لويس مونتينيغرو يرأس في البرتغال «حكومة أقلية» لإصراره على إبعاد اليمين المتطرف عن السلطة

رئيس «الفرصة المفاجئة» لمرحلة «انعدام الاستقرار»

لويس مونتينيغرو يرأس في البرتغال «حكومة أقلية» لإصراره على إبعاد اليمين المتطرف عن السلطة
TT

لويس مونتينيغرو يرأس في البرتغال «حكومة أقلية» لإصراره على إبعاد اليمين المتطرف عن السلطة

لويس مونتينيغرو يرأس في البرتغال «حكومة أقلية» لإصراره على إبعاد اليمين المتطرف عن السلطة

بعد 10 سنوات من الحكومات الاشتراكية المتعاقبة على البرتغال، التي كانت تعرف خلالها بـ«الحصن اليساري المنيع» في أوروبا، استعاد اليمين المحافظ السلطة في الانتخابات التشريعية التي أجريت أواسط الشهر الماضي بقيادة زعيم «التحالف الديمقراطي» لويس مونتينيغرو، وهو الذي لم يكن يراهن أحد منذ أشهر قليلة على قدرته وحظوظه بالفوز واستعادة السلطة بعدما خسرها حزبه في عام 2015. لقد جاء فوز «التحالف الديمقراطي» على الحزب الاشتراكي بفارق مقعدين فحسب في مجلس النواب، الأمر الذي يجعل حصوله على الغالبية البرلمانية اللازمة لتشكيل حكومة قادرة على الحكم مرهوناً بدعم الحزب اليميني المتطرف «شيغا» الذي حلّ ثالثاً... وكان المفاجأة الكبرى والفائز الحقيقي في هذه الانتخابات. غير أن مونتينيغرو، الذي كان قد تعهّد إبان الحملة الانتخابية بأنه في حال فوزه «لن يكون في حكومته أي مكان للسياسيين العنصريين أو للسياسات العنصرية»، بقي على وعده وقرّر تشكيل حكومة تدعمها أقلية في البرلمان، مراهناً بذلك على «تفاهم» مع الحزب الاشتراكي للتناوب على رئاسة مجلس النواب وتبنّي عدد من بنود برنامجه الانتخابي، مقابل الامتناع عن دعم أي طرح لسحب الثقة من الحكومة حتى نهاية الولاية التشريعية.

في شهر مايو (أيار) 2022، فاز لويس مونتينيغرو برئاسة الحزب الديمقراطي الاجتماعي البرتغالي المحافظ بنسبة زادت على 75 في المائة من الأصوات، ولكن في انتخابات غاب عنها المنافسون من الشخصيات البارزة في الحزب... الذي كان دخل مرحلة أفول طويلة بعد انتقاله إلى المعارضة.

والحقيقة أن جميع الاستطلاعات التي أجريت منذ انتخاب مونتينيغرو زعيماً للحزب - الذي كان له الدور الأساسي في المشهد السياسي البرتغالي منذ سقوط الديكتاتورية - لم تكن تسجّل له أي صعود في شعبيته أو أي حظوظ في قيادة حزبه إلى الفوز مجدداً بالانتخابات التشريعية التي كانت تبدو بعيدة نظراً للغالبية المطلقة التي كان يتمتع بها الزعيم الاشتراكي ورئيس الحكومة السابق أنطونيو كوستا في البرلمان. وإلى جانب ذلك، كان ثمّة إجماع بين المعلّقين السياسيين على أن الرجل ليس الشخص المناسب لقيادة الحزب نحو استعادة موقعه، بينما كانت تروج الإشاعات داخل حزبه حول إبدال زعامة جديدة به حال فشله في تحقيق نتائج مُرضية في الانتخابات الأوروبية المقررة مطالع يونيو (حزيران).

وبالفعل، أسماء بديلة كثيرة كانت متداولة في أوساط الحزب الذي شهد أكثر من محاولة للانشقاق أو التمرد، كان مونتينيغرو يجهد على الدوام لإخمادها معتمداً استراتيجية الحذر على الجبهة الداخلية. ولقد نجح أخيراً في التوفيق بين التيارات المتناحرة، كما تبيّن خلال الحملة الانتخابية من مشاركة رؤساء الحكومات السابقين في المهرجانات التي دعا إليها مونتينيغرو... عندما سارع فور إعلان فوزه في الانتخابات إلى استحضار هذه «الروح التوافقية» لمواجهة التحدي الكبير الذي ينتظره.

كيف لا... وليس بمقدوره إلا تشكيل «حكومة أقلية» لا تضمن تلقائياً غالبية أصوات البرلمان، لا سيما، بعدما أصرّ على الإيفاء بتعهده وإبقاء الباب موصداً أمام اليمين المتطرف، مؤكداً: «بالطبع سأبقى على وعدي من أجل حزبي وبلدي والديمقراطية».

الفرصة المفاجئة

عندما أعلن رئيس الوزراء السابق الاشتراكي أنطونيو كوستا استقالته في الخريف الماضي، إثر فضيحة الفساد التي طالت بعض معاونيه، علماً بأنه لم يكن ضالعاً فيها، وكان يتمتع بغالبية برلمانية كبيرة، لم يكن وارداً في حسابات زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي أن تجد البرتغال نفسها مقدمة على انتخابات تشريعية لم يكن جاهزاً لها.

إلا أن ما أعطاه دفعاً معنوياً كبيراً في عزّ حملة الانتخابات التشريعية، كانت الانتخابات المسبقة التي أجريت خلال فبراير (شباط) الماضي في أرخبيل الآزور (في المحيط الأطلسي) الذاتي الحكم. إذ سقطت الحكومة المحلية التي كان يرأسها حزب «شيغا» اليميني المتطرف، وفاز بالانتخابات «التحالف الديمقراطي» الذي كان مونتينيغرو قد نجح في نسجه لخوض الانتخابات التشريعية.

وإلى جانب ذلك، كان مونتينيغرو قد بدأ بعد أشهر من فوزه بزعامة الحزب الديمقراطي الاجتماعي حملة وطنية واسعة لتلميع صورته وترويج أفكاره ضمن برنامج استمر سنتين، أمضى خلالهما أسبوعاً كاملاً في كل مقاطعة من مقاطعات البلاد، وكان يلتقي خلالها بالمواطنين ويستمع إلى همومهم ويتحاور معهم. وطوال هذه الفترة، كان يشدد في لقاءاته على أمرين أساسيين: رفضه تشكيل حكومة ما لم يكن حزبه الأول في الانتخابات، ورفض السماح لليمين المتطرف بدخول الحكومة.

ومن ثم، عندما انطلقت الحملة الانتخابية كانت الاستطلاعات تشير إلى تعادل بين الحزب الاشتراكي و«التحالف الديمقراطي»، وفي نهايتها كانت كفّة الاشتراكيين راجحة بعد المناظرة التلفزيونية بين مونتينيغرو والمرشح الاشتراكي بيدرو سانتوس التي عدّت وسائل الإعلام أن هذا الأخير كان الفائز فيها.

والواقع أن معظم الانتقادات التي كان يتعرّض لها مونتينيغرو منذ توليه زعامة «التحالف الديمقراطي»، كانت تركّز على قلة خبرته في السياسة والحكم، وتقلّبه في المواقف التي يتخذها من قضايا استراتيجية بالنسبة للبلاد، وتراجعه عن بعض القرارات التي كان حزبه قد توافق عليها مع الاشتراكيين.

من هو مونتينيغرو؟

منذ شبابه الأول، كان لويس مونتينيغرو يرافق والديه إلى مهرجانات الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي كان لسنوات يحتل صدارة المشهد السياسي البرتغالي بعد سقوط الديكتاتورية اليمينية. ثم انتسب إلى تنظيم شبيبة الحزب عشية دخوله كلية الحقوق في جامعة أوبورتو، قبل أن يصبح عضو مجلس بلدية مسقط رأسه، مدينة إسبينيو الصغيرة، بعد تخرجه بأشهر... وهو ما زال في الثالثة والعشرين من عمره.

وخلال تلك الفترة، بنى له منزلاً من 6 طوابق أثيرت حوله تساؤلات كثيرة، كما أثير جدل أيضاً حول العقود التي أبرمها مكتبه مع المجالس البلدية التي كان يحكمها الحزب الديمقراطي الاجتماعي، عندما كان هو رئيساً لكتلته البرلمانية خلال الفترة من عام 2011 حتى عام 2017. في هذه الفترة، شهدت البرتغال سلسلة طويلة من الاحتجاجات الاجتماعية الصاخبة ضد السياسة التقشفية التي فرضتها الحكومة التي كان يرأسها زعيم حزبه، باسوس كويلو، امتثالاً لشروط المؤسسات المالية الدولية... مقابل منح البرتغال مساعدة مقدارها 80 مليار دولار لمنع انهيار النظام المصرفي والنهوض من الأزمة. ويومذاك قال مونتينيغرو جملته الشهيرة: «حياة الناس ليست أفضل... لكن البلاد أفضل بكثير!»، التي استحضرها خصومه خلال الحملة الانتخابية للتحذير من القرارات التي قد يتخذها في حال وصوله إلى رئاسة الحكومة.تشكيله الحكومة الحالية

وبعد 5 أيام من تكليف مونتينيغرو، عاد الرئيس المكلّف إلى القصر الجمهوري ليسلّم الرئيس مارسيلو دي سوسا قائمة بأعضاء حكومته المؤلفة من 17 عضواً، منهم 7 نساء. وتضم تشكيلة الحكومة الجديدة عدداً من الأسماء البارزة في حزبه، على رأسها باولو رانجيل نائب رئيس الحزب الذي سيتولّى حقيبة «الخارجية»، وخواكيم ميراندا الناطق بلسان كتلة الحزب البرلمانية الذي سيتولى حقيبة «المال»، وميغيل بينتو النجم الصاعد في الحزب الذي سيتولى حقيبة «البُنى التحتية والإسكان» ويشرف على عدد من القرارات الأساسية في برنامج الحكومة، مثل خصخصة شركة الخطوط الجوية الوطنية، وتحديد موقع مطار العاصمة الجديد الموضوع منذ عقود على لائحة الانتظار، وكذلك إعادة هيكلة شبكة الخطوط الحديدية.

إلا أن السهولة الظاهرة التي رافقت تشكيل الحكومة بهذه السرعة لا تخفي الصعوبة التي تنتظر رئيسها في ظل استناده إلى أقلية في البرلمان، مع العلم أن أندريه فنتورا، زعيم حزب «شيغا» اليميني المتطرف، تعهّد بإسقاط الحكومة في أول فرصة تتاح له، لا سيما بعدما أوصد رئيس الوزراء الجديد بابها في وجهه، وبعد الاتفاق الذي توصل إليه الحزب الاشتراكي والحزب الديمقراطي الاجتماعي للتناوب على رئاسة مجلس النواب وتهميش «شيغا».

ومن المتوقع هذا؛ أن يزداد منسوب الخصومة بين مونتينيغرو والزعيم المتطرف فنتورا، الذي نال أكثر من مليون صوت. ويذكر أن فنتورا عازم على انتزاع تمثيل مقاطعة جزيرة ماديرا من الحزب الديمقراطي الاجتماعي في الانتخابات المُسبقة، المقرر أن تُجرى في أواخر الشهر المقبل. وكان رئيس الجمهورية قد قرّر حل البرلمان المحلي للمقاطعة، إثر الأزمة السياسية التي نشأت عن ضلوع رئيس الحكومة المحلية في فضيحة فساد، إلى جانب عدد من المسؤولين التابعين للحزب الذي يتزعمه مونتينيغرو.

وللعلم، من أبرز ملامح النزاع المتصاعد بين فنتورا ورئيس الوزراء الجديد أن الأول طالب بعد صدور نتائج الانتخابات بالدخول في حكومة مونتينيغرو، لكن هذا الأخير لم يصرّ فقط على موقفه الرافض، بل اختار التفاوض مع الاشتراكيين على بعض التعديلات في الموازنة العامة الخاصة بتحسين أجور المعلمين وأفراد الأجهزة الأمنية والقطاع الصحي الذين يطالبون منذ أشهر برفع رواتبهم بعد الفائض في موازنة العام الماضي الذي بلغ 1.2 في المائة من إجمالي الناتج القومي.

مع هذا، أعلن الزعيم الاشتراكي الجديد بيدرو سانتوس، أنه لن يترك لحزب «شيغا» التفرّد وحده بالمعارضة، إذ سيصوّت ضد مشروع موازنة العام المقبل، الأمر الذي سيضع حكومة «التحالف الديمقراطي» أمام أول اختبار عسير في البرلمان حول ديمومتها. ولذا، دعا مونتينيغرو في تصريحاته الأولى، بعد تسلمه مهامه رئيساً للحكومة الجديدة، «جميع الأطياف السياسية إلى تعزيز الحوار». وأعرب عن إدراكه صعوبة مهمته؛ إذ لا يضمن سوى 80 صوتاً من أصل 230 في البرلمان. لكنه شدد على أن حكومته عازمة على إنهاء الولاية التشريعية، بقوله: «في هذه المرحلة التي تعجز الدولة عن تلبية الخدمات الأساسية للمواطنين في قطاعات الصحة والتعليم والإسكان، ليس مسموحاً أن تتحول السياسة إلى عقبة... بدلاً من أن تكون هي الحل لكل هذه المشاكل». ومن ثم، طالب المعارضة بأن تتحلّى بالتواضع والروح الوطنية والقدرة على الحوار، وتوجّه إلى الحزب الاشتراكي قائلاً إن «عليه الاختيار بين المعارضة الديمقراطية أو التعطيل الديمقراطي»، في حين تجاهل كلياً منافسه اليميني المتطرف «شيغا».

مرحلة سمتها «انعدام الاستقرار»

من ناحية أخرى، يدرك لويس مونتينيغرو، رئيس الحكومة الجديد، أنه يدشّن مرحلة سمتها الرئيسية انعدام الاستقرار السياسي والصراع المستميت بين الأحزاب البرتغالية، لاستعادة مواقعها أو ترسيخ صعودها. ومن شأن هذا الواقع أن يفتح الباب واسعاً على كل الاحتمالات في برلمان اضطر للتصويت 4 مرات هذا الأسبوع، قبل أن ينتخب رئيساً جديداً له.

مونتينيغرو يفهم جيداً أنه في ظل المعادلة البرلمانية الراهنة سيضطر للجوء إلى المراسيم، وتحاشي المثول أمام مجلس النواب إلا في حالات الضرورة القصوى خشية المفاجآت التي قد تؤدي إلى سقوط حكومته. ولكن في المقابل، لعلّ مصدر الاطمئنان الوحيد بالنسبة له ولحظوظ حكومته بالاستمرار حتى نهاية الولاية التشريعية، هو الأسلوب السياسي الراسخ منذ سنين في البرتغال، يقوم على احترام المؤسسات والكياسة في العلاقات بين الأحزاب السياسية، خلافاً لما هو شائع في بلدان الجوار مثل إسبانيا وإيطاليا، أو حتى اليونان.

لقد أظهرت الأحزاب البرتغالية غير مرة خلال السنوات الماضية، التزامها هذا الأسلوب الراقي، الذي ربما يعود إلى النظام الجمهوري الراسخ منذ ما يزيد على مائة سنة من غير أن يشكّك أحد في صلاحه. ولا شك في أن الأجواء التي تمّت فيها عملية التسلم والتسليم بين الحزبين الاشتراكي والديمقراطي الاجتماعي... وما رافقها من تفاهمات وتصريحات هادئة، تشهد على هذه الروح التوافقية التي لا يشذّ عنها سوى حزب «شيغا» اليميني المتطرف.


مقالات ذات صلة

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

حصاد الأسبوع تجمع حزبي في إحدى المناطق رافض لإلغاء حكومة مودي المادة 370 (رويترز)

انتخابات تاريخية في جامو وكشمير أمام خلفية إلغاء حكومة مودي وضع «الولاية الاتحادية»

بعد عِقد من الزمن، توافد الناخبون بإقليم جامو وكشمير، ذي الغالبية المسلمة والخاضع للإدارة الهندية، بأعداد قياسية للتصويت للحكومة المحلية في إطار انتخابات...

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع طابور اقتراع في كشمير (رويترز)

القضايا الرئيسية في انتخابات 2024 الكشميرية

برز إلغاء المادة 370 وتأسيس دولة مستقلة في جامو وكشمير قضيتَين رئيسيتين في هذه الانتخابات، بينما تشكّل البطالة مصدر قلق مزمن كبير. الصحافي زاهور مالك قال: «ثمة…

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)

مسعود بزشكيان جرّاح القلب البراغماتي... يجد نفسه معالجاً لأزمات إيران المزمنة

بزشكيان
بزشكيان
TT

مسعود بزشكيان جرّاح القلب البراغماتي... يجد نفسه معالجاً لأزمات إيران المزمنة

بزشكيان
بزشكيان

لا يُعد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، الذي سيبلغ السبعين من العمر الأحد المقبل، من ساسة الرعيل الأول الذين شاركوا في ثورة الخميني عام 1979 أو قادة الأحزاب السياسية، بما في ذلك التيار الإصلاحي، الذي ينتمي إليه. ثم إنه ليس من المحسوبين على الجهازين الأمني والعسكري، رغم حضوره في المشهد السياسي الإيراني، وتدرجه البطيء في المناصب على مدى العقود الثلاثة الأخيرة. وكان بزشكيان، الذي أطل على العالم بالأمس من منبر «الأمم المتحدة»، قد فاز في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية المبكرة مدعوماً من الإصلاحيين، وفيها تغلب على المرشح المحافظ المتشدد سعيد جليلي، وحصل على أقل عدد من أصوات الناخبين بعد ثورة 1979، نظراً للمقاطعة التي وصلت إلى مستويات قياسية rnغير مسبوقة.

ولد مسعود بزشكيان في أكتوبر (تشرين الأول) 1954، لأب آذري تركي وأم كردية في مدينة مهاباد، بمحافظة أذربيجان الغربية، ثم انتقل إلى مدينة أورمية حيث أكمل دراسته الثانوية. والتحق بالتجنيد الإلزامي وأمضى سنتين في محافظة بلوشستان بجنوب شرقي البلاد، قبل أن ينتقل إلى طهران لدراسة الطب، وهناك توقفت دراسته في السنة الأولى بسبب أحداث الثورة التي أطاحت بنظام الشاه. وخلال سنتين من تعطل الجامعات الإيرانية بسبب ما يعرف بـ«الثورة الثقافية»، تزوّج بزشكيان ورزق بـ4 أبناء، لكنه فقد زوجته وأحد أبنائه في حادث سير مؤلم في 1993، ورفض الزواج ثانية.

الحرب العراقية الإيرانية

تزامنت عودة بزشكيان للدراسة في السنة الجامعية الثانية مع بداية الحرب الإيرانية - العراقية، وكذلك المعارك بين «الحرس الثوري» والأحزاب الكردية المعارضة. وانضم إلى الطاقم الطبي في جبهات الحرب، بمحافظة كردستان، قبل أن يتوجه جنوباً إلى مدينة عبادان التي شهدت معارك شرسة وأصبح مسؤولاً عن الفرق الطبية في جبهات الحرب. وبعد سنوات قليلة، عاد لإكمال دراسته في 1985.

ساهم سجلّ الرجل في جبهات الحرب بتسهيل مشواره العلمي، مستفيداً من الامتيازات الخاصة التي تمنحها السلطات للعسكريين في الحرب. وبالفعل، حصل عام 1990 على شهادة الاختصاص في الجراحة العامة، واستغرق الأمر 3 سنوات لحصوله على الاختصاص في جراحة القلب. ومن ثم، التحق بمستشفى أمراض القلب في مدينة تبريز، وأصبح رئيساً له، وصار أستاذاً جامعياً بقسم القلب والشرايين في جامعة تبريز للعلوم الطبية، لكنه لم يُقبل في المجمع الطبي الإيراني إلا عام 2010.

المسار السياسي

أداء بزشكيان المهني، وخصوصاً رئاسة جامعة العلوم الطبية في تبريز، أسهم بشقّ طريق جراح القلب الناجح، نحو المناصب السياسية، فصار نائباً لوزير الصحة في حكومة الإصلاحي محمد خاتمي الأولى. وبعد فوز خاتمي، بفترة رئاسية ثانية عام 2001، تولى منصب وزير الصحة وبقي في المنصب لنهاية فترة خاتمي عام 2005.

خاتمي وصف بزشكيان عندما قدّمه إلى البرلمان بأنه «قوي التصميم وعلمي وحازم» وأن «اختياره جاء بسبب التزامه وإيمانه وإدارته المقبولة خلال السنوات الماضية». ومنذ دخوله الوزارة كان من صفاته البارزة أنه «عفوي وصادق، ويتحلى بالتواضع وروح الخدمة»، لكن بعد سنتين كاد يفقد منصبه، إثر استجوابه في البرلمان بسبب زياراته الخارجية وقفزة أسعار الخدمات الطبية والأدوية، وهي من المشاكل التي رآها الإصلاحيون متجذرة في المؤسسة الطبية الإيرانية. كذلك، اهتزت صورته وزيراً بعض الشيء بعد قضية المصوّرة الصحافية الكندية - الإيرانية زهراء كاظمي، التي توفيت في ظروف غامضة داخل سجن إيفين عام 2003 بعد 17 يوماً من اعتقالها، وذلك بسبب تقرير قدّمه عن أسباب الوفاة.

تجربة برلمانية غنية

بزشكيان ترشّح للانتخابات البرلمانية عن مدينة تبريز (كبرى المدن الآذرية في إيران) بعد سنتين من انتهاء مهمته الوزارية، وفاز ليغدو نائباً في البرلمان الثامن. وأعيد انتخابه في البرلمانات التاسع والعاشر والحادي عشر. ثم ترشح للمرة الخامسة في الانتخابات البرلمانية، قبل أن يترشح للرئاسة في الانتخابات المبكرة إثر مقتل الرئيس المتشدّد إبراهيم رئيسي في حادث تحطم طائرة خلال مايو (أيار) الماضي.

هذا، ورغم اعتباره نائباً إصلاحياً عبر 5 دورات برلمانية، نأى بزشكيان بنفسه عن المواجهات الحادة بين الإصلاحيين والسلطة، وخصوصاً بعد الصدام الكبير في أعقاب إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد في 2009، ورفض المرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي الاعتراف بنتائج الانتخابات. وباستثناء حالات نادرة، فإن مواقفه لم تتعارض كثيراً مع النواب المعروفين بولائهم الشديد للمرشد الإيراني علي خامنئي، ومن ثم تحوّل تدريجياً إلى أحد النواب الأكثر نفوذاً في البرلمان.

الاتفاق النووي

تزامن إعادة انتخاب بزشكيان في البرلمان العاشر، مع حكومة حسن روحاني والتوصّل للاتفاق النووي. ويومذاك حصد الإصلاحيون غالبية المقاعد في العاصمة طهران وشكّلوا كتلة باسم «الأمل»، وحصل بزشكيان على الأصوات المطلوبة لتولي منصب نائب الرئيس الأول، لمدة 3 سنوات متتالية. وكان رئيس كتلة، نائبه الأول حالياً، محمد رضا عارف.

إجمالاً، دعم الرجل الاتفاق النووي قبل وبعد توقيعه في 2015، وأيضاً بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق، وعدّه السبيل الضروري لحل مشاكل إيران الاقتصادية والسياسية الناتجة عن العقوبات والعزلة الدولية، وآمن بأن الاتفاق «فرصة تاريخية» للعودة إلى الاقتصاد الدولي. كذلك أيّد بقوة قبول إيران قواعد «قوة مهمات العمل المالي» (فاتف)، المعنية بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.

وحينها، اقترح أن يقصر «الحرس الثوري» أنشطته المالية مع بنوك تابعة له للالتفاف على قوانين «فاتف»، منتقداً تدخل «الحرس» في بعض المجالات الاقتصادية. وفي المقابل، أشاد أكثر من مرة بدور الجهاز العسكري في الأمن الإيراني، ورأى أن البلاد لا يمكن أن تستمر من دون «الحرس الثوري»، ودعا إلى التركيز على هذا الدور، وارتدى الزي الرسمي لـ«الحرس الثوري» كغيره من النواب بعدما صنّفت الولايات المتحدة «الحرس» منظمة إرهابية. وبخلاف بعض النواب الإصلاحيين، كان بزشكيان من المؤيدين للتعاون العسكري الإيراني - الروسي في سوريا.

مع الإصغاء للناسإبان الاحتجاجات التي هزّت إيران أعوام 2017، و2019، و2021، كان بزشكيان جريئاً في طرح المشاكل، منتقداً تجاهل مطالب الشعب، خصوصاً حل الأزمة المعيشية. وأكد على ضرورة الاستماع إلى صوت الناس والاستجابة لاحتياجاتهم. ورأى أن قمع الاحتجاجات وحده ليس الحل، بل يجب معالجة الأسباب الجذرية للاستياء العام، بما في ذلك القضايا الاقتصادية والبطالة والتمييز. وأشار مراراً إلى أن الفساد الإداري على مختلف المستويات قد فاقم الأزمات.

وبشكل عام، يؤمن بزشكيان بالحوار الوطني والإصلاحات التدريجية من خلال الآليات القانونية والسياسية، ومع التأكيد على احترام الحقوق المدنية، فإنه يسعى إلى إيجاد حلول سلمية للأزمات الداخلية. وحقاً، انتقد عدة مرات غياب لغة الحوار في الداخل الإيراني، لكنه نأى بنفسه عن الدعوات الإصلاحية لإجراء استفتاء لحل القضايا العالقة، ولا سيما السياسة الخارجية، ومنها تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة.

رئاسته وتحدياته

مواقف وقاموس بزشكيان النائب لا تختلف اليوم عن تطلعات بزشكيان الرئيس بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، مع استبعاد أن يؤدي انتخابه إلى تغيير في موازين القوى بإيران. ويُذكر أن انتخابه أتى بعد 3 سنوات من رفض طلبه الترشّح للانتخابات الرئاسية في 2021، «لعدم أهليته السياسية» حسب «مجلس صيانة الدستور» حينذاك.

هذا، وكان قد ترشح لأول مرة لانتخابات الرئاسة عام 2013، لكنه انسحب لصالح حسن روحاني. ولكن في المرة الأخيرة، حصل على موافقة «مجلس صيانة الدستور»، في خطوة مفاجئة. وأدى القسم الدستورية يوم 27 مايو بعد أسبوع من مقتل رئيسي. وبعد 63 يوماً، وقف أمام البرلمان (30 يوليو - تموز) لأداء القسم رئيساً للجمهورية.

التوازن بين الولاء والإصلاح

حاول بزشكيان سواء في الانتخابات الرئاسية أو بعد تشكيل الحكومة، تقديم نفسه على أنه يؤمن بالحوار الداخلي، ويدافع عن حقوق المرأة، وعبّر عن انتقاد واضح للتدخلات الحكومية في الحياة الشخصية، والسياسات القمعية، مع التركيز على العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. وتعهّد أيضاً بإخراج إيران من العزلة الدولية، ورفع العقوبات عبر حلّ الأزمة النووية مع الغرب، كما تعهد بإصلاحات هيكلية في الاقتصاد، وإعادة انخراط شبكة البنوك الإيرانية بالأسواق المالية العالمية، عبر قبول قواعد «فاتف». وأظهرت مواقفه أنه يتبنى نهجاً متوازناً يعتمد على الدبلوماسية لتحقيق التنمية الاقتصادية ورفع العقوبات. وفي المقابل، دأب على انتقاد السياسات القائمة على الشعارات التي لا تقدم حلولاً عملية.

لكن بزشكيان واجه انتقادات بأنه لم يقدم حتى الآن أي برنامج أو حلول للقضايا التي أثارها في الانتخابات الرئاسية. ورداً على الانتقادات، تعهد بتعزيز موقع الخبراء في فريقه التنفيذي، وأن يكون أداء حكومته متماشياً مع رؤية خطة التنمية السابعة، وهو برنامج لـ5 سنوات يغطي المجالات كافة، أقرّه البرلمان العام الماضي.

من جهة ثانية، خلال حملته الانتخابية وبعد انتخابه، حرص بزشكيان على إظهار تواضع كبير، سواء في مظهره أو خطابه المعتدل. وحاول تعزيز صورته رئيساً من خلال تبنيه للبساطة والابتعاد عن المغالاة في وعوده، ما يجعل أسلوبه مختلفاً عن كثير من السياسيين الإيرانيين الذين يفضلون التوجهات النخبوية أو الثورية.

أيضاً، اتخذ بزشكيان من «الوفاق الوطني» شعاراً لحكومته، وحذّر من خلافات داخلية تعرقل التآزر الوطني، حتى بعد انتخابه واصل التحذير من عواقب الخلافات على الاستقرار الداخلي، إذ يرى أن الصراعات الداخلية ستقود البلاد إلى مزيد من الفقر والمعاناة تحت العقوبات.

في أي حال، يواجه بزشكيان تحديات داخلية كبيرة، لأن المعسكر الإصلاحي المهمش يسعى لاستعادة تأثيره في الحياة السياسية، رغم خيبة الأمل الشعبية من الإصلاحيين بعد فترات حكمهم السابقة. وهو حتى الآن يدفع باتجاه التوازن بين الولاء الشديد للمرشد علي خامنئي ودعواته للتغيير والإصلاح. وبينما يظهر تمسكاً شديداً بمسار المؤسسة الحاكمة، ويؤكد أهمية المرشد ودوره، يزعم تبني أجندة إصلاحية تهدف إلى معالجة الفجوة بين الشعب والحكام، ما يعكس رغبته في التغيير ضمن إطار النظام الحالي، لا عبر مواجهته المباشرة.

هذه الازدواجية من رئيس يدرك حدود صلاحيات الرئاسة، تحت حكم المرشد، تعكس استراتيجيته للبقاء في المشهد السياسي الإيراني. ومن ثم إحداث تغييرات تدريجية، من دون التعرض للمصالح الاستراتيجية الأساسية التي تسيطر عليها السلطة العليا في إيران.