار الأسرة أو الهجرة المتسلسلة، كما يحدد المشروع عدد اللاجئين الذين يُعرض عليهم الإقامة عند 50 ألفاً سنوياً، ويزيل تأشيرة الهجرة المتنوعة. وعام 2018 نفى كوتون، الذي كان حاضراً في اجتماع، أن يكون قد سمع ترمب يصف هايتي والدول الأفريقية بـ«البلدان القذرة». ومع أن البيت الأبيض لم ينفِ ذلك، نشر ترمب أقواله في تغريدة في اليوم التالي.

أخيراً، عارض كوتون قانون الرعاية الصحية «أوباماكير»، وقال عام 2012 إن «الخطوة الأولى هي إلغاء هذا القانون الذي يسيء إلى مجتمع حر وشعب حر». وكذلك عارض قانون حماية المرأة ضد العنف، ودافع عن الزواج التقليدي، ودعم بقوة قانون إلغاء الحق بالإجهاض، بحجة أنه «خطأ مأساوي» جرى «تصحيحه».


مقالات ذات صلة

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع الرئيس عبد المجيد تبّون (رويترز)

فوز منتظر للرئيس عبد المجيد تبّون في انتخابات الرئاسة الجزائرية

يتوجه الجزائريون اليوم إلى مراكز الاقتراع لاختيار رئيس جديد. وهذه هي ثاني استحقاقات رئاسية بعد الحراك الذي طال سنتين تقريباً، وشهد خروج ملايين الجزائريين إلى

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع  تأتي رئاسة تراوري في فترةٍ تواجه خلالها بوركينا فاسو تحديات أمنية وإقليمية بعدما فقدت السيطرة على نحو 40 في المائة من مساحتها، للجماعات المسلّحة

إبراهيم تراوري... رئيس بوركينا فاسو وقائد حربها الشرسة ضد «الإرهاب»

رغم تعهّد النقيب إبراهيم تراوري، رئيس بوركينا فاسو، بألا يبقى في السلطة، فإنه مدّد فترة الحكم الانتقالي خمس سنوات إضافية، راهناً إجراء الانتخابات التي كان من

فتحية الدخاخني (القاهرة)

الأطراف الشيعية الحاكمة في العراق تواجه أخطر أزماتها

السوداني مع بزشكيان في بغداد (رويترز)
السوداني مع بزشكيان في بغداد (رويترز)
TT

الأطراف الشيعية الحاكمة في العراق تواجه أخطر أزماتها

السوداني مع بزشكيان في بغداد (رويترز)
السوداني مع بزشكيان في بغداد (رويترز)

على الرغم من كونها أكثر كتلة برلمانية عدداً وتنتمي إلى المكون المذهبي الأكبر في البلاد، لا تبدو قوى «الإطار التنسيقي» التي تمثّل الحاكمية الشيعية في العراق في أحسن حالاتها؛ ففي الوقت الذي لا يمرّ أي رئيس جمهورية أو رئيس برلمان إلا من خلال موافقتها، سواء كانت داخل البرلمان كونها الأكثرية في البرلمان، أو بالفضاء الوطني كون الشيعة يمثلون غالبية عدد سكان العراق؛ فإن أصعب المشاكل التي بدأت تعانيها ليست مع الشركاء (الكرد والعرب السنّة) مثلما كانت عليه الحال عقب سقوط النظام السابق عام 2003، بل من داخلها. يعرف مُتابع الشأن العراقي أن القوى الشيعية تحتكر المنصب الأول في الدولة، ألا وهو رئاسة الحكومة، وهذا احتكار عُرفي لا وجود له في الدستور. والشيء نفسه ينطبق على منصب رئيس الجمهورية المحجوز للكُرد، ورئاسة البرلمان المخصّصة للعرب السنّة. بيد أن الخلاف بشأن منصب رئيس الوزراء داخل أوساط القوى الشيعية دبّ منذ أيام رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي؛ ذلك أن الكاظمي جاء عقب مظاهرات كبرى هزّت النظام السياسي في البلاد، وأدّت فضلاً عن استقالة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي، إلى سقوط مئات القتلى وعشرات آلاف الجرحى، معظمهم من المناطق و«الحواضن» الشيعية التي تقول الحاكمية الشيعية إنها تمثّلهم. والحال أن الأوضاع السياسية في العراق، أثّرت كثيراً على البعد الاجتماعي والوطني، وعبّرت عنها الشعارات التي رفعتها مظاهرات تشرين الأول (أكتوبر)، وأبرزها: «نريد وطناً».

مقتدى الصدر (ا ف ب/غيتي)

يمكن القول إن العملية السياسية التي أسّسها الوجود الأميركي عام 2003، بعد إسقاط الرئيس السابق صدام حسين ونظامه، لم تنتج حتى الآن بعد مرور 21 سنة «نظاماً سياسياً مؤسساتياً». وهذا، مع أن ما أُنتج «شكل نظام» يقوم على قواعد عمل ديمقراطية تحكمها انتخابات دورية ثابتة، وتفرز حكومات تتشكّل في ضوء نتائج الانتخابات. وصَدَق هذا على الانتخابات الأخيرة، التي فاز فيها «التيار الصدري» بزعامة رجل الدين الشيعي الشاب مقتدى الصدر بأكبر عدد من المقاعد (73 مقعداً)؛ إذ تمكّن الصدر من تشكيل الحكومة بـ«تحالف وطني عابر» قوامه تياره (الشيعي)، متحالفاً مع كتلة سنّية كبيرة تضم حزب «تقدّم» بزعامة محمد الحلبوسي، وكتلة كردية كبيرة متمثلة بالحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، ومع ذلك لم يتمكن من تشكيل الحكومة التي أرادها الصدر أن تكون حكومة غالبية وطنية «لا شرقية ولا غربية» طبقاً للشعار الذي رفعه، وهو الأمر الذي أدّى إلى انسحابه من البرلمان.

هذا الانسحاب جاء مع تعزيز القوى الشيعية المعارضة له مكانتها. ولكن هذا التطوّر لم يترجَم إلى تحوّل هذه القوى إلى كتلة سياسية تعمل بموجب نظام داخلي وسياقات عمل تنظيمية واضحة المعالم. وللعلم، تنضوي هذه القوى في كتلة «الإطار التنسيقي» التي تضم أبرز القوى الشيعية المعروفة مثل: «دولة القانون» بزعامة نوري المالكي، و«فيلق بدر» بزعامة هادي العامري، و«عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي، وتيار «الحكمة» بزعامة عمّار الحكيم، و«النصر» بزعامة حيدر العبادي، وشخصيات شيعية أخرى مثل فالح الفيّاض وهمام حمودي.

الخوف من السودانيبعد انسحاب الصدر، الذي «ترك الجمل بما حمل» لقوى «الإطار التنسيقي»، اختارت الأخيرة محمد شيّاع السوداني، المهندس الزراعي ورجل الدولة، ليرأس الحكومة. وميزة السوداني لجهة اختلافه عن معظم القيادات العراقية التي تولّت مناصب عليا، بما فيها رئاسة الحكومة، أنه تدرّج في الوظيفة العمومية من أدنى مستوياتها إلى أعلاها؛ إذ بدأ موظفاً زراعياً في زمن صدام حسين، ثم أصبح قائمقاماً لأحد أقضية محافظة ميسان بعد عهد صدام، ثم محافظاً لميسان، فوزيراً لنحو 5 وزارات قبل تكليفه بتشكيل الحكومة أواخر عام 2022.

أيضاً من المُفارقات في وضع السوداني أنه رُشّح لرئاسة الحكومة مع أن كتلته تضم نائبين فقط في البرلمان، وكذلك أنه حقق سلسلة نجاحات خلال السنتين الأخيرتين، بدأت تثير المخاوف لدى الأوساط السياسية الشيعية. فالرجل نجح في إنجاز نسب كبيرة من برنامجه الحكومي، وحاز رضًى سياسياً ووطنياً عاماً تمثّل بدعم كامل من قبل العرب السنّة والكرد. وفي المقابل، صار الخوف الأكبر لدى قوى «الإطار التنسيقي» هو أن يشكّل السوداني في أي انتخابات مقبلة كتلة كبيرة تهدّد مكانة العديد من تلك القوى، وقد تمهّد لحصوله على ولاية ثانية. وما حصل أخيراً على صعيد ما سُمّي بـ«شبكة جوحي»، التي على أثرها اعتُقل عدد من الموظفين في مكتب السوداني، خلط الأوراق كثيراً داخل المكوّن الشيعي بالدرجة الأولى.

حول هذه المسألة، بالذات، لا علاقة للكرد والعرب السنّة بهذه القصة، التي تتضمّن تسريبات صوتية وتسجيلات تتعلّق بقيادات شيعية. وهو ما عدّه كثيرون بمثابة تهديد للمكانة التي يحتلها موقع رئيس الحكومة في العراق بوصفه المنصب التنفيذي الأول في البلاد. وبغض النظر عن كون التسريبات - التي هي الآن أمام القضاء - محصورة بقيادات شيعية فقط، فإن أي تأثير على موقع رئاسة الحكومة قد يؤثر على مجمل العملية السياسية، وبالتالي يُلحق الضرر بالقوى السياسية من مختلف المكوّنات. وفي هذا السياق، مع أنه لم تظهر نتائج التحقيقات في هذه القضية بعد، تُبذل حالياً مساعٍ مستمرة بين القيادات الشيعية للملمة الأمر ومنع توسّعه؛ لأن من شأن أي تداعيات أخرى لهذا الملف تهديد الحاكمية الشيعية بالدرجة الأولى، التي باتت تعاني الآن أخطر أزمة منذ تولّيها السلطة عام 2003.

صمت الصدر لتاريخه، لم يعلّق مقتدى الصدر على ما حصل خلال الأيام الأخيرة داخل «البيت الشيعي»، الذي يُعد هو وتياره الكبير جزءاً أساسياً منه، حتى وإن لم يعُد جزءاً من كتلة «الإطار التنسيقي» التي شُكّلت بعد انسحاب الصدر أواخر عام 2021. وللعلم، كان «البيت الشيعي» قد مرّ خلال العقدين الماضيين من التغيير في العراق بعدة مراحل على صعيد الوصف الذي يحدّد مكانته داخل العملية السياسية في العراق.

في المرحلة الأولى، بعد تغيير النظام، تشكّل ما سُمّي «البيت الشيعي» الذي برز فيه رئيس «المؤتمر الوطني العراقي» الراحل أحمد الجلبي (تُوفّي عام 2015)، مع أن الجلبي ترأس تجمّعاً سياسياً طابعه العام علماني. غير أن قصة «البيت» لم تستمر طويلاً بعد تراجع أهمية الجلبي، الذي كان يرى دوره هو الأهم على صعيد إقناع الأميركيين بإسقاط نظام صدام حسين؛ ذلك أنه بعد بروز الأحزاب الإسلامية التقليدية، مثل «حزب الدعوة» و«المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» و«التيار الصدري» و«بدر» و«عصائب أهل الحق»، بقي الجلبي على الهامش حتى وفاته المفاجئة والغامضة عام 2015. وإثر انتهاء ما سُمّي «البيت الشيعي» الأصلي، شُكّل «الائتلاف العراقي الموحّد» الذي حصد معظم نتائج انتخابات عام 2005، ومن بعده تشكل «التحالف الوطني» الذي انتهى عملياً عام 2018.

ثم، بعد المظاهرات الكبرى، في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2018، انقسمت القوى الشيعية، خصوصاً، بعد صعود «التيار الصدري» وزعيمه مقتدى الصدر، الذي ظل يتصدر نتائج الانتخابات حتى عام 2021؛ إذ حصل على 73 مقعداً. وبعدما انسحب، اضطرت القوى الشيعية إلى تكوين ما يُطلق عليه اليوم «الإطار التنسيقي» كجهة تنسيقية توحّد مواقف القوى الشيعية الرئيسية، وهي عملياً الكتلة البرلمانية الكبرى تمثيلاً التي جاءت برئيس الوزراء الحالي السوداني.

زعيم «التيار الصدري»، الذي يُنظر إليه كقائد لأكبر تيار شيعي، لم يعلن بعد موقفاً واضحاً من إمكانية مشاركته في الانتخابات المبكرة. لكنه عندما أعلن العام الماضي عن تغيير تسمية «التيار الصدري» إلى «التيار الوطني الشيعي»، شعرت القوى السياسية - وفي مقدّمها القوى الشيعية - أنه عائد لا محالة إلى الانتخابات المقبلة المقررة بنهاية عام 2025. لكن الأهم أن الصدر لم يعلّق على أقوى «هزّة» تعرض لها البيت الشيعي الحاكم منذ عام 2003، والتي تمثلت بسلسلة من الفضائح المالية والسياسية غير المتوقعة بالطريقة التي حصلت بها أو تداعياتها المنتظرة.

ومع أن الحراك السياسي خلال السنة قبل الأخيرة من حكم السوداني اتجه نحو الانتخابات، سواء كانت مبكرة أو في موعدها بنهاية العام المقبل - فضلاً عن الجدل حول القانون الانتخابي - فإن القاسم المشترك على صعيد هذا الحراك هو الصدر. وهذا مع أن الصدر، كما سبق، لم يعلن رسمياً اعتزامه المشاركة في الانتخابات، لا هو شخصياً ولا أي من القيادات الصدرية المعروفة.

«الإطار التنسيقي»أما «الإطاريون»، قبيل سلسلة الهزات التي لحقت بهم أخيراً، فكانوا يتسابقون على تقديم ما يبدو «رغبات قوية» في التحالف مع الصدر، وعلى رأسهم «دولة القانون» بزعامة المالكي... الذي يرى أن الخطر الأكبر عليه في الانتخابات المقبلة يأتي من السوداني لا من الشركاء الآخرين في «البيت الشيعي».

وللتذكير، السوداني كان محسوباً على «دولة القانون» و«حزب الدعوة» قبيل انشقاقه عن المالكي، إلا أنه تحوّل الآن إلى رقم صعب بعد النجاحات التي حققها كرئيس للحكومة؛ ولذا تحاول القوى الشيعية المنافسة الحد من قوته بعد ظهور «شبكة جوحي». من جهة أخرى، في حال نسج تحالف بين السوداني والصدر، فإن هذا يعني بروز ائتلاف كبير ولو كان تحت اسم «شيعي»، قد يكرّر تجربة «التحالف الثلاثي» بين الصدر والبارزاني والحلبوسي... الذي فشل بسبب «الثلث المعطّل».

مع هذا، المتغير الأهم على صعيد هذه المسألة أن خطورتها لم تعُد تقتصر على المالكي وائتلافه، بل تشمل كل قوى «الإطار التنسيقي». وبالفعل، اندفعت قيادات «الإطار» إلى البحث عن نقاط خلل في أداء السوداني وتطلعاته، بدءاً بقضية انسحاب القوات الأميركية من العراق، ومروراً بسلسلة من القضايا الأخرى، ووصولاً إلى «سرقة القرن» وهروب نور زهير (المتهم الرئيسي فيها) وتأجيل محاكمته، الأمر الذي عدّته بعض قوى «الإطار» خللاً تتحمل مسؤوليته الحكومة. وهكذا، جاءت قصة التسريبات في مكتب رئيس الحكومة «هدية من السماء» لبعض القيادات الشيعية في «حربها» على السوداني.

هدية خامنئي... وصواريخ بزشكيان

* تتواصل داخل «البيت الشيعي» العراقي مساعي احتواء أزمة التسجيلات التي يمكن أن تضعف القوى الشيعية، بل وتهدد مكانتها في قيادة البلاد. وبالتوازي، عقدت قوى «انتفاضة تشرين عام 2018»، اجتماعاً لها أخيراً بمناسبة قرب ذكرى الانتفاضة، لبحث مسار عملها المستقبلي. وبينما كانت أنظار الجميع تتجه نحو زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى العراق، كأول محطة له بعد تسلمه منصبه، بُذلت وتُبذل محاولات لاحتواء قضية التسريبات أو هروب المتهم الرئيسي بما سُمّي «سرقة القرن»، والاتهامات التي وجّهها رئيس «هيئة النزاهة» حيدر حنون إلى القضاء بتعطيل مسار عمل الهيئة اتخذت سياقات مختلفة. وفي حين سعت قيادات شيعية إلى احتواء الأزمة تماماً والخروج منها بأقل الخسائر، مع الاستمرار في دعم الحكومة ورئيسها محمد شياع السوداني، فإن أطرافاً شيعية أخرى داخل «البيت الشيعي» إما تميل إلى تقليص صلاحيات رئيس الحكومة ورفض منحه ولاية ثانية، أو ترفض أي طروحات لا تذهب باتجاه إقالة السوداني. مع أن شيئاً من ذلك لم يظهر إلى العلن، فهذا ما يدور في الغرف السرية للقيادات الشيعية. وإذا كان بعض هذه القوى ينتظر قرارات القضاء كي يحدد موقفه النهائي، فإن المسار العام للأحداث، طبقاً لكل المؤشرات، يتجه نحو التهدئة، لا سيما عقب الزيارة التي قام بها إلى العراق الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان. زيارة بزشكيان يراها خصوم السوداني الشيعة أنها تصب في مصلحته، غير أن هذه القيادات أياً كانت مكانتها في العراق لا تستطيع في النهاية التأثير في القرار الإيراني. ومن جانب آخر، لم تخلُ زيارة بزشكيان من مفارقات، منها ما لها دلالات رمزية مهمة والأخرى خطيرة. فمن ناحية، ما إن هبطت طائرة بزشكيان واكتملت مراسم الاستقبال الرسمية، حتى تلقى رئيس الوزراء العراقي هدية نادرة من المرشد الإيراني علي خامنئي حملها إليه الرئيس الإيراني. والهدية هي عبارة عن لوحة مكتوبة باللغة العربية من خامنئي شخصياً يشيد فيها بالجهود التي بذلتها الحكومة العراقية في تأمين زيارة محرم الأخيرة، لا سيما المعاملة الحسنة للزوّار الإيرانيين، وهو ما اعتبره مراقبون بمثابة رضًى إيراني كامل ومن أعلى سلطة (أي سلطة المرشد) عن السوداني. مقابل ذلك، قبيل هبوط طائرة الرئيس الإيراني في مطار بغداد بساعات معدودة، استُهدف موقع دعم لوجستي تابع للسفارة الأميركية في بغداد ضمن المطار نفسه. وأدى ذلك إلى إرباك قوي، وإثارة عشرات التساؤلات حول مَن هو المستفيد من إفشال الزيارة ما دام الرئيس الإيراني قريباً من الفصائل المسلحة. وفي هذا السياق، رأت «كتائب حزب الله» - إحدى أبرز هذه الفصائل - على لسان الناطق باسمها أن الضربة الصاروخية على المطار عشية زيارة بزشكيان تهدف إلى التأثير سلباً على الزيارة، داعية بغداد إلى التحقيق فيما حدث.