سانتياغو آباسكال... وجه إسبانيا ضمن كوكبة غلاة التطرف اليميني الأوروبي الصاعد

زعيم حزب «فوكس»... مستضيف «منتداهم» التحضيري للمستقبل

برنامج آباسكال السياسي لا يختلف كثيراً عن برنامج دونالد ترمب أو مارين لوبان: «إسبانيا للإسبان» و«المهاجرون أساس كل المشاكل»!
برنامج آباسكال السياسي لا يختلف كثيراً عن برنامج دونالد ترمب أو مارين لوبان: «إسبانيا للإسبان» و«المهاجرون أساس كل المشاكل»!
TT

سانتياغو آباسكال... وجه إسبانيا ضمن كوكبة غلاة التطرف اليميني الأوروبي الصاعد

برنامج آباسكال السياسي لا يختلف كثيراً عن برنامج دونالد ترمب أو مارين لوبان: «إسبانيا للإسبان» و«المهاجرون أساس كل المشاكل»!
برنامج آباسكال السياسي لا يختلف كثيراً عن برنامج دونالد ترمب أو مارين لوبان: «إسبانيا للإسبان» و«المهاجرون أساس كل المشاكل»!

في العام 2018 افتتح ستيف بانون، «منظّر» التيّار اليميني المتطرّف في الولايات المتحدة، مقرّ الجامعة الشعبوية المخصّصة لتأهيل القيادات والكوادر الأوروبية لهذا التيّار في دير قديم من مطالع القرن الثالث عشر على بعد ساعة من العاصمة الإيطالية روما. ومع أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب كان قد أبعد المنظّر المتطرف عن دائرة مساعديه الضيّقة بعدما كان المخطط الرئيسي لحملته الانتخابية وذراعه اليمنى في الأشهر الأولى من ولايته الرئاسية، قال بانون يومها إن الهدف من تلك الجامعة هو «تقديم الدعم والخبرة لاستراتيجية بعيدة المدى» ترمي إلى نشر «الترمبية» في أوروبا عبر حركة شعبوية دولية تنطلق من بروكسل، حيث مقرّ مؤسسة The Movement التي تدير أنشطتها وتنسّقها. يومذاك، كان بانون محاطاً بالرموز الصاعدة والواعدة لمجموعة من الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، يتقدّمها زعيم «الرابطة» الإيطالية ماتّيو سالفيني ومؤسسة حزب الفاشيين الجدد «إخوان إيطاليا» جيورجيا ميلوني وزعيم حزب «فوكس» Vox الإسباني سانتياغو آباسكال الذي كان قد انشقّ حديثاً عن الحزب الشعبي المحافظ. وحقاً، بعد سنوات على ذلك اللقاء، الذي رعاه التيّار المعارض للبابا فرنسيس داخل الفاتيكان، والتيّار الكاثوليكي اليميني في الكنيسة الأميركية، أصبحت ميلوني أول امرأة ترأس الحكومة الإيطالية في ائتلاف يضمّ سالفيني وحزبه. ودخل اليمين المتطرّف البرلمان الإسباني للمرة الأولى منذ وفاة الجنرال فرانشيسكو فرنكو ليغدو القوة السياسية الثالثة في إسبانيا بعد الانتخابات الاشتراعية الأخيرة... التي شهدت أيضاً اختراقه المعاقل القومية في كاتالونيا (قطالونية) وبلاد الباسك المعروفة بكونها عصيّة على الأحزاب اليمينية.

في المهرجان السنوي الذي ينظمّه حزب «إخوان إيطاليا» (الفاشي الجديد) لحركته الشبابية في معقله الرئيس بالعاصمة الإيطالية روما، والذي احتفل مطلع هذا الربيع بتتويج ميلوني اول زعيمة لحزب يميني متطرّف يرأس حكومة دولة كبرى في الاتحاد الأوروبي، كان سانتياغو آباسكال «ضيف الشرف» إلى جانب رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك والملياردير الأميركي إيلون ماسك، نصير الشعبوية اليمينية في العالم وصاحب منصة «إكس».

في نهاية ذلك المهرجان ألقى آباسكال الكلمة الختامية، بعدما قدّمه ماسك الذي استحضر تصريحات سابقة لبانون قال فيها إن زعيم «فوكس» سيكون، إلى جانب ميلوني وسالفيني «رأس حربة استعادة أوروبا هويتها القومية وحرّية قرارها السياسي».

بالمناسبة، لم تكن مشاركة آباسكال في ذلك المهرجان موضع ترحيب إجماعي بين مضيفيه الطليان بعد التصريحات التي كان أدلى بها قبل ذلك بأسابيع وتوقّع فيها أن يوماً سيأتي يعلّق فيه الإسبان رئيس حكومتهم الاشتراكي بيدرو سانتشيز من رجليه في الشوارع. لكن اعتراض البعض على مشاركته لم يأتِ من دعوته إلى العنف ضد رئيس منتخب ديمقراطياً، بل لأن تلك التصريحات - التي لا تخرج عن الأسلوب المألوف لدى آباسكال خاصة عندما يتوجّه إلى سانتشيز - أعادت إلى أذهان الفاشيين الطليان الجدد مقتل مؤسس الحركة الفاشية الإيطالية بنيتو موسوليني عام 1945 ثم عرضه على الجماهير معلّقاً من رجليه في أحد ميادين مدينة ميلانو.

آباسكال توعّد في ذلك المهرجان بأن أوروبا بعد الانتخابات المقبلة للبرلمان الأوروبي «لن تكون كما هي اليوم». وقال: «إن مسار استعادة السيادة أصبح موجاً هادراً لن يقوىَ أحد على الوقوف بوجهه». ثم دعا إلى رصّ الصفوف لتشكيل جبهة واحدة ضد الشيوعيين والاشتراكيين في أوروبا. وبالفعل، جاءت الانتخابات الإقليمية في كاتالونيا وبلاد الباسك لتؤكد توقعات رسوخ صعود «فوكس»، وتنذر بعاصفة يمينية متطرفة قد لا تقلب المعادلات السياسية القائمة حالياً في الاتحاد الأوروبي، لكنها قطعاً ستمهّد لمرحلة جديدة وتوازنات مختلفة لن تكون ركائز المشروع الأوروبي في منأى عن تداعياتها.

النشأة... والمشوار

أبصر آباسكال النور في بلاد الباسك عام 1967، وصادف مولده يوم الاحتفال بإعلان الجمهورية التي اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية للإطاحة بها. ولاحقاً - تخرّج في كلية العلوم الاجتماعية بجامعة بلباو. وهو أب لأربعة أولاد من زوجته الأولى، أما زوجته الثانية فهي ناشطة علـى وسائل التواصل؛ إذ يزيد عدد متابعيها على ربع مليون. عائلياً أيضاً، كان جدّه رئيس بلدية عن الحزب الشعبي اليميني، الذي صار والده أحد قادته في بلاد الباسك، وانضمّ هو إليه عند بلوغه الثامنة عشرة. وكغيره من أنصار هذا الحزب اليميني المحافظ في إقليم الباسك، عانى من الاضطهاد والتهديد على يد أنصار الأحزاب القومية الانفصالية المؤيدة لمنظمة «ايتا» التي كانت ترى في هذا الحزب امتداداً للنظام الفرنكي الذي قمع الحركة الانفصالية طيلة عقود بيد من حديد، ولاحق قياداتها وزجّ العديد منهم في السجون. وبعد خمس سنوات على انضمام آباسكال إلى الحزب الشعبي انتُخب عضواً في المجلس البلدي لمدينة آلافا، حيث اضطر إلى حمل السلاح دفاعاً عن نفسه من التهديدات التي كان يتعرّض لها، وما زال إلى اليوم يحمل مسدساً بعدما تخلّى عن حراسه المرافقين.

تلك المرحلة كان لها تأثير عميق في بلورة مسار الرجل السياسي؛ إذ كان يعتبر دائماً أن المحافظين يخشون كثيراً مواجهة التحدي الانفصالي؛ ما دفعه إلى الاستقالة من الحزب الشعبي احتجاجاً على ما وصفه بأنه «ميوعة» من الحكومة التي كان يرأسها ماريانو راخوي تجاه الأحزاب القومية في كاتالونيا وبلاد الباسك. ثم أن تلك السنوات أثّرت أيضاً في صياغة خطابه السياسي القاسي اللهجة حيال الأحزاب والقوى الانفصالية، وخاصة حيال رئيس الوزراء بيدرو سانتشيز الذي يتهمه بخيانة الدستور والتنازل عن المحرّمات الوطنية لهذه القوى من أجل الوصول إلى السلطة والبقاء فيها بأي ثمن.

تأسيس «فوكس»

عندما أسّس آباسكال حزبه عام 2014، كان يواظب على حضور مهرجانات زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف مارين لوبان، التي كان يعتبرها المرآة التي يجب أن تنعكس فيها السياسة الأوروبية الجديدة. يومها كانت شعبية «فوكس» لا تتعدّى 2 في المائة في أفضل التقديرات، إلا أن الحركة الانفصالية الكاتالونية التي اندلعت عام 2017 وفّرت له منصة الانطلاق السريع الذي كان قد بدأ مع ركوبه الموجة المعادية للهجرة. وجاءت الانتخابات الأوروبية لتعطيه منبراً على مستوى الاتحاد، ثم الانتخابات الإقليمية في إقليم الأندلس - معقل الاشتراكيين وخزانهم الانتخابي بامتياز - التي أدخلته الحكومة المحلية بالتحالف مع الحزب الشعبي الذي ينافسه على القاعدة الشعبية اليمينية ذاتها.

برنامج آباسكال السياسي لا يختلف كثيراً عن برنامج دونالد ترمب أو مارين لوبان: «إسبانيا للإسبان»، و«المهاجرون أساس كل المشاكل»، خاصة إذا كانوا من البلدان المسلمة. لكن خطابه فج ومباشر أكثر، ويلامس التحريض على العنف في معظم الأحيان. وليس من باب المصادفة أن الأمين العام للحزب عضو سابق في «القوات الإسبانية الخاصة» المعروفة بولائها التاريخي للجنرال فرنكو، وأن رئيسة الحزب في مدريد من أتباع تيّار كاثوليكي متشدد يدعو إلى النقاء الديني للمجتمع الإسباني، وشعاره الصليب لردع «الاجتياح» المسلم، تماهياً وتيّار أوربان في المجر أو دودا في بولندا، وشعاره المعلن «الله - الوطن - العائلة».

يردّد آباسكال في خطبه الجماهيرية شعارات موروثة من النظام الفرنكي مثل «إسبانيا واحدة، عظمى وحرة». ولا يتردد في الإعراب عن إعجابه الشديد بالرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرّف خافيير ميلي الذي دعاه كـ«ضيف شرف» في حفل تنصيبه، وكان نجم اللقاء الواسع للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا الذي استضافه «فوكس» نهاية الأسبوع الماضي في العاصمة الإسبانية.

آباسكال هو الشخصية المحوَرية في الحزب منذ تأسيسه رغم وجود تيارات معارضة حاولت إزاحته غير مرة. بيد أن النتائج التي حققها في الانتخابات الأخيرة، وصعوده بين نظرائه الأوروبيين من زعماء الأحزاب اليمينية المتطرفة، رسّخت زعامته التي أصبحت مطلقة في الفترة الأخيرة بعدما أعيد انتخابه رئيساً للحزب حتـي العام 2028.

يرفض زعيم «فوكس» وضع حزبه في خانة اليمين المتطرّف، فيقول: «رغم شيوع هذه التسمية، نحن لا نعتبر اليمين المتطرّف هويّتنا، بل إن ما نطرحه هو عين المنطق وضرورة حيوية لمجتمعاتنا». وهو يدعو الاتحاد الأوروبي إلى «تغيير» حدوده، وأن يكون أكثر احتراماً «لسيادة» الدول، ويجاهر بتفضيله العلاقات الثنائية على النظام المتعدّد الأطراف، ويسعى إلى تشكيل تحالف أوروبي يجمع كل القوى والأحزاب المناهضة للشيوعية والاشتراكية.

كذلك يتعهد الزعيم اليميني المتطرف في برنامجه السياسي خفض الصلاحيات الإقليمية، والاستعاضة عن أجهزة الشرطة الإقليمية بالحرس المدني الذي كان عماد نظام فرنكو - ومنه الضابط الذي قام بمحاولة الانقلاب الفاشلة على النظام الديمقراطي اليافع العام 1981 -، ويطالب بعقوبات قاسية ضد مرتكبي الجرائم الجنسية ضد الأطفال، وإلغاء قوانين المساواة بين الأجناس.

ولكن يظل في طليعة شعاراته الأساسية محاربة الهجرة من «بلاد المسلمين»، والاتجاه نحو البلدان الأميركية اللاتينية «لأنهم يتكلمون لغتنا ويشاطروننا النظرة ذاتها إلى العالم... ويتعايشون معنا بسهولة».


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».