كوريا الجنوبية: فوز المعارضة بالبرلمان يعزّز فرص لي عام 2027

خسارة الرئيس وحزبه السيطرة على «الجمعية الوطنية» قد لا تعني الكثير خارجياً

طابور الناخبين خلال الانتخابات الأخيرة (رويترز)
طابور الناخبين خلال الانتخابات الأخيرة (رويترز)
TT

كوريا الجنوبية: فوز المعارضة بالبرلمان يعزّز فرص لي عام 2027

طابور الناخبين خلال الانتخابات الأخيرة (رويترز)
طابور الناخبين خلال الانتخابات الأخيرة (رويترز)

عانى المشهد السياسي بكوريا الجنوبية حالة من الجمود السياسي، بعدما وجه الناخبون صفعة للرئيس يون سوك يول، مع تعرّض حزبه، حزب «سلطة الشعب»، المحافظ لهزيمة كارثية في الانتخابات البرلمانية، الأسبوع الماضي. إذ أحرز الحزب «الديمقراطي الليبرالي»، القوة المعارضة الرئيسية والقوى الأصغر المتحالفة معه، فوزاً ساحقاً بحصوله على 189 مقعداً في الجمعية الوطنية (البرلمان) المؤلفة من 300 مقعد، في حين حصل الحزب الحاكم بزعامة يون على 108 مقاعد فقط. وفق الأرقام المعلنة، أدلى حوالي 29.66 مليون شخص، أو 67 في المائة من الناخبين بأصواتهم، ما يمثل أعلى نسبة مشاركة في انتخابات الجمعية الوطنية منذ عام 1992. وما يستحق الذكر أنه منذ استعادة الديمقراطية في كوريا الجنوبية عام 1987، لم يحصل أي رئيس على نسبة رضا شعبي منخفضة عن أدائه على امتداد فترة طويلة مثلما حدث مع يون - التي تراوحت بين 35 في المائة و40 في المائة منذ مايو 2022 - بأول سنتين من رئاسته.

تجري إدارة الشأن السياسي في كوريا الجنوبية في إطار جمهورية ديمقراطية تمثيلية رئاسية، حيث يمثل الرئيس رأس الدولة، وتقوم الدولة على نظام متعدد الأحزاب. ولضمان الفصل بين السلطات، يتألف كيان الدولة من ثلاث سلطات: تشريعية وتنفيذية وقضائية. وتتولى الحكومة السلطة التنفيذية، بينما تتشارك الحكومة والجمعية الوطنية (البرلمان) في السلطة التشريعية. ومنذ عام 1948، خضع الدستور لخمس مراجعات أساسية، كل منها تدشن جمهورية جديدة. وبدأت «الجمهورية السادسة» الحالية مع آخر تعديل دستوري كبير دخل حيز التنفيذ عام 1988، وبموجب الدستور يتولى الرئيس منصبه لولاية واحدة فقط مدتها خمس سنوات. أما مدة ولاية البرلمان فتبلغ أربع سنوات.

اختبار حقيقي ليون

جاءت الانتخابات التي شهدت منافسة حامية الوطيس بمثابة اختبار حقيقي لشعبية يون (63 سنة)، مع بلوغه منتصف فترة ولايته الممتدة لخمس سنوات. وعدّ بعض المحللين الانتخابات الأخيرة بمثابة استفتاء على شعبيته التي تضررت في خضم أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة وسلسلة من الفضائح السياسية.

الواقع أنه منذ وصول يون إلى سدة الرئاسة بأغلبية ضئيلة بلغت 0.8 في المائة فقط عام 2022، جابه قيوداً من قبل الهيئة التشريعية التي يسيطر عليها «الحزب الديمقراطي». ولقد نال في المعركة الرئاسية يون خلال مارس (آذار) 2022 48.56 في المائة من الأصوات، مقابل 47.83 في المائة لمنافسه من «الحزب الديمقراطي».

ومن ناحية ثانية، لا يحق ليون التجديد، بل من المقرر أن يغادر منصبه عام 2027، بعدما تحوّل إلى «بطة عرجاء» على صعيد السياسة الداخلية طوال فترة رئاسته. ولكن مع ذلك، ظل محظوظاً لأن المعارضة لم تفز بغالبية ساحقة تبلغ مائتي مقعد، ما كان سيتيح لها تجاوز «حق النقض» الذي يتمتع به الرئيس، أو تعديل الدستور، أو حتى عزله.

في أي حال، فإن نتائج الانتخابات ستحافظ على الديناميكية الأساسية ذاتها التي كانت قائمة قبل الانتخابات. أي أن قوى المعارضة يمكن أن تواصل عرقلة برنامج سياسات يون، الذي أمضى سنتين من الفترة الرئاسية البالغة مدتها خمس سنوات. وما يذكر أنه عندما تولّى يون منصبه في مايو (أيار) 2022، ورث برلماناً منقسماً، بسبب حصول الحزب الديمقراطي المعارض على الغالبية وكانت النتيجة حالة من الجمود التشريعي. والآن بعد الهزيمة الأخير، يصبح يون أول رئيس كوري جنوبي يواجه برلماناً معادياً له طوال فترة ولايته التي تنتهي في مايو 2027.

سكاند تايال، سفير الهند السابق لدى كوريا الجنوبية، علّق على الوضع الراهن بقوله: «أساساً تفسّر هذه الانتخابات بوصفها استفتاء على الإدارة الحالية. وتبعاً لمدى نجاح أحزاب المعارضة في العمل معاً لإبقاء أجندة الرئيس يون تحت السيطرة، من المحتمل أن تتقيد قدرة الإدارة الحالية على المضي قدماً في أجندتها الإصلاحية. ولكن لا يعني هذا بالضرورة أن الرئيس غدا عاجزاً سياسياً خلال الفترة المتبقية من ولايته. بل لقد حقق بعض النجاح في إقرار تشريعات مهمة عبر الجمعية الوطنية خلال العام الماضي، عندما كان يحظى بعدد أقل بكثير من أصوات الحزب الحاكم داخل البرلمان. وأياً كان المسؤول، سيتعيّن على يون التوصل إلى طريقة للعمل مع المعارضة إذا كان يرغب في تمرير المزيد من عناصر أجندته السياسية. وبخلاف ذلك، قد لا يتمكن من تحقيق الكثير في السنوات الثلاث المقبلة».

هنا، يعتقد مراقبون أن بون قد يمضي قدماً في تنفيذ أجندته من جانب واحد، معتمداً على حق النقض والأوامر الرئاسية. وحقاً، سبق له استخدام حق النقض لرفض مشاريع القوانين التي لا تتفق مع إدارته وسياسة حزبه.

لقد استخدم الرئيس «حق النقض»، حتى الآن، ضد تسعة مشاريع قوانين ـ وهو الأكبر من أي رئيس منذ عزّزت كوريا الجنوبية ديمقراطيتها عام 1987، إذ أصدر أوامر تنفيذية، واستخدم «حق النقض» ضد مشاريع قوانين أقرها البرلمان بينها مشروع يدعو إلى إجراء تحقيق خاص في مزاعم الفساد المحيطة بزوجته كيم كيون هي (51 سنة).

لي جاي ميونغ... زعيم المعارضة المنتصر (آ ب)

أين أخطأ الرئيس؟

من ناحية ثانية، تراجعت معدلات الدعم الشعبي للرئيس والحزب الحاكم بشكل خاص، على مدار الأشهر التي سبقت الانتخابات، وسط ارتفاع أسعار المواد الغذائية وانكماش الاقتصاد واشتعال أزمة طبية على امتداد فترة طويلة. وللعلم، دخلت المستشفيات الكبرى في حالة طوارئ منذ أواخر فبراير(شباط) الماضي، وترك الأطباء الشباب وظائفهم بسبب خطة الحكومة لزيادة معدلات الالتحاق بكليات الطب.

كذلك، تعرّض يون لانتقادات بسبب فضائح تتعلق بعائلته، واتهمه منتقدوه بتقويض حرية التعبير. فقد جابه يون مأزقاً كبيراً بعدما تسببت فضيحة تتعلق بزوجته في حالة من الفوضى. وفي حينه واجهت كيون هي، سيدة كوريا الجنوبية الأولى، اتهامات بقبول هدية ثمينة جداً من القس الأميركي ـ الكوري، أبراهام تشوي، ما يشكل خرقاً لقانون مكافحة الرشوة... وتفجّرت القضية على منصة عامة، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عندما بثت قناة خاصة على «يوتيوب» مقطع فيديو سجّله القسّ سراً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن في كوريا الجنوبية قانوناً صارماً للغاية لمكافحة الرشوة. وهو لا يجيز قبول هدايا بقيمة 750 دولاراً أميركياً دفعة واحدة، أو 2200 دولار أميركي سنوياً.

وكما هو متوقع، سرعان ما احتلت هذه القصة عناوين الصحف الوطنية، وأضرت بشعبية الرئيس. ثم إنه بسبب رد فعل الضعيف من الرئيس تجاه فضائح زوجته، تراجعت شعبيته، وخاصة عندما سحق مشروع قانون يسعى إلى إجراء تحقيق خاص حول تورّط زوجته كيم في قضية أخرى تتعلق بتلاعب مزعوم في أسعار الأسهم.

نقاد سياسيون يرون أن الاستقطاب المتزايد بين الرجال والنساء داخل المجتمع الكوري كان بمثابة «خط صدع» في السياسة الكورية، وكان الرئيس يون يعد أن الحركة النسوية «تمادت كثيراً». وإبّان حملته الرئاسية، قدّم اقتراحاً مثيراً للجدل لإلغاء «وزارة المساواة بين النوعين وشؤون الأسرة»، بحجة أن «التمييز البنيوي ضد المرأة ما عاد موجوداً».

وحسب الدكتور لاخفيندر سينغ، مدير دراسات السلام والأمن في معهد آسيا بالعاصمة الكورية سيول، فإن موقف يون تجاه القضايا الجنسانية أفقده تأييد النساء، مع أنه أكسبه في المقابل أصوات الشباب في الانتخابات الرئاسية. هذا، وحذر الكثير من الناشطات الكوريات من أن الرئيس وحزبه يدمران سنوات من التقدم في مجال حقوق المرأة، وبدا أن الكوريات عبرن عن هذه المخاوف بتصويتهن الكثيف في الانتخابات بكثافة لصالح المعارضة وأحزاب أخرى. وعليه، ربما يجد يون صعوبة الآن في إلغاء «وزارة المساواة بين النوعين».

«تراجع الدعم الشعبي للرئيس وحزبه على مدار الأشهر التي سبقت الانتخابات»

«التقدمي» لي... زعيم المعارضة

في المقابل، بفضل تصدّر حزب المعارضة الأساسي في كوريا الجنوبية الانتخابات الأخيرة، صار زعيمه لي جاي ميونغ من أبرز المرشحين للرئاسة عام 2027. ويُعد هذا تحوّلاً مهماً لسياسي خسر السباق الرئاسي في الانتخابات الرئاسية لعام 2022 أمام منافسه اللدود بالفارق الأقل في تاريخ البلاد، مع أنه آنذاك كان متهماً بمجموعة متنوعة من تهم الرشوة والإخلال بالواجب.

لي، الذي كان عاملاً في مصنع، قبل أن يصبح محامياً في مجال الحقوق المدنية، دخل المعترك السياسي منذ أكثر من 15 سنة بوصفه ناشطاً في المعسكر التقدمي. وتولّى لي منصب حاكم مقاطعة غيونغي، القريبة من سيول، عام 2018. ومن ثم سعى أن تغدو كوريا أول دولة في آسيا تنضم إلى المعسكر التقدمي العالمي، وضغط من أجل إقرار الدخل الأساسي الشامل. ولكن في الوقت ذاته، يعدُّ لي من أكثر الشخصيات السياسية استقطاباً في البلاد، ذلك أنه يتمتع بقاعدة متحمّسة من المؤيدين اليساريين... وتعاديه كتلة كبيرة من المعارضين في المعسكر المحافظ.

الرئيس يون سوك يول يدلي بصوته (رويترز)

عودة إلى الأضواء

رغم علامات الاستفهامومثل غريمه الرئيس بون، خيّمت على حياة لي سحابة فضائح على المستوى الشخصي، وخضع لتحقيق في مضاربات على أراض في مدينة سيونغنام، التي كان عمدة لها. فقد وجهت إليه النيابة في مارس 2023 اتهامات بالفساد زعمت فيها تلقيه رشى تتعلق بخطة تطوير عقاري تقدر قيمتها 1.5 مليار دولار عندما كان عمدة سيونغنام. غير أن لي نفى ارتكاب أي مخالفات، ووصف الإجراءات القانونية ضده بأنها ذات دوافع سياسية. كذلك تعافى لي، الذي تعرّض للطعن في رقبته خلال يناير (كانون الثاني) على يد رجل تظاهر بأنه من مؤيديه، من خسارته في انتخابات 2022 الرئاسية ليقود «الحزب الديمقراطي»، متعهداً «بمعاقبة» يون عبر صناديق الاقتراع.

ولسنوات، سعى لي إلى تأكيد التناقض الصارخ بين قصة حياته وقصة يون... ابن الأسرة الثرية. وأثناء ترشحه للرئاسة، نشرت حملته صورتين: إحداهما تظهر الشاب لي وهو يرتدي بدلة غير مناسبة، والثانية يظهر فيها المراهق يون بربطة عنق أنيقة.

أمر آخر لافت، هو أن لي كان قد واجه دعوات داخل حزبه تطالبه بالتنحي، لكنه بعد إنجازه الانتخابي يتوقع أن يتمكن من إسكات المعارضين داخل حزبه. ذلك أنه نجح في جعل «الحزب الديمقراطي» حصناً له، وعزز قبضته على السلطة داخل الحزب، كما احتضن المعتدلين. وحول هذا الجانب كتب شين يول، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ميونغجي الكورية، معلقاً على ذلك بقوله: «بهذه النتيجة، أصبح لي أقوى سياسي في البرلمان». إلا أن لي، مع ذلك، ما زال يواجه عقبات وتحديات، على رأسها المحاكمات المستمرة التي يخضع لها، بناءً على اتهامات متعددة - يصر على براءته منها - وُجهت إليه على مدى السنوات الكثيرة الماضية.

عودة إلى الرئيس يون، فإنه أعلن في خطاب تلفزيوني، بعد إقراره بهزيمته: «سأحترم بكل تواضع إرادة الشعب التي جرى التعبير عنها في الانتخابات العامة، وسأعمل على إصلاح شؤون الدولة، وأبذل قصارى جهدي لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد ومعيشة الناس». أما رئيس الوزراء هان داك سو ومجموعة من كبار المساعدين فقد عرضوا أن يتقدموا باستقالاتهم.

وفي اتجاه حلحلة المشاكل المطلبية والمعيشية، تعرّض يون لضغوط كي يتواصل مع زعيم المعارضة لي من أجل إجراء مباحثات غير مسبوقة لمناقشة أزمة إضراب الأطباء المستمر، وسبل تحسين سبل عيش الناس. كان يون قد رفض من قبل عقد أي لقاء مع لي، مبرراً ذلك بالتهم الجنائية الموجهة إلى الأخير، بما في ذلك الفساد المزعوم.


مقالات ذات صلة

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

حصاد الأسبوع تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات...

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع طابور اقتراع في كشمير (رويترز)

القضايا الرئيسية في انتخابات 2024 الكشميرية

برز إلغاء المادة 370 وتأسيس دولة مستقلة في جامو وكشمير قضيتَين رئيسيتين في هذه الانتخابات، بينما تشكّل البطالة مصدر قلق مزمن كبير. الصحافي زاهور مالك قال: «ثمة…

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)

انتخابات تونس: ماراثون سياسي... وتصعيد بين السلطات ومعارضيها

زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)
زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)
TT

انتخابات تونس: ماراثون سياسي... وتصعيد بين السلطات ومعارضيها

زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)
زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)

خلافاً للانتخابات الرئاسية التونسية السابقة، التي تنافس في دورتها الأولى قبل خمس سنوات 26 شخصية وأسفرت في دورتها الثانية عن فوز قيس سعيّد، لا تتضمن قائمة المرشحين الرسميين هذه المرة إلا ثلاثة أسماء، هم: الرئيس الحالي سعيّد والبرلمانيان السابقان زهير المغزاوي (الأمين العام لحزب الشعب) «العروبي الناصري» (59 سنة) ورجل الأعمال المهندس الليبرالي العياشي زمال (47 سنة). وعلى غرار ما سجل في انتخابات 2019، التي شارك رجل الأعمال نبيل القروي في دورها الأول وهو في السجن، يستمر إيقاف العياشي زمال المرشح «المعتمد رسمياً» الذي أصدرت محاكم عديدة ضده أحكاماً بالسجن بتهمة «تزييف تزكيات الناخبين».

في هذه الأثناء، أكّد القاضي فاروق بوعسكر، رئيس «الهيئة العليا للانتخابات» ومحمد التليلي المنصري الناطق الرسمي باسمها، أن اسم زمال سيظل مُدرجاً في قوائم المرشحين وسيعرض على الـ9 ملايين و700 ألف ناخب المرسّمين في القوائم الرسمية. وما يجدر ذكره هنا أن «الهيئة» كانت قد أسقطت رسمياً 3 مرشحين بارزين أعادتهم «الجلسة العامة للمحكمة الإدارية» للسباق، هم على التوالي: المنذر الزنادي، وزير التجارة والسياحة والنقل والصحة في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وعبد اللطيف المكي، وزير الصحة لفترتين في العشرية الماضية، وعماد الدايمي، الوزير والبرلماني السابق ما بين 2011 و2019.

معارك قانونية وسياسية

بعد اختلاط الأمور و«الأجندات»، تباينت التقييمات داخل النخب والأوساط الدبلوماسية والسياسية في تونس للعملية الانتخابية الحالية، التي أعلن رسمياً أنها انطلقت يوم 14 يوليو (تموز) الماضي.

فقد انتقد قياديون في «الاتحاد العام التونسي للشغل» بينهم أمينه العام نور الدين الطبوبي، وفي «منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان» بينهم رئيسها المحامي سامي الطريفي، «المناخ السياسي والإعلامي والحقوقي في البلاد»، واعتبروا أنه «غير ملائم لتنظيم انتخابات تعدّدية نزيهة وفق المقاييس الدولية»، خلافاً لمناخ انتخابات 2014 و2019. ولفت سامي الطاهري، الناطق الرسمي باسم «الاتحاد العام التونسي للشغل» - الذي يعدّ أكبر قوة نقابية وسياسية في تونس - خصوصاً إلى «الأجواء التي تجري فيها العملية الانتخابية»، وذلك إثر استبعاد عشرات من زعماء المعارضة والنشطاء المستقلين بسبب إيقافهم وفتح قضايا أمنية عدلية ضدهم بتهم خطيرة، بينها «التآمر على أمن الدولة» و«الفساد».

كذلك، لوّحت بلاغات رسمية باسم اتحاد النقابات بـ«سيناريو» تنظيم إضراب عام في البلاد للضغط على السلطات.

قضايا التآمر على أمن الدولة

في سياق متصل، كشف المحامي والأكاديمي اليساري والوزير السابق عبد الوهاب معطر في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، عن أن نحو 15 قضية «تآمر على أمن الدولة» فُتحت ضد شخصيات سياسية محسوبة على المعارضة، بعضها كان معنياً بالترشح للانتخابات.

في الوقت نفسه، قال المحامي عبد الرؤوف العيادي، زعيم حزب «وفاء»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن الإيقافات والتحقيقات شملت خلال الأشهر الماضية عشرات من أبرز السياسيين وحرمتهم من فرصة الترشح، وعدّد بين هؤلاء: القيادي في «جبهة الخلاص» المعارضة جوهر بن مبارك، والأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، والأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي الوزير غازي الشواشي، والمدير التنفيذي لحزب «أمل» ومدير مكتب رئاسة الجمهورية سابقاً الوزير رضا بالحاج، إلى جانب عدد من القياديين في أحزاب «حركة النهضة» (إسلامي محافظ) و«قلب تونس» (ليبرالي) وائتلاف «الكرامة» (محافظ) وحزب «حراك تونس – الإرادة» (الذي يتزعمه الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي) وحزب المؤتمر (الذي يتزعمه المحامي والوزير السابق سمير بن عمر).

أيضاً، انتقد حسام الحامي منسّق «ائتلاف صمود»، وهو تكتل للمعارضين اليساريين، رفض ترشّحات 14 شخصية سياسية وأكاديمية ممّن قدّموا رسمياً ملفاتهم للهيئة العليا للانتخابات، وجرى استبعادهم لأسباب «إجرائية» عدة، بينها عدم تقديم نسخة من بطاقة السوابق العدلية أو وثائق تثبت أنه وقع تزكيتهم من قبل 10 آلاف ناخب أو من قِبل 10 أعضاء في البرلمان.

وفي سياق متصل، كان بين المستبعدين لهذه الأسباب رئيس جمعية القضاة الشبان مراد المسعودي، والإعلامي والسياسي المخضرم الصافي سعيد والوزير السابق للتعليم المثير للجدل والناشط اليساري ناجي جلول.

أما المحامية عبير موسي، زعيمة الحزب الدستوري الحرّ، فقد استُبعدت بسبب تعرضها للإيقاف منذ سنة، إثر تحركات شاركت فيها رفقة عشرات من كوادر حزبها، واتهمت السلطات منظميها بـ«تهديد الأمن العام».

هذا، ولم تسفر المظاهرات التي نظمها أخيراً آلاف من أنصار هذا الحزب ومن ممثلي «الشبكة التونسية للحقوق والحرّيات» - التي تضم عشرات المنظمات والشخصية المستقلة والحزبية - عن الإفراج عن غالبية الموقوفين في قضايا ذات صبغة سياسية.

كذلك فشلت ضغوط المعارضة في تغيير شروط الترشح للانتخابات، بل العكس هو الذي حصل، على حد تعبير المحامية والناشطة السياسية اليسارية دلية مصدق بن مبارك والحقوقي شاكر الحوكي والأكاديمية والناشطة النسوية اليسارية سناء بن عاشور.

معارك قضائية وسياسية

من جهة ثانية، في سياق التسارع الكبير للأحداث، فجّر السباق نحو قصر الرئاسة هذا العام سلسلة معقّدة من المعارك القانونية والقضائية والسياسية داخل البلاد، وفي أوساط الجالية التونسية في الخارج، التي تقدر بنحو مليونين، أي خُمس المواطنين.

ومن أبرز أسباب هذه المعارك، أستاذ القانون العام والعلوم السياسية شاكر الحوكي، رفض «الهيئة العليا للانتخابات» تنفيذ قرار «نهائي وغير قابل للطعن» أصدرته الجلسة العامة للمحكمة الإدارية التي تضم 27 قاضياً من «أعلى رتبة» بينهم الرئيس الأول للمحكمة. ولقد نصّ هذا القرار على «قانونية ترشح الوزراء الثلاثة السابقين منذر الزنايدي وعبد اللطيف المكي وعماد الدايمي بعد قبول طعنهم في قرار إقصائهم» من قِبل ممثلي السلطة الانتخابية برئاسة القاضي فاروق بوعسكر.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الانخراط في هذه المعركة عبر الانحياز لموقف المحكمة الإدارية و«علوية قراراتها» شمل عشرات من أساتذة القانون والعلوم السياسية وعمداء الكليات وقادة «الاتحاد العام التونسي للشغل» وهيئات نقابات المحامين والقضاة والصحافيين ومنظمات حقوقية عديدة.

وفي الإطار عينه، رفع عدد من الحقوقيين بينهم القاضي السابق والمحامي أحمد صواب والإعلامي والناشط السياسي زياد الهاني قضايا عدلية أمام محكمة تونسية ضد «الهيئة العليا للانتخابات»، وشكّك صواب والهاني في استقلالية رئاسة «الهيئة» وحياديتها، طالباً من القضاء استصدار قرار ينص على «إلزامية تنفيذ قرار الجلسة العامة للمحكمة الإدارية وقضاتها الـ27» حيال الزنايدي والدايمي والمكي.

واعتبر صواب في تصريح لـ«لشرق الأوسط» أن «المحكمة الإدارية» أعلى سلطة في النزاعات الانتخابية في ظل غياب «المحكمة الدستورية»، وهي المكلفة البت في الخلافات بين المرشحين للانتخابات وسلطات الإشراف وبينها «الهيئة العليا للانتخابات». أما الهاني، فقال لـ«الشرق الأوسط» إن «الرئيس الأول للمحكمة الإدارية عبد السلام قريصيعة وأعضاء المحكمة الـ27 مطالبون قانوناً بضمان توسيع قائمة المرشحين، وإن لزم الأمر عبر مراجعة روزنامة الانتخابات، أي تأجيل موعد الاقتراع العام».

ناخبة تونسية داخل مركز اقتراع (آ ف ب)

اتهامات... ومحاكمات

في هذه الأثناء، شنّ برلمانيون مقرّبون من السلطات ومن فريق الحملة الانتخابية للرئيس قيس سعيّد حملة إعلامية ضد المعارضين الذين تحرّكوا في الكواليس ونظموا مظاهرات في الشوارع للمطالبة بتوسيع قائمة المرشحين في الانتخابات لتشمل «وزراء وشخصيات من المتهمين بالتآمر على أمن الدولة».

واتّهم هؤلاء، وبينهم البرلمانية سيرين مرابط والناشط السياسي اليساري السابق رياض جراد، بعض معارضي الرئيس سعيّد بالخيانة الوطنية و«محاولة توظيف أجواء العملية الانتخابية الحالية لتمرير مخطّطات وصاية أجنبية على البلاد، بالتعاون مع عدد من نشطاء الجمعيات والأحزاب التي تحصل على تمويلات أجنبية قدّرت قيمتها بمئات مليارات من المليمات».

كذلك، قدّم 34 نائباً من أعضاء مجلس النواب مشروع تعديل «استعجالي» للقانون الانتخابي الصادر عام 2014؛ بهدف إحالة مهمة البت في «النزاعات الانتخابية» إلى المحاكم العدلية العادية لا المحكمة الإدارية، التي لا تخضع إدارياً إلى سلطة وزارة العدل ورئاسة النيابة العمومية وتتمتع باستقلالية نسبية.

من جانبه، نشر الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية تصريحات عديدة للرئيس سعيّد شكّك فيها في «وطنية» عدد من المعارضين، واتهمهم «بالحصول على تمويلات أجنبية ضخمة وبالانخراط ضمن» مؤامرة «تستهدف أمن البلاد واستقرارها».

وشكك البلاغ الانتخابي لسعيّد في صدقية منظمي التحركات الاحتجاجية على المسار الانتخابي والسياسي الحالي في الشارع وفي وسائل الإعلام المحلية والأجنبية. واتهم البلاغ هؤلاء المعارضين وبعض المرشحين «الافتراضيين» للرئاسة بـ«التبعية للخارج» وأنصارهم بكونهم «تحالف الأضداد». وأورد سعيّد على هامش اجتماعات عقدها مع وزيري الداخلية خالد النوري والعدل ليلى جفّال أن السلطات سمحت للمعارضين بتنظيم مسيرات رفعوا خلالها شعاراتهم بكل حرية «حمتها قوات الأمن»، على الرغم من كونها جمعت «خصوم الأمس» و«الأفرقاء».

فوز متوقع في انتخابات الغد للرئيس قيس سعيّد (أ ف ب/غيتي)

بدء العد التنازلي؟

وإذ ترجّح موازين القوى السياسية الحالية في تونس فوز الرئيس سعيّد بعهدة ثانية تمتد إلى 2029، تشهد كواليس السياسيين صراعاً بين تيارين كبيرين:

الأول يدعو إلى المقاطعة، وهو يضم القيادي المعارض أحمد نجيب الشابي وساسة بارزين حثّوا على مقاطعة الانتخابات، والتأهب لمعارك سياسية وإعلامية جديدة توقعوا أن تكون لصالح المعارضين، وتبدأ بعد «محطة» 6 أكتوبر التي يتوقعون أن تكون نسبة المشاركة فيها ضعيفة جداً على غرار انتخابات العامين الماضيين.

أما الآخر فيدعو إلى المشاركة بكثافة، وبين شخصياته ساسة وحقوقيون قريبون من جبهة الخلاص المعارضة، كالمحامية اليسارية دليلة مصدق بن مبارك، والحقوقية شيماء عيسى والزعيم اليساري السابق الوزير محمد عبو.