سيد «الكرملين» القوي يعيد ترتيب أولويات الحرب والسلام

بوتين يدخل ولايته الرئاسية الخامسة في روسيا بتفويض شعبي واسع

تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)
تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)
TT

سيد «الكرملين» القوي يعيد ترتيب أولويات الحرب والسلام

تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)
تفويض كبير ... ومتوقع لسيد الكرملين (آ ف ب)

لم يعد هناك أدنى شك في أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال تربّعه على عرش «الكرملين» لربع قرن كامل حتى الآن حمل - كما يقول باحثون روس - هاجسي التاريخ والجغرافيا، هاجس التاريخ برز في سعيه الحثيث منذ أطلق في نهاية ولايته الثانية عام 2008 مسار «الثأر من الغرب» لحجز مكانه على صفحات التاريخ إلى جانب اثنين من أبرز القياصرة الروس: المؤسس بطرس الأكبر والإمبراطورة الفاتحة كاترين الثانية. ولم تكن مجرد صدفة أن يكون مدخله إلى التاريخ شبه جزيرة القرم فقد سعى بطرس الأول جاهداً للسيطرة على هذه المنطقة والتمدد على البحر الأسود من خلالها ونجحت كاترين الثانية في ضم شبه الجزيرة للمرة الأولى عام 1783 لتغدو «روسية إلى الأبد» وفقاً للتعبير الذي تستخدمه بكثرة كتب التاريخ القديمة وخطابات الرئيس الحديثة. أيضاً هاجس الجغرافيا كان حاضراً بقوة إذ لا يمكن لروسيا أن تكون «إمبراطورية» دون أوكرانيا. هكذا رسمت حدود البلد في كل منعطفات التاريخ، عندما تخسر روسيا جوارها يتراجع نفوذها بقوة لتغدو دولة إقليمية كبيرة فقط، وليس إمبراطورية عظمى.

قد يكون فلاديمير بوتين، الذي حوّل حرب أوكرانيا إلى مدخل لاستعادة كل أمجاد الماضي، يدرك جيداً، وهو يقف على أعتاب ولاية رئاسية خامسة ستجعله أطول الحكام عمراً على عرش الكرملين منذ قرنين، مغزى العبارة الروسية الدارجة التي تقول إن العالم «قد لا يحب روسيا، ولكنه يجب أن يهابها».

هذه الفلسفة تختصر رؤية الزعيم الروسي لمكانة بلاده وتموضعها في العالم المعاصر، لذا كان لا بد أن يكون الاستحقاق الانتخابي الذي انتهى للتو، حاسماً.

نتيجة حاسمة

حاسماً ليس لجهة فوز بوتين المنتظر والمحسوم سلفاً، بل لجهة تأكيد مكانة وحجم حضور القيصر الروسي الجديد داخلياً وخارجياً. وبالتالي، كان الأهم من الفوز في الانتخابات أن تبلغ نسب الإقبال على الصناديق هذا الحجم الخرافي بالنسبة لبلد أوروبي كبير.

أكثر من 77 في المائة شاركوا في التصويت، وأكثر من 87 في المائة منحوا «الزعيم الأوحد» أصواتهم دون أي شعور بالملل أو الرغبة بالتغيير، بعد مرور ربع قرن على حكمه.

هذا كان الهدف المرجو من الانتخابات، أي أن تتحول إلى استفتاء شعبي كامل؛ ليس على شخص الرئيس فحسب، بل أيضاً على سياساته كلها على الصعيدين الداخلي والخارجي، بما في ذلك على قراراته الصعبة والمؤلمة أحياناً... وعلى رأسها قرار الحرب في أوكرانيا.

والنتيجة المنطقية لذلك، أن بوتين حصل عملياً على تفويض جديد يقوم على شبه إجماع وطني، وهو ما يطلق يديه تماماً لمواصلة نهجه وسياساته، مسلّحاً بجبهة داخلية متماسكة وموحدة وصلبة.

لقد أظهرت الاستحقاقات التي مرت بها روسيا، خلال العامين الأخيرين، أن بوتين بنى رهانات دقيقة إلى حد بعيد. صحيح أن وضع الجبهات لم يكن مرضياً، خلال العام الأول من الحرب في أوكرانيا، وصحيح أن خطط الحسم السريع وإجبار «العدو» على الاستسلام، لم تتحقق وفقاً للخطط الموضوعة، التي قامت على تكرار تجربة اقتطاع أجزاء من جورجيا في عام 2008، ووضع أوروبا والولايات المتحدة أمام أمر واقع جيوسياسي جديد، لكن كل هذا ليس مهماً بالقياس إلى ثبات روسيا من الداخل.

لم تقع الانهيارات الكبرى التي توقّعها الغرب.

ولم تنجح العقوبات في تقويض الاقتصاد الروسي.

وفشلت المعارضة في لعب دور مهم لضرب روسيا من الداخل.

وحتى لم تشهد روسيا انشقاقات كبرى يمكن أن تهزّ صورتها وتزعزع قيادتها، على الرغم من فرار مليون شخص غالبيتهم من أصحاب رؤوس الأموال ومن العقول الفذة في مجالات مختلفة.

على الرغم من ذلك كله، بقيت روسيا «صامدة»، وظل اقتصادها متماسكاً، وذهبت، في منتصف مارس (آذار)، لتجدد البيعة للزعيم القوي.

كيف سيستثمر النصر؟

ولكن ماذا يمكن أن يفعل بوتين بهذا النصر الكبير؟

على الصعيد الداخلي، يضع خبراء احتمالات عدة لتحرك الكرملين، خلال المرحلة المقبلة، كلها تصب في اتجاه البناء على تعزيز تماسك الجبهة الداخلية، ومواجهة أي محاولات لزعزعة الوضع، وهذا حتى لو اضطر بوتين إلى اتخاذ قرارات غير شعبية مثل إعلان تعبئة عسكرية جديدة لخدمة الجبهة.

لا يستبعد معارضون أن يعمد الرئيس، المُعاد انتخابه مجدداً، إلى تعزيز قبضته بقوة باتجاه قمع أي محاولات لإعادة تنظيم صفوف المعارضة أو دفع نشاطاتها، انطلاقاً من فكرة أن الكرملين حرص على تحاشي تصعيد معركته داخلياً قبل الانتخابات، لتجنب وقوع أعمال احتجاجية كبرى. إلا أنه الآن سيجد الفرصة، مع التفويض الشعبي الواسع، للنيل من خصومه الداخليين، وأيضاً منع هؤلاء من عرقلة تحركاته وسياساته على الصعيد الخارجي.

في هذا الإطار يضع هؤلاء تلويح بوتين القوي بأنه سيصار إلى التعامل مع «الخونة» وفقاً لقوانين الحرب؛ أي أن الأصوات المعارضة ستلقى رد فعل مباشراً وقوياً، «كما لو كانت في الميدان»، وفقاً لتعبير أطلقه الرئيس الروسي أخيراً.

لكن هذا المدخل الذي تخشى منه المعارضة لا يبدو جديداً، فبوتين لم يتساهل في أي وقت مع معارضيه، ثم إنه حالياً في أقوى حالاته داخلياً، ولا يحتاج لتدابير إضافية من هذا النوع. وفضلاً عن ذلك كله، فإن بوتين يحتاج إلى مرحلة الهدوء الداخلي لدفع خططه الطموحة التي أعلن عنها، في رسالته أمام البرلمان، قبل أسابيع من الانتخابات. وحينذاك جرى الحديث عن خطط استراتيجية وطنية للنهوض بالقطاعات الصحية والتعليمية والبُنى التحتية والتطوير العسكري ومشاريع عملاقة لرعاية الأمومة والطفل، في مواجهة الأزمة الديموغرافية المستفحلة.

توقع تعديلات حكومية

في هذا السياق، يرى خبراء أن الرئيس بوتين قد يُجري مناقلات وتعديلات في الهياكل الحكومية لدفع برامجه الموضوعة. بيد أنه في الوقت نفسه، لا توجد مؤشرات إلى أن هذه الخطط قد تطول مواقع رئيسة يشغلها أصدقاء الرئيس وحلفاؤه الكبار في وزارات ومواقع حساسة، مثل وزارتي الدفاع والخارجية، وعدد من الشركات الوطنية الكبرى.

أما على صعيد الجبهة في أوكرانيا، فثمة توقعات متشائمة تماماً تقوم على أن بوتين سيعمد إلى استخدام التفويض الشعبي الواسع لتوسيع حجم معركته، ومحاولة إحداث اختراقات كبرى. وفي هذا السياق، من المهم التذكير بأن واحداً من التصريحات الأولى للرئيس، بعد فوزه، كان صادماً في مضمونه، إذ إنه توعّد الأوكرانيين بمواصلة «مفرمة اللحم»، وقال مخاطباً أنصاره: «إذا كانوا (الأوكرانيون) يحبون ذلك بهذه الطريقة، فمن حيث المبدأ يناسبنا؛ لهذا السبب يهاجمون دون تفكير، إنها مثل مفرمة اللحم بالنسبة إليهم، وذلك يناسبنا... دعهم يحاولوا».

وزاد أن بلاده «منفتحة للنظر في أي قضايا مطروحة، ولا نستبعد إنشاء مناطق عازلة لضمان أمن بلادنا». وشكلت هذه العبارة إشارة مهمة إلى توسيع أهداف العمليات الروسية، ولا سيما أنها جاءت رداً على سؤال حول احتمال انتقال العملية العسكرية إلى مدينة خاركيف؛ في محاولة للسيطرة على المناطق المحاذية للحدود الروسية. وبالمناسبة، فإن مطلب توسيع «جغرافيا المعركة» يلقى تأييداً متزايداً من جانب «الصقور» الذين يحيطون ببوتين على المستويين السياسي والعسكري.

لا يستبعد معارضون أن يعمد بوتين إلى تعزيز قبضته بقوة ضد إعادة تنظيم صفوف المعارضة

بوتين يتكلم بعد إغلاق مراكز الاقتراع (رويترز)

التقدم أعمق داخل أراضي أوكرانيا

إلى جانب هذا، يرى خبراء أن الرئيس بوتين قد يواصل العمل للتقدم نحو الهدف المعلَن للعمليات العسكرية؛ وهو إنجاز «تحرير» كل أراضي مدن دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزوباروجيا ومحيطها، لكن الأهداف المباشرة الأكثر ترجيحاً هي دونيتسك التي تسيطر موسكو، بعد مرور سنتين على الحرب، على نحو 60 في المائة من أراضيها فقط، لذلك يضع الخبراء هدفاً أولياً استكمال «تحريرها» ومدن كراسنوجوروفكا وتشاسوف وسيفيرسك وأوغليدار.

من جهة أخرى، بين «السيناريوهات» المطروحة تفجير معركة جديدة نوعياً باتجاه مدينتي نيكولاييف وأوديسا، تهدف، وفقاً لمصادر عسكرية، إلى فرض سيطرة مطلقة على الجزء الجنوبي من أوكرانيا، وحرمان البلاد بذلك من إطلالة على البحر الأسود، بعد حرمانها سابقاً من النفوذ في بحر آزوف، وتحويله إلى بحيرة روسية مغلقة.

هذا الهدف ستكون له أهمية استراتيجية أخرى، لجهة فتح الطريق للوصول إلى منطقة بريدنوستروفيه الانفصالية في مولدوفا، التي تتمركز فيها قوات روسية تدعم الانفصاليين. وترى أوساط روسية أن معركة بريدنوستروفيه «قد اقتربت»، ولا يخفي مسؤولون عسكريون أن هذا الهدف مطروح على الأجندة، وبعضهم يصف الإقليم المولدافي بأنه «الدونباس الجديدة».

إلا أن شروط هذا التطور مرتبطة، بالدرجة الأولى، بحجم الاستعدادات الأوكرانية، وطبيعة الإمدادات الخارجية لهذا البلد من المساعدات العسكرية، فضلاً عن الوضع على الجبهات الأخرى.

«السيناريوهات» التوسعية الخاصة بتحرك بوتين باتت محتملة في ضوء تسلحه بالتفويض الشعبي الواسع الذي يجعله يمسك مفاتيح قراري الحرب وتوسيعها، أو السلم بشروطه. غير أن الاحتمالات الواقعية المطروحة تبدو مرتبطة، بالدرجة الأولى، بمسار المعارك، ومستوى قدرة الغرب على تجاوز خلافاته حول تسليح أوكرانيا، وانتهاج سياسة موحدة تفتح الطريق أمام توسيع المعركة، أو على العكس من ذلك، تجميد الصراع ومحاولة تلمس آفاق للتسوية السياسية.

وهنا يبرز احتمال أول بأن تشهد الجبهات تصعيداً تدريجياً قد يصل إلى ذروته في نهاية الصيف.

وفي المقابل، يقوم الاحتمال الثاني على فكرة أن الطرفين الروسي والأوكراني وصلا إلى خط النهاية، بالنسبة للقدرة على الحسم العسكري. وبالتالي، يمكن لبوتين القوي داخلياً، والذي حقق انتصارات مهمة ميدانياً، خلال الفترة الأخيرة، أن يطلق مسار إعادة فتح قنوات حوار مع الغرب، وإن كانت غير مباشرة، في البداية. ويستند هذا الاحتمال إلى تكرار الكرملين، في الآونة الأخيرة، تأكيد استعداده لحوار مفتوح مع الغرب، على أن يقوم على وضع كل الملفات الخلافية في سلة واحدة، والبدء بمفاوضات تفضي إلى تسوية المشاكل المعقدة بشكل متواز.

أما الاحتمال الثالث - أو الطريق الثالث - أمام بوتين في حال تجنب إطلاق عملية توسيع المعارك، وفشل، في الوقت نفسه، في دفع الغرب إلى إطلاق مفاوضات جادة، فيقوم على «تجميد الجبهات» عند خطوط التماس الحالية بانتظار نضوج الظروف الملائمة لفتح الحوار السياسي.

فيما يخص موسكو، جرى الإعلان عن وضع خطط واسعة لتعزيز الجبهات على طول خطوط التماس، لمنع الجانب الأوكراني من إحداث ثغرات فيها، ويمكن لمثل هذا «السيناريو» أن يعفي بوتين من خطوات غير شعبية؛ مثل الإعلان عن تعبئة عسكرية جديدة، ويصرفه إلى تعزيز الوضع الداخلي، وتقوية الاقتصاد في مواجهة الضغوط الغربية، وتمتين التعاون مع الحلفاء.لكن هذا الأمر مشروط بوقف تقدّم الطرف الآخر أيضاً، والامتناع عن تقديم رُزم واسعة من الأسلحة والمعدات البعيدة المدى التي يمكن أن تؤدي إلى الإخلال في موازين القوى القائمة حالياً.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».