سيد «الكرملين» القوي يعيد ترتيب أولويات الحرب والسلام

بوتين يدخل ولايته الرئاسية الخامسة في روسيا بتفويض شعبي واسع

تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)
تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)
TT

سيد «الكرملين» القوي يعيد ترتيب أولويات الحرب والسلام

تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)
تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)

لم يعد هناك أدنى شك في أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال تربّعه على عرش «الكرملين» لربع قرن كامل حتى الآن حمل - كما يقول باحثون روس - هاجسي التاريخ والجغرافيا، هاجس التاريخ برز في سعيه الحثيث منذ أطلق في نهاية ولايته الثانية عام 2008 مسار «الثأر من الغرب» لحجز مكانه على صفحات التاريخ إلى جانب اثنين من أبرز القياصرة الروس: المؤسس بطرس الأكبر والإمبراطورة الفاتحة كاترين الثانية. ولم تكن مجرد صدفة أن يكون مدخله إلى التاريخ شبه جزيرة القرم فقد سعى بطرس الأول جاهداً للسيطرة على هذه المنطقة والتمدد على البحر الأسود من خلالها ونجحت كاترين الثانية في ضم شبه الجزيرة للمرة الأولى عام 1783 لتغدو «روسية إلى الأبد» وفقاً للتعبير الذي تستخدمه بكثرة كتب التاريخ القديمة وخطابات الرئيس الحديثة. أيضاً هاجس الجغرافيا كان حاضراً بقوة إذ لا يمكن لروسيا أن تكون «إمبراطورية» دون أوكرانيا. هكذا رسمت حدود البلد في كل منعطفات التاريخ، عندما تخسر روسيا جوارها يتراجع نفوذها بقوة لتغدو دولة إقليمية كبيرة فقط، وليس إمبراطورية عظمى.

قد يكون فلاديمير بوتين، الذي حوّل حرب أوكرانيا إلى مدخل لاستعادة كل أمجاد الماضي، يدرك جيداً، وهو يقف على أعتاب ولاية رئاسية خامسة ستجعله أطول الحكام عمراً على عرش الكرملين منذ قرنين، مغزى العبارة الروسية الدارجة التي تقول إن العالم «قد لا يحب روسيا، ولكنه يجب أن يهابها».

هذه الفلسفة تختصر رؤية الزعيم الروسي لمكانة بلاده وتموضعها في العالم المعاصر، لذا كان لا بد أن يكون الاستحقاق الانتخابي الذي انتهى للتو، حاسماً.

نتيجة حاسمة

حاسماً ليس لجهة فوز بوتين المنتظر والمحسوم سلفاً، بل لجهة تأكيد مكانة وحجم حضور القيصر الروسي الجديد داخلياً وخارجياً. وبالتالي، كان الأهم من الفوز في الانتخابات أن تبلغ نسب الإقبال على الصناديق هذا الحجم الخرافي بالنسبة لبلد أوروبي كبير.

أكثر من 77 في المائة شاركوا في التصويت، وأكثر من 87 في المائة منحوا «الزعيم الأوحد» أصواتهم دون أي شعور بالملل أو الرغبة بالتغيير، بعد مرور ربع قرن على حكمه.

هذا كان الهدف المرجو من الانتخابات، أي أن تتحول إلى استفتاء شعبي كامل؛ ليس على شخص الرئيس فحسب، بل أيضاً على سياساته كلها على الصعيدين الداخلي والخارجي، بما في ذلك على قراراته الصعبة والمؤلمة أحياناً... وعلى رأسها قرار الحرب في أوكرانيا.

والنتيجة المنطقية لذلك، أن بوتين حصل عملياً على تفويض جديد يقوم على شبه إجماع وطني، وهو ما يطلق يديه تماماً لمواصلة نهجه وسياساته، مسلّحاً بجبهة داخلية متماسكة وموحدة وصلبة.

لقد أظهرت الاستحقاقات التي مرت بها روسيا، خلال العامين الأخيرين، أن بوتين بنى رهانات دقيقة إلى حد بعيد. صحيح أن وضع الجبهات لم يكن مرضياً، خلال العام الأول من الحرب في أوكرانيا، وصحيح أن خطط الحسم السريع وإجبار «العدو» على الاستسلام، لم تتحقق وفقاً للخطط الموضوعة، التي قامت على تكرار تجربة اقتطاع أجزاء من جورجيا في عام 2008، ووضع أوروبا والولايات المتحدة أمام أمر واقع جيوسياسي جديد، لكن كل هذا ليس مهماً بالقياس إلى ثبات روسيا من الداخل.

لم تقع الانهيارات الكبرى التي توقّعها الغرب.

ولم تنجح العقوبات في تقويض الاقتصاد الروسي.

وفشلت المعارضة في لعب دور مهم لضرب روسيا من الداخل.

وحتى لم تشهد روسيا انشقاقات كبرى يمكن أن تهزّ صورتها وتزعزع قيادتها، على الرغم من فرار مليون شخص غالبيتهم من أصحاب رؤوس الأموال ومن العقول الفذة في مجالات مختلفة.

على الرغم من ذلك كله، بقيت روسيا «صامدة»، وظل اقتصادها متماسكاً، وذهبت، في منتصف مارس (آذار)، لتجدد البيعة للزعيم القوي.

كيف سيستثمر النصر؟

ولكن ماذا يمكن أن يفعل بوتين بهذا النصر الكبير؟

على الصعيد الداخلي، يضع خبراء احتمالات عدة لتحرك الكرملين، خلال المرحلة المقبلة، كلها تصب في اتجاه البناء على تعزيز تماسك الجبهة الداخلية، ومواجهة أي محاولات لزعزعة الوضع، وهذا حتى لو اضطر بوتين إلى اتخاذ قرارات غير شعبية مثل إعلان تعبئة عسكرية جديدة لخدمة الجبهة.

لا يستبعد معارضون أن يعمد الرئيس، المُعاد انتخابه مجدداً، إلى تعزيز قبضته بقوة باتجاه قمع أي محاولات لإعادة تنظيم صفوف المعارضة أو دفع نشاطاتها، انطلاقاً من فكرة أن الكرملين حرص على تحاشي تصعيد معركته داخلياً قبل الانتخابات، لتجنب وقوع أعمال احتجاجية كبرى. إلا أنه الآن سيجد الفرصة، مع التفويض الشعبي الواسع، للنيل من خصومه الداخليين، وأيضاً منع هؤلاء من عرقلة تحركاته وسياساته على الصعيد الخارجي.

في هذا الإطار يضع هؤلاء تلويح بوتين القوي بأنه سيصار إلى التعامل مع «الخونة» وفقاً لقوانين الحرب؛ أي أن الأصوات المعارضة ستلقى رد فعل مباشراً وقوياً، «كما لو كانت في الميدان»، وفقاً لتعبير أطلقه الرئيس الروسي أخيراً.

لكن هذا المدخل الذي تخشى منه المعارضة لا يبدو جديداً، فبوتين لم يتساهل في أي وقت مع معارضيه، ثم إنه حالياً في أقوى حالاته داخلياً، ولا يحتاج لتدابير إضافية من هذا النوع. وفضلاً عن ذلك كله، فإن بوتين يحتاج إلى مرحلة الهدوء الداخلي لدفع خططه الطموحة التي أعلن عنها، في رسالته أمام البرلمان، قبل أسابيع من الانتخابات. وحينذاك جرى الحديث عن خطط استراتيجية وطنية للنهوض بالقطاعات الصحية والتعليمية والبُنى التحتية والتطوير العسكري ومشاريع عملاقة لرعاية الأمومة والطفل، في مواجهة الأزمة الديموغرافية المستفحلة.

توقع تعديلات حكومية

في هذا السياق، يرى خبراء أن الرئيس بوتين قد يُجري مناقلات وتعديلات في الهياكل الحكومية لدفع برامجه الموضوعة. بيد أنه في الوقت نفسه، لا توجد مؤشرات إلى أن هذه الخطط قد تطول مواقع رئيسة يشغلها أصدقاء الرئيس وحلفاؤه الكبار في وزارات ومواقع حساسة، مثل وزارتي الدفاع والخارجية، وعدد من الشركات الوطنية الكبرى.

أما على صعيد الجبهة في أوكرانيا، فثمة توقعات متشائمة تماماً تقوم على أن بوتين سيعمد إلى استخدام التفويض الشعبي الواسع لتوسيع حجم معركته، ومحاولة إحداث اختراقات كبرى. وفي هذا السياق، من المهم التذكير بأن واحداً من التصريحات الأولى للرئيس، بعد فوزه، كان صادماً في مضمونه، إذ إنه توعّد الأوكرانيين بمواصلة «مفرمة اللحم»، وقال مخاطباً أنصاره: «إذا كانوا (الأوكرانيون) يحبون ذلك بهذه الطريقة، فمن حيث المبدأ يناسبنا؛ لهذا السبب يهاجمون دون تفكير، إنها مثل مفرمة اللحم بالنسبة إليهم، وذلك يناسبنا... دعهم يحاولوا».

وزاد أن بلاده «منفتحة للنظر في أي قضايا مطروحة، ولا نستبعد إنشاء مناطق عازلة لضمان أمن بلادنا». وشكلت هذه العبارة إشارة مهمة إلى توسيع أهداف العمليات الروسية، ولا سيما أنها جاءت رداً على سؤال حول احتمال انتقال العملية العسكرية إلى مدينة خاركيف؛ في محاولة للسيطرة على المناطق المحاذية للحدود الروسية. وبالمناسبة، فإن مطلب توسيع «جغرافيا المعركة» يلقى تأييداً متزايداً من جانب «الصقور» الذين يحيطون ببوتين على المستويين السياسي والعسكري.

لا يستبعد معارضون أن يعمد بوتين إلى تعزيز قبضته بقوة ضد إعادة تنظيم صفوف المعارضة

بوتين يتكلم بعد إغلاق مراكز الاقتراع (رويترز)

التقدم أعمق داخل أراضي أوكرانيا

إلى جانب هذا، يرى خبراء أن الرئيس بوتين قد يواصل العمل للتقدم نحو الهدف المعلَن للعمليات العسكرية؛ وهو إنجاز «تحرير» كل أراضي مدن دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزوباروجيا ومحيطها، لكن الأهداف المباشرة الأكثر ترجيحاً هي دونيتسك التي تسيطر موسكو، بعد مرور سنتين على الحرب، على نحو 60 في المائة من أراضيها فقط، لذلك يضع الخبراء هدفاً أولياً استكمال «تحريرها» ومدن كراسنوجوروفكا وتشاسوف وسيفيرسك وأوغليدار.

من جهة أخرى، بين «السيناريوهات» المطروحة تفجير معركة جديدة نوعياً باتجاه مدينتي نيكولاييف وأوديسا، تهدف، وفقاً لمصادر عسكرية، إلى فرض سيطرة مطلقة على الجزء الجنوبي من أوكرانيا، وحرمان البلاد بذلك من إطلالة على البحر الأسود، بعد حرمانها سابقاً من النفوذ في بحر آزوف، وتحويله إلى بحيرة روسية مغلقة.

هذا الهدف ستكون له أهمية استراتيجية أخرى، لجهة فتح الطريق للوصول إلى منطقة بريدنوستروفيه الانفصالية في مولدوفا، التي تتمركز فيها قوات روسية تدعم الانفصاليين. وترى أوساط روسية أن معركة بريدنوستروفيه «قد اقتربت»، ولا يخفي مسؤولون عسكريون أن هذا الهدف مطروح على الأجندة، وبعضهم يصف الإقليم المولدافي بأنه «الدونباس الجديدة».

إلا أن شروط هذا التطور مرتبطة، بالدرجة الأولى، بحجم الاستعدادات الأوكرانية، وطبيعة الإمدادات الخارجية لهذا البلد من المساعدات العسكرية، فضلاً عن الوضع على الجبهات الأخرى.

«السيناريوهات» التوسعية الخاصة بتحرك بوتين باتت محتملة في ضوء تسلحه بالتفويض الشعبي الواسع الذي يجعله يمسك مفاتيح قراري الحرب وتوسيعها، أو السلم بشروطه. غير أن الاحتمالات الواقعية المطروحة تبدو مرتبطة، بالدرجة الأولى، بمسار المعارك، ومستوى قدرة الغرب على تجاوز خلافاته حول تسليح أوكرانيا، وانتهاج سياسة موحدة تفتح الطريق أمام توسيع المعركة، أو على العكس من ذلك، تجميد الصراع ومحاولة تلمس آفاق للتسوية السياسية.

وهنا يبرز احتمال أول بأن تشهد الجبهات تصعيداً تدريجياً قد يصل إلى ذروته في نهاية الصيف.

وفي المقابل، يقوم الاحتمال الثاني على فكرة أن الطرفين الروسي والأوكراني وصلا إلى خط النهاية، بالنسبة للقدرة على الحسم العسكري. وبالتالي، يمكن لبوتين القوي داخلياً، والذي حقق انتصارات مهمة ميدانياً، خلال الفترة الأخيرة، أن يطلق مسار إعادة فتح قنوات حوار مع الغرب، وإن كانت غير مباشرة، في البداية. ويستند هذا الاحتمال إلى تكرار الكرملين، في الآونة الأخيرة، تأكيد استعداده لحوار مفتوح مع الغرب، على أن يقوم على وضع كل الملفات الخلافية في سلة واحدة، والبدء بمفاوضات تفضي إلى تسوية المشاكل المعقدة بشكل متواز.

أما الاحتمال الثالث - أو الطريق الثالث - أمام بوتين في حال تجنب إطلاق عملية توسيع المعارك، وفشل، في الوقت نفسه، في دفع الغرب إلى إطلاق مفاوضات جادة، فيقوم على «تجميد الجبهات» عند خطوط التماس الحالية بانتظار نضوج الظروف الملائمة لفتح الحوار السياسي.

فيما يخص موسكو، جرى الإعلان عن وضع خطط واسعة لتعزيز الجبهات على طول خطوط التماس، لمنع الجانب الأوكراني من إحداث ثغرات فيها، ويمكن لمثل هذا «السيناريو» أن يعفي بوتين من خطوات غير شعبية؛ مثل الإعلان عن تعبئة عسكرية جديدة، ويصرفه إلى تعزيز الوضع الداخلي، وتقوية الاقتصاد في مواجهة الضغوط الغربية، وتمتين التعاون مع الحلفاء.لكن هذا الأمر مشروط بوقف تقدّم الطرف الآخر أيضاً، والامتناع عن تقديم رُزم واسعة من الأسلحة والمعدات البعيدة المدى التي يمكن أن تؤدي إلى الإخلال في موازين القوى القائمة حالياً.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.